تأمّل
الإنسان الأخلاقيّ
إلياس عادل توما
حين تقرأ عنوانًا مثل هذا العنوان «الإنسان الأخلاقيّ»، فأنت من دون شكّ ستبحث، مطوّلًا وبكثير من الصدق، عن معنى هذا العنوان في حياتنا الحاليّة؛ لأنّ كلمة «إنسان» وحدها كفيلة بالتأمّل بعمق.
في زمن العولمة صار تغييب مفهوم الإنسان ككائن على «صورة اللَّه ومثاله» أمرًا واضحًا، بل يبدو أنّ السعي في هذا التغييب ماض إلى ما هو أبعد وأكثر من ذلك بكثير، إذ إنّ مبادئ الأخلاق في تهاوٍ متسارع كتهاوي حجارة الدومينو.
إذا عدنا بالزمن إلى أوان تجسد الربّ واتّخاذه الجسد البشريّ لخلاصنا، حيث أسّس هذا الحدث الخلاصيّ لتكوين ثقافة «الخلق الإنسانيّة» بمفهومها اللاهوتيّ؛ ومنذ ذلك الحين أيضًا تماشى الأمر مع تأسيس الشرّ لمفهوم «اللاأخلاق الإنسانيّة» بأبعادها غير الكنسيّة، لتظهر أمامنا صور أدباء وفلاسفة كتبوا وتحدّثوا عن الإنسان وعن ماهيّة الفكر البشريّ النبيل والجميل؛ وهذا أمر جيّد.
توالت السنون، وخاض الإنسان هذه التجربة بمجهر أكبر، وبزغ فجر النظريّات الفلسفيّة وعلم النفس، وبدأ العمل لتحليل خبايا النفس البشرية وتصرّفات الإنسان بإلحاح كبير. أتت نتائج هذه الدراسات لترجع كلّ تصرّفات الإنسان إمّا إلى سلوكيّات عائليّة، أو إلى عقد نفسيّة ناتجة من صدامات أو مشاكل أو تجارب وما إلى ذلك، وأعاود القول بأنّ هذا جيّد وجميل!
ولكن! أين أنت يا إلهي؟ لماذا غُيّب اللَّه وأُبعدت لمسته المبلسمة للروح وسط كلّ هذه التحليلات والدراسات؟ لماذا أُبعدت فضائل اللَّه المؤسّسة لتكويننا الأخلاقيّ؟ أسئلة كثيرة لا يلحظها إلّا من أراد اكتساب الأخلاق الكنسيّة عبر النعمة الممنوحة من اللَّه بالمعمودية، والتي لبسناها بالميرون، وتكلّلنا بها بحمامة الروح غير المنظورة.
على أرض الواقع البشريّ نجد تعريف «الأخلاق» بأنّها منظومة قيم تجلب الخير وتطرد الشرّ، وفقًا للفلسفة الليبراليّة، وهي ما يتميّز به الإنسان عن غيره. كما قيل إنّها شكل من أشكال الوعي الإنسانيّ، ومجموعة من القيم والمبادئ التي تحرّك الأشخاص والشعوب كالعدالة والحرّيّة والمساواة وغيرها، والتي تعتبر أيضًا مرجعيّة ثقافيّة وسندًا قانونيًّا تستقي منه الشعوب والدول الأنظمة والقوانين. هكذا تبحّر الإنسان عبر الزمن ليعطي الفكر الفلسفيّ أبعادًا أخرى للخير والشرّ وفق دراسة معياريّة تهتمّ بالقيم المثلى، وتصل بالإنسان إلى الارتقاء عن السلوك الغريزيّ بمحض إرادته الحرّة.
لنسلط الضوء قليلًا على رأي بعض الفلاسفة البارزين والمؤثّرين في العلوم البشريّة. بالنسبة إلى أفلاطون، تتمثّل الأخلاق في كبح شهوات الإنسان، والتسامي فوق مطالب الجسد، وذلك بالالتفات إلى النفس والروح، وتوجيههما نحو تحصيل الخير والمعرفة ومحاربة الجهل. أمّا أرسطو، فيرى أنّ الأخلاق مرتبطة بسعادة الإنسان التي هي غاية وجوده، فيعرّفها على أنّها الأفعال الناتجة من العقل، من أجل الخير الأسمى.
بناءً على ما سبق، نجد أنّ مفهوم الإنسان الأخلاقيّ يُبنى على أسس مجتمعيّة بحتة، فهو المخلوق المسيّر مهما تحدّثوا عن الحرّيّات؛ مسيّر بحسب نظم وقوانين تراعي الهيئة العامّة والشكل العامّ للمجتمع الاستهلاكيّ. واستخدام مصطلح «الاستهلاكيّ» في معرض كلامي على المجتمع، يأتي من أنّ المجتمع اليوم يسعى إلى تفريغ الإنسان من صورة اللَّه، تحت عنوان الأخلاق الزائف، ويسعى إلى تجريده من كونه مخلوقًا للخلاص، نعم للخلاص.
