تاريخ كنسيّ
المواهبيّة في الكنيسة الأولى
طوني عبده
مقدّمة
المواهبيّة أو χαρίσματικοι باليونانيّة مشتقّة من كلمة χάρισμα، أي موهبة أو عطيّة (gift of grace) التي تجمع في ذاتها كلمتين؛ χάρις من جهة وπνεῦμα من جهة أخرى، إلى درجة أنّ هذا الاتّحاد اللغويّ يظهر أو يعبّر عن ذاته في إعلانات يحرّكها روح القدس تدعى χαρίσματα، أو مواهب(١). انطلاقًا من أهمّ المقاطع البيبليّة التي تأتي على ذكر هذا الأمر، سنحاول تحديد ما يُعرف بالمواهبيّة. تاليًا نرى أنّ كلمة χαρίσματα تحمل معنى الهبات الشخصيّة(٢). إضافةً نرى أنّ المواهب الروحيّة كما ترد في (1كورنثوس 12، 14)، هي إمكانيّة يهبها الربّ لمن يريد. وتاليًا هي عطيّة إلهيّة لا يتحكّم فيها الإنسان إنّما الربّ، فهو من يُظهر هذه المواهب التي اختبرت فيها الجماعة المسيحيّة الناشئة حضور الروح القدس بعد صعود المسيح والعنصرة (أعمال 10:13، 11).
سأحاول نسبة إلى عدم وفرة الموادّ التي تحيط بهذا الموضوع، تعقّب كيفيّة نموّ المواهبيّة، وخصوصًا موهبة النبوءة، ودراسة وضعها في الفترة الممتدّة بين أواخر القرن الأوّل ومطلع القرن الثالث. وذلك بالعودة إلى الكتابات التي ظهرت في هذه الحقبة والتي تعاطى معها الدارسون في ما بعد على أنّها أهمّ المصادر لاستشفاف حالة الكنيسة شرقًا وغربًا.
أوّلاً: المواهبيّة بحسب الذيذاخي:
ظهر السنة 1873 في مكتبة الدير الأورشليميّ في القسطنطينيّة كنز يحوي تعليم الرسل الاثني عشر أو ما يُعرف بالذيذاخي. بعد عشر سنوات قام المطران Philotheus Bryennius بنشره فاستفاد منه أغلب الدارسين. بعد تحقيقات وبحوث عدّة حول مكان هذا الكتاب وكيفيّة كتابته وبلوغه إلى الوضع الذي هو عليه، ورغم تعدّد النظريّات، يُرجّح أنّ الكتاب كُتب في سوريا في النصف الثاني من القرن الأوّل. ما جعله من أهمّ الكتب على الإطلاق.
تتعلّق أهمّيّة الذيذاخي بالنسبة إلى موضوعنا بما يُورد الكتاب عن الأشخاص الذين خدموا في الجماعة الموجّه إليها، فيعطينا انطباعًا بأنّ كنيسة أنطاكية كانت معروفة بمواهب الروح القدس، وهذا يتوافق مع ما يرد في سفر الأعمال، «وكان في أنطاكية في الكنيسة هُناك أنبياءُ ومُعلّمُون» (أعمال 1:13). وتاليًا يمكننا القول بأن الوضع لم يتغيّر كثيرًا. بالعودة إلى الفصل العاشر الآية السابعة من كتاب الذيذاخي(٣). يعتبر الدارسون استنادًا إلى ذكر الكتاب لكلمة προφήται أنّ موهبة النبوءة لاتزال حاضرة لدى جماعة الذيذاخي. كما يقدّم كاتب الذيذاخي موقفًا داعمًا للأنبياء، ويطلب عدم فحصهم والحكم عليهم(٤). وفي الوقت عينه هو يعلّمهم كيفيّة التمييز بين الأنبياء الكذبة والأنبياء الملهمين من اللَّه. وذلك عبر فحص سلوكهم(٥) ومدّة إقامتهم كضيوف التي يجب ألاّ تتعدّى اليومين(٦) وإلاّ فهو كاذب. إذًا، نستنتج أنّ للذيذاخي موقفًا معتدلاً إزاء الأنبياء، وأنّ كنيسة سوريا أوجدت طرائق لحماية نفسها من الأنبياء الكذبة. وكلّ هذا يعكس رغبة كنيسة أنطاكية في وجود الأنبياء وفي الوقت عينه الحذر من الأنبياء الكذبة. من ناحية أخرى، يدرس كاتب الذيذاخي العلاقة بين المواهبيّين والأساقفة المنتخبين. «انتخبوا لأنفسكم أساقفة وشمامسة... لتأدية خدمة الأنبياء والمعلّمين»(٧). إذًا بالإضافة إلى الأعمال التدبيريّة التي للأسقف والشمّاس هناك دور نبويّ يقومون به. فالأسقف وبالإضافة إلى دوره الإداريّ والتدبيريّ هو صوت اللَّه بين المؤمنين.
