2020

6. قدّيسون - العظيم في الشهداء جيورجيوس اللابس الظفر - إيمّا غريّب خوري – العدد الخامس سنة 2020

قدّيسون

 

العظيم في الشهداء جيورجيوس

اللابس الظفر

إيمّا غريّب خوري

 

في حياة القدّيس جيورجيوس تختلط سيرته أحيانًا بين الحقيقة والأسطورة! وهو بلا شكّ من أبرز قدّيسي الكنيسة وأقربهم إلى عواطف المؤمنين، وأكثرهم شهرة وشيوعًا في الإكرام الذي تقدّمه له عامّة الناس. الكثير من المسيحيّين يتسمّون باسمه أكثر من أيّ اسم آخر من القدّيسين، كما أنّ كنائس لا عدّ لها  في أماكن شتّى في الشرق والغرب كرّست على اسمه واتّخذته شفيعًا لها. توجد مصكوكات معدنيّة وذهبيّة وميداليّات تحمل رسمه، كما توجد صلبان برونزيّة من القرن التاسع ميلاديّ تجعله في أعلاها رافعًا يديه يصلّي، كما كثرت الأيقونات التي ترسمه.

ماذا نعرف عن حياته؟

ولد في مقاطعة كبادوكيا في تركيا الحاليّة، خلال النصف الثاني من القرن الثالث، وحدّد البعض أنّه ولد العام 280. والده الأمير أنسطاسيوس كان حاكم «ملاطية»، وهي مدينة في تركيا مركز محافظة الإقليم الرومانيّ لأرمينيا. والبعض يرجّح أنّه ولد في مدينة «اللد» في فلسطين مسقط رأس والدته ثيوبستي ابنة ذيونيسيوس حاكم اللد. فلمّا رزق الزوجان بولد سمّي جيورجيوس. اهتمّ والده بتربيته والتزامه الآداب والأخلاق المسيحيّة المستقيمة، ولقّنه العلوم الكنسيّة واللاهوتيّة والقوانين. تعلّم اللغة اليونانيّة التي كانت في عصره لغة الثقافة. وطبعًا أجاد الفروسيّة التي كانت مفخرة ذاك الزمن وتميّز فيها حتّى ذاع صيته في مختلف أرجاء المنطقة.

كان الفارس جيورجيوس، وهو اسم يونانيّ يعني الحارث أو الجبليّ، كما يبدو في الأيقونات، وسيم الطلعة، فيّاض الحيويّة، عالي القامة مفتول العضلات، رياضيًّا يحبّ التنقّل على حصانه الأبيض بكلّ فخر، حليق اللحية كما كانت العادة في البلاد الرومانيّة في أيّامه. كان أبواه مسيحيّين من أصحاب الغنى والشهرة الاجتماعيّة ومقرّبين من البلاط الأمبراطوريّ. دخل في سلك الجنديّة وهو في السابعة عشرة من عمره، أحبّه الأمبراطور ذيوكليثيانوس وأدخله في فرقة الحرس الملكيّ ثمّ رقّاه وجعله قائدًا لألف جنديّ. اشتهر في الحروب وانتصر في الحملات العسكريّة حتّى لقّب باللابس الظفر وتميّز بشجاعته وعنفوانه.

انتصاره في الحروب 

كان جيورجيوس ينتمي إلى عائلة مسيحيّة تقيّة، فوالده أنسطاسيوس كان يرافق الأمبراطور في أسفاره وفيها اطّلع على حقيقة ديانته المسيحيّة، فأمر الأخير بقطع رأسه. وكان جيورجيوس في تلك الحقبة لا يتجاوز الرابعة عشرة من العمر. بعد استشهاد الوالد، أخذت ثيوبستي ابنها وذهبت إلى اللدّ (ذيوسبوليس) موطنها الأصليّ ولها فيه أملاك وافرة.