إنّ طبيعة الحياة المعاصرة في المجتمع قد غيّبت حقيقة الخلاص، وغيّبت مفهوم المحبّة، وحقيقة حضور الملكوت المعاش منذ لحظة الولادة، فلا تمرّ أيّة فرصة من دون أن تُرمى أمام الجميع أسئلة تتعلّق بما بعد الموت، ومطالبة بإثبات إيماننا بالحياة مع المسيح بعد الانتقال من هذه الأرض الفانية. والأمر الأخطر، هو استبدال بمصطلح «النجاة»، مصطلح «الخلاص» ليرسّخ في الذهن البشريّ صورة الحياة على أنّها «معركة»، فانتشرت جميع مصطلحات «المعركة» عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ كافّة، وصارت عناوين مبطّنة في الإعلام، وشعارًا أساسيًّا لمؤسّسات هوليوود، عدا عن الانتشار الرهيب للألعاب الإلكترونيّة التي تعلّي القتل والحروب والمعارك. إضافةً إلى ذلك، اندثر مفهوم المحبّة الإنجيليّة تمامًا، وانمحى وجوده أمام قوّة الواقع والإنسان الواقعيّ العمليّ، وحلّتْ مكانه تعاملات المصلحة والشهوة والمنفعة.
وبنظرة خصوصيّة إلى شعوبنا في هذا المشرق، وبعد كلّ ما حلّ بالمنطقة، نجد أنّ مفهوم الإنسان الأخلاقيّ ينطلق بشكل أساس من معايير التربية الأسريّة، وهو في أفضل الأحوال يستند إلى معيار ألواح موسى الحجريّة (لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، ...). وهنا لا بدّ من السؤال: ما هو مفهوم القتل؟ وما هو مفهوم الزنى؟
لا شكّ في أنّ هذه المفاهيم اتّخذت لها قناعًا آخر في ظلّ الشرور الأرضيّة، فنجد في الحروب مثلًا تقديسًا واضحًا للقاتل ومحاولةً دائمة لإظهاره بصورة البطل. وصارت كلمة «الحبّ» مرافقة لفعل الزنى، إذ نشاهد في معظم الأفلام الأجنبيّة المصطلح الشهير «هيّا، لنمارس الحب». وحتّى السرقة أمستْ مبرّرةً، والرشوة هي «تسيير أمور» و«شطارة». من هذا المنطلق، انطبعت في الأذهان صورة «الإنسان الأخلاقيّ» على أنّه إنسان حسن المظهر، ومبتسم وودود، وبكلام آخر حسب المصطلحات الشعبيّة «آدميّ»؛ والحقيقة غالبًا أنّ هذه «الآدميّة» وهذا المفهوم الغالب لـ «الأخلاق»، يبقيان النفس البشرية مشوّهةً بعيدةً عن ميناء الخلاص، ويظهران الإنسان كومة لحم بلا روح وبلا هويّة، ويظهرانه رقمًا فقط على لوائح الحياة، ويكشفانه تائهًا فارغًا من إنسانيّته، وأنانيًّا يلهث وراء المال والسلطة.
أمام هذا الواقع الأليم، يأتي دور كنيستنا الأنطاكيّة في حمل هذا الإنسان التائه والمثقل بالهموم والآلام، كما فعل يسوع حينما حمل العالم منذ سقوط آدم إلى يومنا هذا. والوضع الطبيعيّ هو أن تبادر كنيستنا باتّجاه الإنسان، لأنّ باب الخلاص ضيّق، والطريق صعبة، كما يقول الكتاب (متّى7: 13-14). والأصعب هو خوض كلّ إنسان صراعًا مع إنسانه العتيق، حتّى لا يحول هذا الصراع من دون أن يسمح للإنسان الجديد بالحياة بالمسيح؛ وبنعمة الربّ، ومع احتضان كنيستنا المحبّة بكلّ مؤسّساتها للإنسان، يبدأ الإنسان بالمضي قدمًا في الطريق.
والخطوة الأولى: «في البدء كان الكلمة» (يوحنّا 1: 1)، مع الكلمة تبدأ الطريق عندما تثقّف الكنيسة الإنسان المسيحيّ بدءًا من بوّابة الخلق، مسلّطةً الضوء على أهمّيّة العهد القديم، ليكون قاعدة إيمانيّة راسخة يبنى عليها الإنسان الجديد المجبول من تراب، والمنثور عليه روح اللَّه لتظهر فيه جمال صفات اللَّه وروعة الخلق كلّه.