ثانيًا: المواهبيّة بحسب القدّيس كليمنضس الروميّ:
من الشرق ننتقل إلى قلب الأمبرطوريّة الرومانيّة، إلى القدّيس كليمنضس الروميّ. هو الأسقف الثالث على روما بحسب التقليد. نظرًا إلى المشاكل التي نشأت في كورنثوس أرسل رسالة بغية إرساء السلام. يأتي كليمنضس على ذكر المواهب عبر تقديمه وصفًا لكيفيّة وجوب تصرّف المسيحيّين في الكنيسة. وهو يعبّر عن وجهة نظره عبر إقامة مقابلة بين الكنيسة والجسم البشريّ. فيعتبر أنّ الرأس هو لا شيء بدون القدمين والعكس صحيح. كما أنّ أعضاء الجسم البشريّ لا تعمل بمعزل عن بعضها البعض كذلك أعضاء الكنيسة. تاليًا يحثّ كليمنضس المؤمنين على إرساء السلام عبر إقامة وحدة تكوّن المواهب (χαρίσματι) المعطاة مركزها(٨). يتّفق هذا التعليم تمامًا مع ما يورده بولس الرسول في (رومية 6:12، 1كورنثوس 7:7)، بأنّ المواهب أعطيت مجّانًا لأجل خدمة الجماعة، وتجد معناها ضمن الكنيسة. أبعد من ذلك، علينا الانتباه إلى دور هذه المواهب. الموهبة تجد معناها في الخدمة، وهذا ما يشدّد عليه كليمنضس، أي تكريس المواهب لخدمة الآخر(٩).
هذا التشابه بين فكر كليمنضس وبولس الرسول مهمّ جدًّا. المواهب الروحيّة بالنسبة إلى كليمنضس تعني الشيء ذاته بالنسبة إلى بولس الرسول. وهذا شاهد مهمّ على أنّ المواهب الروحيّة كانت موجودة في رومية نحو أواخر القرن الأوّل. وتاليًا، نستشفّ أنّ المواهب كانت واسعة الانتشار في القرن الأوّل حيث إنّ قسمًا كبيرًا من المسيحيّين كان خريزماتيكيًّا بالمعنى الصحيح للكلمة.
ثالثًا: المواهبيّة بحسب القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ:
القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ هو الأسقف الثاني على أنطاكية بعد بطرس الرسول. سيق من سوريا إلى روما ليُرمى للوحوش بسبب شهادته للمسيح. كتب سبع رسائل بين العامين 98 و 117م في طريقه إلى الاستشهاد في روما.
