تحقيق
أرتساخ تاريخ وتراث
لولو صيبعة
جمهوريّة أرتساخ
أرتساخ، أو ناغورني قره باغ، جمهوريّة غير معترف بها، تقع في مرتفعات قره باغ جنوب القوقاز. تبعد نحو 170 كيلومترًا عن باكو عاصمة أذربيجان، وهي قريبة جدًّا من الحدود الأرمينيّة.
مرتفعات ناغورني قره باغ دولة حبيسة تحدّها شمالًا وشرقًا أذربيجان، وغربًا أرمينيا وجنوبًا إيران. معظم السكّان مسيحيّون ينتمون إلى الكنيسة الرسوليّة الأرمينيّة. وهناك أيضًا بعض الطوائف الأرثوذكسيّة الشرقيّة والإنجيليّة، مع أقلّيّات من المسلمين واليهود.
كما ذكرنا الأكثريّة أرمنيّة مسيحيّة ما جعل المنطقة معرّضة للصراع بين أذربيجان وأرمينيا استمرّ بين 1988 و1994، وتجدّد مؤخرًا وكانت نتيجته خسارة أرتساخ لصالح أذربيجان.
ماذا تعني تسمية هذه الجمهوريّة؟
- ناغورني كلمة روسية تعني الجبال.
- قره باغ: الحديقة السوداء، أي حديقة الجبال السوداء
- أمّا أرتساخ فتتألّف من آر نسبة إلى آرا إله الشمس عند الأرمن القدامى، وتساخ هي الغابة أو الكرمة، إذًا هي كرمة الإله آرا.
أرتساخ منطقة غنيّة بتراثها المسيحيّ فهي بفضل موقعها القريب من أرمينيا اعتنقت الدين المسيحيّ باكرًا، وكما نعلم فأرمينيا هي أوّل دولة اقتبلت المسيحيّة كدين رسميّ. خلال هذا التقرير نلقي نظرة على أديار أرتساخ وتاريخها المجيد.
أبرشيّة أرتساخ:
هي إحدى أكبر أبرشيّات الكنيسة الرسوليّة الأرمينيّة، أنشئت العام 1989 وتمتدّ سلطتها على جمهوريّة أرتساخ ومقرّها في مدينة شوشا. من كنائسها: فانكار من القرن السابع، كنيسة القيامة 1621، كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان 1818، كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان 1881، كنيسة المخلّص 1888، كنيسة الصعود 1998، كنيسة الشهداء القدّيسين 2002، كنيسة والدة الإله 2002، كنيسة القدّيس أنطونيوس 2009، كنيسة القدّيس جاورجيوس 2011، كنيسة والدة الإله 2012، كنيسة القدّيس جاورجيوس 2012.
جولة بين أديرة أرتساخ:
نبدأ هذه الرحلة بدير أماراس:
يقع دير أماراس قرب بلدة سوس، وكان مركزًا دينيًّا وثقافيًّا بارزًا في أرمينيا خلال القرون الوسطى. وبحسب مؤرّخي تلك الحقبة فوستوس بيوزند وموسى كاغانكافاتسي فإنّ القدّيس غريغوريوس المنوّر(١) هو الذي بنى هذا الدير مطلع القرن الرابع. وأماراس هو المكان الذي دفن فيه حفيد القدّيس غريغوريوس المنوّر أي القدّيس غريغوريس ( 338).
في مطلع القرن الخامس ميسروب ماشتوتس، مخترع الأبجديّة الأرمينيّة، أسّس في الدير أوّل مدرسة استخدمت هذه الأبجديّة.
في القرن الثالث عشر قصف المغول الدير ونُهب العام 1387 خلال هجوم تيمورلنك. دمّر ثانية في القرن السادس عشر، إلّا أنّه خضع لإعادة بناء في الربع الثاني من القرن السابع عشر، وشيّدت آنذاك الأسوار الدفاعيّة.
هُجر الدير لاحقًا، وفي النصف الأوّل من القرن التاسع عشر شكّل حصنًا حدوديًّا للقوّات الأمبراطوريّة الروسيّة.