وأمّا الخطوة الثانية: «باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل» (جامعة 1: 2)، فتكمن في تعليم الكنيسة لكلّ إنسان كيف يتجرّد من أنانيّته المتستّرة بوشاح «ما ملكت أيمانكم» لتمسي يمينه غير عارفة بما تفعل شماله، وكيف يتجرّد من حبّه للدنيويّات لتقف عجلة السرقة والرشوة والشهوة، كيف يدرك حقيقة الصلاة الربّانيّة «خبزنا الجوهريّ أعطنا اليوم، واترك لنا ما علينا». عندها، سيدرك أنّ الحياة علّمتنا أنّ الاغتصاب هو فقط لملكوت الربّ الجميل، حيث المشتهى.
المشكلة التي قد لا تنجح الكنيسة في الهروب منها هي الاستمرار والمتابعة، فالبنيان الأخلاقيّ لا تقف عجلته عن الدوران والتقدّم بتسارع ملحوظ، لذا من المفروض أن تضبط الكنيسة تسارع هذه العجلة، والحلّ يكون بقراءة العهد الجديد، وتعليم الإنسان كيفيّة إسقاط تعاليمه على مفاصل الحياة اليوميّة، وتعليمه أيضًا أنّ التوبة هي أساس الاستمرار والنمو، وأنّها زينة الفضائل التي سيتسربل بها في لقائه مع الختن في العرس الكبير.
مع تتابع الخطوات والعيش بمقتضى الكلمة الإلهيّة، سيسعى كلّ إنسان إلى أنْ يظهر «الأخلاق» كما تعلّمها من يسوع، وأنْ يظهر أيضًا أنّ السامريّ هو الصالح، وأنّ المرضى كثر والمستشفى قريب، وأنّ الأرغفة الخمس ستتكاثر، وأنّ السمكات الثلاث ستصبح ثلاثين وأكثر ببركة الربّ، وبالنعمة الإلهيّة التي للناقصين تكمّل. بهذه النعمة يقبل كلّ إنسان سرّ الشكر الالهيّ لتظهر فيه مواهب الروح القدس، وتنمو بعمق أكثر في روحه الصالحة وقلبه النقيّ المتجدّد في أحشائه. بهذه النعمة سيدرك أنّ المسيحيّين قوم قياميّون، وأنّ أخلاقهم مبنيّة على الكلمة الإلهيّة، وسيصل في النهاية فاتحًا يديه ومتّشحًا بإكليل الشوك، ومحتملًا كلّ مذمّة وإهانة، ليماثل بذلك سيّده على خشبة العمر.
الأخلاق الكنسيّة حياة وسلوك منفتح على الكلّ، ويقبل الكلّ، ويعمّد الخطيئة بماء الروح القدس. الأخلاق الكنسيّة تتجاوز الفساد والموت كمفاهيم أرضيّة، وتهيّئنا للمشاركة في الحياة الأبديّة، وبغير ذلك نكون أناسًا تقليديّين أمواتًا ونحن في الحياة، ويمسي الكون باردًا ومظلمًا.
ختامًا، إنّ محور حياتنا على الأرض هو الملكوت، وفي هذه الدنيا سنعاني ونخوض تجارب عدّة، وسنمرّ كلّنا بنفق الخطيئة القذر، وستتلطّخ ثيابنا بقذارتها، وسنخرج إلى فناء لنعود مرّة أخرى إلى نفق جديد، ونتلطّخ من جديد. لذا، ليس الحلّ إلّا عبر المرور في هذا النفق، طالما أنّنا نجهل البوصلة، مصمّمين في الوقت عينه على ألّا تعتاد حواسّنا «اللاأخلاق»، ومؤمنين بأنّه حينما نتمسّك بالبوصلة سنبتعد حتمًا عن كلّ ما يمسّ حواسّنا من قذارة وقباحة، وسنحمي بنيان الخلق فينا من التلوّث والانحدار؛ أمّا في المنعطفات فعلينا أن نكون أكثر مرونة في التعاطي مع الوسط المحيط بنا لننمّي عندنا ومعهم ثقافة النبل الكنسيّ، وأن نكون أكثر مطاوعةً في اتّخاذ أشكال الأماكن وألوانها عندما نُرغم على البقاء في أنفاق تمسّ وجداننا وضميرنا من دون المساس بهيكليّتها وجودة بنيانها، مدركين أنّه من الممكن أن نعطي لهذا المكان بأخلاقنا معنى جوهريًّا ثمينًا. بغير هذا المفهوم ستجرفنا سيول هذا النفق، وسنستسلم للتعاطي مع الخطيئة بسذاجة وتبلّد غير مفهوم، وسنجهل الدرب المؤدّية إلى الفناء الجميل، لأنّنا عشنا إنساننا الأخلاقيّ لا بالنبل الكنسيّ وإنّما بالدنيويّ.n