تُظهر بعض المقاطع أنّ القدّيس إغناطيوس كانت لديه، على الأرجح، موهبة النبوءة. في الرسالة إلى بوليكاربوس أسقف سميرنا، يحثّ إغناطيوس على طلب استعلان الأمور غير المنظورة كيلا ينقصه شيء، ويزخر بالعطايا الروحيّة(١٠). أيضًا في الرسالة إلى الفيلادلفيّين، يتوجّه إليهم بصوت مرتفع، بصوت اللَّه. كذلك يُعلن أنّ «الروح القدس هو من أعلن له قائلاً: لا تعملوا من دون الأسقف...»(١١). تاليًا نستنتج أنّ القدّيس إغناطيوس كان يتكلّم نبويًّا، يتكلّم بصوت عالٍ، بصوت اللَّه. يرى F.A. Schilling (١٢) أنّ هذا التوجّه النبويّ قويّ جدًّا عند القدّيس إغناطيوس ويستشهد بمواقع عدّة(١٣) أنّ القدّيس تلقّى العديد من الإعلانات. ويُعلّق معتبرًا أنّ القدّيس إغناطيوس يعتبر نفسه نبيًّا رغم عدم قوله ذلك صراحةً.
الحدث أنّ إغناطيوس كان نبيًّا-أسقفًا هو مهمّ لسببين: الأوّل، يظهر أنّ المسيحيّين في سوريا وفي آسيا الصغرى كانوا معتادين أو على ألفة مع ما يتعلّق بامتلاك المواهب الروحيّة. علاوة على ذلك، إن كان إغناطيوس قد تكلّم كنبيّ في فيلادلفيا، فعلى الأرجح أنّه خدم كنبيّ في مدينته الأمّ أنطاكية. فهو لا يُظهر أنّه قام بشيء غريب في فيلادلفيا، إنّما كان ذلك بالنسبة إليه كروتين. ثانيًا، هو مهمّ أيضًا بالنسبة إلى وضع الإكليروس في كنيسة المسيح. فهو يعتبر أنّ الأسقف هو من يُتّحد في شخصه سلطة الأسقف وشغف النبيّ، ويشدّد على أنّه هو المرجعيّة بغضّ النظر عن مواهبيّته ويدعوهم إلى الالتفاف حوله. فهو النموذج بامتياز الذي زاوج في شخصه بين الأسقفيّة والمواهبيّة، في فترة ابتدأ فيها المؤمنون يشكّكون في دور الأسقف، وابتدأت تنشأ جماعات تعطي الأولويّة للمواهبيّة على الأسقفيّة، وتاليًا على الكنيسة.
المواهبيّة بحسب الراعي هرماس:
دارت نقاشات عدّة حول كم من مراجعةٍ تعرّض أو كم كاتبٍ مرّ على تعديل أو كتابة الراعي. بالإضافة إلى أنّ هويّة هرماس ودوره في كنيسة روما طرحا العديد من التساؤلات. سنتوقّف عند هذا الكتاب لأنّه يحوي موادّ ربّما تشير إلى استمرار وجود موهبة النبوءة في هذه الفترة. هناك العديد من الرؤى التي يعتبر هرماس أنّها أُوحيت له. لكن هناك موقعان يقول هرماس إنّه أُمر بنقل هذه الرؤية إلى العامّة(١٤). هنا هرماس لا يسمّي نفسه نبيًّا لكن على الأرجح أنّه كان يقوم بهذا الدور. لكن هل هو نبيّ بحسب معاني العهد الجديد والنماذج التي سبق أن فصّلناها.