استعادت الكنيسة الأرمينيّة الدير العام 1848، وتبيّن أنّ الكنيسة أصيبت بأضرار جسيمة خلال الاحتلال العسكريّ الروسيّ، ما استدعى بناء كنيسة جديدة على أنقاض الكنيسة المتداعية، وكرّست على اسم القدّيس غريغوريس العام 1858، ودفع تكاليفها أرمن مدينة شوشا.
دير غاندزاسار
يعود تاريخ هذا الدير إلى القرن الثالث عشر، وهو يقع على جبل ارتفاعه 1،270 مترًا جنوب غرب فانك، من هنا تسميته جبل الكنز. كنيسته من أهمّ الكنائس في المنطقة وإحدى أجمل أنماط الهندسة الكنسيّة الأرمينيّة.
شيّدها بين 1216 و 1238 حسن جلال الدولة الأمير الأرمنيّ على مقاطعة خشن(٢)، وكرّست في 22 تمّوز 1240 في عيد تجلّي الربّ بحضور 700 كاهن. اشتهرت بزخرفتها الغنيّة التي استعملت فيها الفضّة والمعادن الأخرى.
أصبح الدير كرسيًّا للكنيسة الأرمينيّة في نهاية القرن الرابع عشر. وفي القرن السادس عشر غدا تابعًا لكاثوليكوسيّة إيتشميادزين.
منذ نشأة الدير كان مركزًا للتعليم ونسخ المخطوطات. وبحسب مصادر معاصرة في العام 1700 كانت سلطة بطريرك غاندزاسار تمتدّ على 900 بلدة تقطنها مئات العائلات المؤلّفة من التجّار والفلّاحين.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر غدا الدير مركزًا للتحرير الذي دعا إليه ملوك أرتساخ(٣) الذين التفّوا حول الكاثوليكوس يساي حسن جلاليان، الذي كان مواليًا للسلطات الروسيّة. وقد طلب من القيصر بطرس الأكبر حماية المسيحيّين. وفي العام 1800 استولت الأمبراطوريّة الروسيّة على المنطقة بعد معاهدة غوليستان. وفي العام 1836 ما عاد الدير مركزًا للكاثوليكوسيّة وانتقل الكرسيّ إلى شوشا، فهجر الدير وتداعت الأبنية في أواخر القرن التاسع عشر.
في العام 1930 أغلقت السلطات السوفياتيّة الأديرة والكنائس. ولكن في العام 1989 أعيد إنشاء أبرشيّة أرتساخ وعيّن لها رئيسًا الأرشمندريت بارغيف مارتيروسيان. وبفضل جهوده أعيد افتتاح الدير بعد ستّة أشهر من الترميم، فكانت كنيسته هي الأولى التي افتتحت بعد سنوات من القمع.
بين 1988 و1994 خلال الحرب التي شنّتها أذربيجان دُمّر جزء كبير من الدير بهدف القضاء على التراث الأرمينيّ في قره باغ. لكن بعد الحرب أعيد الترميم مرّة أخرى بفضل المحسن ليفون هيرابتيان أحد أبناء منطقة فانك، واستمرّت الأعمال من 2000 إلى 2002. تتضمّن أبنية الدير الكنيسة والقلالي ومقرّ الأسقف وغرفة الطعام والمدرسة ومدافن الأساقفة والكهنة والرهبان والنبلاء. يعتبر الدير مثالًا للهندسة الكنسيّة الأرمينيّة التي اشتهرت بين القرنين العاشر والثالث عشر.
دير تزيتزرنافانك
كنيسة أرمينيّة من القرنين الخامس والسادس، كانت سابقًا ديرًا في مقاطعة كاشاتاغ يقع على بعد خمسة كيلومترات عن حدود مقاطعة سيونيك الأرمينيّة. يروي التقليد أنّ رفات القدّيس جاورجيوس حُفظ فيها. سابقًا كان الدير ينتمي إلى أبرشيّة تاتيف، وذُكر على أنّه مركز ثقافيّ ودينيّ مميّز في القرن الثالث عشر بحسب المؤرّخ ستيفانوس أوربليان والأسقف توفما فاندكتسي العام 1655.