يعتبر Ronald Kydd(١٥) أنّه إذا قابلنا مفهوم النبوءة عند هرماس مع (1كورنثوس 12: 14) ومع خبرة القدّيس إغناطيوس في فيلادلفيا، نشعر مباشرة بالفرق. فالبساطة والوضوح في موادّ الكتاب المقدّس ورسائل القدّيس إغناطيوس يستبدلها هرماس بموادّ أكثر تعقيدًا. رغم وجود أوجه شبه بين رؤيا بطرس(١٦) ورؤيا هرماس إلاّ أنّه لا يزال هناك فرق شاسع. كما يضيف مشيرًا إلى أنّ رؤى هرماس أكثر تكرارًا وأوسع من رؤيا بطرس، فيعتبر أنّ رؤيا هرماس هي، على الأرجح، أكثر خصوصيّة. وهذا ما يرفضه القدّيس كليمنضس الروميّ، معتبرًا أنّ النبوءة تكون ضمن الجماعة وللجماعة. يعالج أيضًا كتاب الراعي مسألة من هو النبيّ الحقّ والنبيّ الكذّاب(١٧) ويشير ملاك التوبة، المرسل من الراعي إلى هرماس، إلى وجود أنبياء كذبة وأنبياء أصحّاء. ثمّ يعطي هرماس جوابًا عن سؤاله حول كيفيّة التمييز بين النبيّ الكاذب والمحقّ(١٨). سؤال الراعي هذا يقدّم صورة تعكس مشاكل عصره وهي على الأرجح انتشار الأنبياء الكذبة. كذلك يعتبر H. B. Sweet(١٩) أنّه إذا كان هناك نقاش عن كيفيّة التمييز بين الأنبياء الكذبة والمحقّين، إذًا، هذا دليل على حضور النبوءة في كنيسة روما ربّما في العقد الرابع أو الخامس من القرن الثاني. يقدّم النصّ أيضًا توصيفًا عن كيفيّة التنبّؤ(٢٠)، فالنبوءة تتمّ ضمن الجماعة وتكون موجّهة إليها وليس إلى فرد، وذلك بعد أن يمتلئ النبيّ من الروح القدس.
المواهبيّة بحسب القدّيس يوستينوس الشهيد:
لا نعرف الكثير عن حياته، كلّ ما نعرفه وباختصار، أنّه عاش كشابّ فيلسوف يبحث عن الحقيقة. وعندما وجدها، انتقل من نظام فلسفيّ معيّن إلى الفلسفة الحقيقيّة، أي المسيحيّة. في الواقع، عندما انتقل إلى روما أسّس مدرسة علّم فيها المسيحيّة على أنّها الفلسفة الوحيدة المفيدة والآمنة. أصبح النموذج بامتياز للآباء المدافعين. مات كشهيد بين العامين 162-168م.
يحظى القدّيس يوستينوس بموقعٍ مميّز بين كتّاب القرون الأولى عندما يتعاطى مع المواهب الروحيّة. لم يبق يوستينوس عند حدود نقل الخبرة عن المواهب إنّما تعدّاها إلى مستوى التعليم عنها. ما قاله نستخلصه عبر حواره مع المعلّم اليهوديّ تريفن. أثناء حواره مع تريفن وفي الفصل التاسع والثلاثين، يردّ القدّيس يوستينوس على الكُره الذي كان يكنُّه اليهود للمسيحيّين. هذا الكُره الناتج من تحوّل العديد من اليهود إلى المسيحيّة، حيث أصبحت أعداد المسيحيّين الذين من أصل يهوديّ كبيرة جدًّا. يُظهر القدّيس يوستينوس أنّ هؤلاء امتلكوا مواهب كثيرة. فبعضهم أخذ روح فهمٍ، آخرون روح مشورةٍ، قوّةً، شفاءً، معرفةً، تعليمًا، مخافة اللَّه. من المهمّ هنا مقابلة أنواع المواهب التي يقدّمها يوستينوس والتي يقدّمها بولس الرسول في (رومية 6)، و (1كورنثوس 8:12-11). وتاليًا نلاحظ أنّ هناك تشابهًا واختلافًا. هناك موهبتان، التعليم والشفاء، مشتركتان بين يوستينوس وبولس. بعض التشابه أيضًا موجود بين مواهب أخرى، ككلمة حكمةٍ وكلمة معرفةٍ في (1كورنثوس 8: 12)، وهناك العديد من العناصر التي تجعلنا نعتبر أنّ بولس ويوستينوس يتكلّمان على الشيء ذاته.