في العام 1613 رمّم سور الدير وبنيت بوّابة مقنطرة. أمّا الكتابة التي تسجّل هذه المعلومة فاختفت بين 1989 و1992 خلال الحرب مع أذربيجان. رمّمت الكنيسة مع الجرسيّة العام 1779. واختفت أيضًا الكتابة التي تسجّل هذا الترميم في العام 1967.
بنيت الكنيسة على ثلاث مراحل إذ كانت أوّلًا بازيليك مستطيلة من دون حنية وشيّدت بين القرنين الخامس والسادس ويرجّح أنّها كانت هيكلًا وثنيًّا. في المرحلة الثانية أضيفت الحنية من دون نافذة وكان ذلك على الأرجح في القرن السادس. وفي المرحلة الثالثة استبدلت بأعمدة حجريّة تلك الأعمدة الخشبيّة وذلك بين أواخر القرن السادس ومطلع القرن العاشر.
دير داديفانك
دير في كالباجار بُني بين القرنين التاسع والثالث عشر، شيّده القدّيس دادي تلميذ الرسول تدّاوس الذي بشّـر بالمسيحيّة في أرمينيا الشرقيّة خلال القرن الأوّل. ورد ذكر هذا الدير أوّل مرّة في القرن التاسع.
في العام 1994 بعد انتهاء الحرب أعيد افتتاح الدير، وفي العام 2004 بدأ ترميم الأبنية بفضل المحسنة أديل هوفننيان وانتهت الأعمال العام 2005. أمّا الكنيسة الصغيرة فرمّمها إديك أبراهميان الأرمنيّ من طهران.
في آب 2017 حضر اختصاصيّون من إيطاليا لاستكمال ما قاموا به سابقًا من ترميم الدير والجداريّات، على أن تنتهي الأعمال العام 2020. لكن بسبب الحرب هذه السنة والتي انتهت بوقف لإطلاق النار وانسحاب الأرمن من داديفانك وتسليم المنطقة إلى أذربيجان، قرّر رئيس داديفانك نقل مقتنيات الدير الثمينة إلى أرمينيا ومنها الأجراس والخاتشكارات(٤).
الشعب الأرمنيّ، أوّل أمّة اعتنقت الدين المسيحيّ، واجه قرونًا من الاضطهاد وخطر الإبادة على يد الأعداء المجاورين. ولكن بإيمان ثابت بيسوع المسيح كانت قيامة هذا الشعب مرّة بعد مرّة. لكن للأسف، على مدى الزمن، خسر هذا الشعب عددًا لا يحصى من الأماكن المقدّسة، من كنائس وأديرة ومدافن وأوانٍ كنسيّة ومخطوطات ومحفوظات تشهد على عراقته، ومعها اختفى جزء كبير من التراث المسيحيّ العالميّ.
واليوم إحدى آخر المناطق المهمّة في تراث الأمّة الأرمنيّة يتعرّض للدمار. إنّها أرتساخ التي عاش فيها الشعب الأرمنيّ آلاف السنين وهي تتلقّى الضربة تلو الضربة، ويموت السكّان من جرّاء القصف الأذربيجانيّ الهمجيّ، ويهاجر آخرون تاركين خلفهم إرثًا عظيمًا مكوّنًا من نحو 4000 صرح تاريخيّ. لذا من الواجب إطلاق نداء إلى كلّ المحافل الدوليّة والمنظّمات التي تُعنى بالتراث لبذل أقصى الجهود في سبيل حماية هذا التراث الإنسانيّ العريق، بخاصّة وأنّ قسمًا من أرتساخ سُلّم إلى أذربيجان ويُخشى تدمير الكنائس والأديرة أو تحويلها إلى أماكن عامّة.
خاتمة
الكنيسة الرسوليّة الأرمنيّة بحقّ هي كنيسة الشهداء بامتياز، وكأنّه لم تكفها مجازر العام 1915 والحروب المتتالية مع أذربيجان واحتلال المغول والتتار. افرحي وتهلّلي فأجرك عظيم في السماوات، فدماء الأبرياء التي أهرقت على مدى العصور ستشفع لك يوم القيامة.n