المقطع الثاني المهمّ بالنسبة إلى هذه الدراسة هو أوّل الفصل الثاني والثمانين. هنا يقطع يوستينوس الحوار على تريفن ليؤكّد أنّ موهبة النبوءة لا تزال حاضرة بين المسيحيّين. ويشدّد على أنّ المواهب انتقلت من اليهود إلى المسيحيّين. هذا الانتقال الذي يجد ذروته في شخص المسيح، فهو من نقلها إلى المسيحيّين. وأنّه في مواقع عدّة من حواره مع تريفن يستند إلى المواهب الروحية وكأنّها جزء من الكنيسة في زمانه. تاليًا نجد أنّ المواهبيّة كانت لا تزال حاضرة في منتصف القرن الثاني.
المونتانيّة:
بالعودة إلى موادّ في مقاطع عدّة من أوسابيوس، نستطيع تحديد زمن ظهور هذه الحركة بعد السنة 170م. ما يهمّنا هنا من المونتانيّة هي خبرتها في فهم المواهب الروحيّة. وذلك عبر إمعان النظر في موهبة النبوءة عند المونتانيّين. نبدأ بدراسة الظروف التي للنبيّ المونتانيّ أثناء التنبّؤ، وذلك استنادًا إلى ما يورده القدّيس إيبيفانيوس ردًّا على المونتانيّة. فيوازي بين النبيّ والقيثارة وأنّ اللَّه يعمل عبر رجلٍ نائمٍ، ليس هو من يحدّد مضمون رسالته أو يخطّط لأعماله إنّما اللَّه، فهو من يحدّد متى وماذا يقول، وهذا دليل على أنّ المونتانيّة هي حركة يكون فيها النبيّ هو سيد نفسه، وكأنّ له سلطانًا من ذاته. هذا ما حاول القدّيس إيبيفانيوس الردّ عليه مؤكّدًا أنّ النبيّ يتكلّم بصوت اللَّه .
كلّ هذه المقاطع تشدّد على أهمّيّة دور اللَّه وأنّه هو من يتكلّم فعلاً وليس النبيّ (passiveness of the prophet). هذا ما حاول التشديد عليه الآباء المدافعون في القرن الثاني لمواجهة أيّ انحرافٍ في استعمال المواهب.
المواهبية بحسب القدّيس إيريناوس أسقف ليون:
ما نزال في النصف الثاني من القرن الثاني، ولكن الآن ننتقل إلى داخل الكنيسة إلى أسقف قدّم معلومات ليست بقليلة عن حياة المسيحيّين الروحيّة في أواخر القرن الثاني. قبل أن ندرس المواهب بحسب القدّيس إيريناوس علينا أوّلاً وبشكل أساس أن نرى أهمّيّة هذا الشخص وموقعه ومن هو حقيقة. نبدأ أوّلاً بالقول بأنّنا لا نعرف بشكل دقيق متى وُلد ومتى مات. ولكن على الأرجح أنّه وُلد في آسيا الصغرى، يُقال إنّه تتلمذ على يد بوليكاربوس، أسقف سميرنا في شبابه. ولكنّه أمضى أغلبيّة حياته في بلاد الغال، فرنسا اليوم، التي كانت تابعة للأمبرطوريّة الرومانيّة. لا نعرف متى هاجر ولكنّه انضمّ إلى رعيّةٍ في جنوب شرق فرنسا، حيث كانت هناك جالية شرقيّة كبيرة. ثمّ ظهر ككاهن في السنة 177م في كنيسة ليون. طبعُه الجدّيّ والقياديّ جعله أسقفًا على ليون بعد استشهاد بوثينوس. كلّ هذا جعل من إيريناوس على معرفة بأوضاع كنيسة عصره في كلّ الأنحاء، في الشرق والغرب، ما اعطاه نظرة أكثر شموليّة ممّا هي مناطقيّة. عندما أصبح أسقفًا كرّس نفسه للدفاع عن العقيدة الحقّ التي للكنيسة.
أمّا في ما يختصّ ببحثنا هذا، وبالعودة إلى ما يُورده أوسابيوس القيصريّ في كتابه تاريخ الكنيسة عن القدّيس إيريناوس، الذي يشير إلى أنّه لا تزال هناك قوّة إلهيّة حاضرة، فهناك العديد ممّن يقيمون الأموات. ثمّ يضيف، أنّ ابن اللَّه وهب باسمه النعمة (χάριν) لتلاميذه من أجل خير المؤمنين. فالبعض يُخرج الشياطين وآخرون يعلمون المستقبل، ويرون رؤى، ويتنبّأون. آخرون أيضًا، يشفون المرضى بوضع الأيدي. أيضًا يعتبر القدّيس إيريناوس أنّه من غير الممكن إحصاء المواهب (χαρισμάτων). فيزيد أنّ عددًا من الإخوة في الكنيسة امتلكوا مواهب نبوءة، ويتكلّمون بالروح القدس بلغات عدّة، يُظهرون عبرها خفايا الإنسان ويشرحون أسرار اللَّه عند الحاجة. اللائحة التي يقدّمها إيريناوس تشبه وبوضوح تلك التي في (رومية 12، و1كورنثوس 12) . أيضًا في كتابه ضدّ الهراطقة، وفي سياق حديثه عن الكمال الروحيّ، يعدّد القدّيس إيريناوس بعض المواهب التي قبلها الإخوة في الكنائس من بينها مواهب نبوءة (προφητικα χαρίσματα). يؤكّد إيريناوس هنا على أهمّيّة دور الروح القدس في النبوءة ودور النبيّ في الجماعة في فترة كثُرت فيها الادّعاءات والانحرافات في فهم المواهبيّة.
خاتمة
بعد تتبّعنا تقريبًا ما يقارب ثلاثة قرون، من المدهش أن نرى أنّ مجموعة صغيرةً من الصيّادين أثرت على مرّ قرونٍ في العالمين اليونانيّ واللاتينيّ. فالكنيسة نمت وبطريقة مذهلة في الحجم والقوّة والتأثير. وعندما نسعى وراء إيجاد تفسيرٍ لهذا الأمر، علينا العودة إلى الجليليّ نفسه، إلى حياته الإلهيّة التي تكلّلت بانتصاره على الموت. فبعد صعوده أرسل روحه القدّوس كحافظٍ لهذه الحقيقة، أي أنّه تجسّد وتألّم وصُلب وقام من أجلنا نحن البشر. هذا الروح الإلهيّ الذي كان ولايزال وسيبقى يفعل في الكنيسة عبر مواهبَ تُعطى لكلّ واحد حسب حاجة الجماعة من أجل خدمة الكلمة. وتاليًا ليست المواهب سوى عطيّةٍ من اللَّه يهبها لمن جاهد وتنقّى وذلك لخدمة الكنيسة، على عكس بعض الحركات المعاصرة، التي تعيدنا إلى تلك الانحرافات التي واجهها آباء الكنيسة، والتي تعتبر المواهب أو تُظهرها على أنّها حصيلة مجهودٍ بشريٍّ أو طاقةٍ سحريّة. فالمواهبيّة ليست ظاهرة مادّيّة تحرّك الأحساسيس والمشاعر، بل هي عطيّة إلهيّة يمنحها الربّ لمن يراه أهلاً لها. هذه هي المواهب (χαρίσματα) التي نشرت البشارة وشدّدت المضطهدين وأقامت الموتى وشفت المرضى، هذا هو عمل الروح القدس الذي لا يزال يعصف في الكنيسة عبر أشخاصٍ تزيّنوا بمواهب، حافظًا للحقّ ومقدّسًا للجماعة. n