علم حاكم «ملاطية» الجديد بهذا الشابّ جيورجيوس وفروسيّته، فأرسل بطلبه وبعث به إلى الأمبراطور الرومانيّ ذيوكليثيانوس الذي حكم بين 284 و 305، في حقبة شهدت اضطهاد المسيحيّين بشكل واسع. زوّد الحاكم جيورجيوس برسالة يوصي فيها الأمبراطور بترقيته. أُعجب الأمبراطور بالقادم إليه ومنحه لقب أمير وخصّص له راتبًا شهريًّا ضخمًا، كما ورد في السنكسار الذي يروي سير القدّيسين، وأعطاه ألف جنديّ ليكونوا تحت أمرته فصار بحسب تلك الوظيفة «تريبونس» 
«Tribun» أي قائد الألف، كما عيّنه حاكمًا على مقاطعات عدّة وسجّل اسمه في ديوان الأمبراطوريّة مع العظماء، وأهداه حصانًا ناصع البياض ممتازًا ونادر الوجود. وهكذا وصل جيورجيوس إلى أعلى قمّة من المجد الدنيويّ، وبعودته إلى فلسطين استقبله حاكمها بحفاوة وتكريم.

لمّا بلغ العشرين من العمر، توفّيت والدته التي كان يحبّها كثيرًا وتركت في قلبه ذكرى طيّبة رغم حزنه، جعلته يكمل مسيرته مثابرًا على الإيمان المسيحيّ رغم الجوّ المضطرب باضطهاد المسيحيّين.

وفي الوقت عينه تميّز في المعارك والحروب حتّى لقّب باللابس الظفر. أمّا الأمبراطور فاستمرّ باضطهاد المسيحيّين وأصدر أوامره بإجبارهم على عبادة الأوثان. ومن يرفض منهم يُقتل على الفور. حزن القدّيس جيورجيوس ودخل على الحاكم غاضبًا ومزّق المنشور الذي وُزّع على الشعب في ساحة المدينة. عندئذ حاول ذيوكليثيانوس أن يغريه بالوعود الخلاّبة والترقية إلى أعلى المراتب وبإغداق الأموال عليه إذا تخلّى عن دينه. لكنّ القدّيس جيورجيوس رفض هذا كلّه بحزم. ونتيجة ذلك غضب منه الأمبراطور وأمر بتعذيبه فاقتيد إلى السجن المظلم. فأوثق الجند رجليه بالحبال ووضعوا على صدره حجرًا ضخمًا لكي يقطعوا الهواء عن رئتيه، وضربوه بالسياط والحراب حتّى فقد وعيه وتركوه مطروحًا على الأرض. أمّا هو فكان يصلّي. وفي اليوم التالي أخذوه إلى الأمبراطور آملين أن يكون التعذيب قد غيّر رأيه. إلّا أنّ القدّيس ظهر أمام الأمبراطور أكثر جرأة وأشدّ صلابة وتحدّيًا. فأمر هذا بإعادة تعذيبه ثانية. فوضعه الجنود على دولاب كلّه مسامير ثمّ أخذوا يديرون الدولاب بعنف حتّى تمزّق جسده وتشوّه وجهه وسال الدم من كلّ جسمه. احتمل القدّيس هذه المشقّات كلّها بصبر عجيب لأنّه سمع صوتًا سماويًّا يشجّعه ويقوّيه قائلًا له: “يا جيورجيوس لا تخف فإنّي أنا بجانبك”. فتشدّدت عزيمته وخرج من تلك الآلة الجهنّميّة وكأنّ شيئًا لم يحدث، وفي الحال شفيت جراحه.

ومرّة أخرى أخذه العسكر إلى الأمبراطور وما أن رآه حتّى تولّاه الذهول والذعر، إذ وجده سليم الجسم كامل القوّة، فزاد غضبه وأمر الجند بصوت جهوريّ بإعادته إلى السجن وتعذيبه مجدّدًا. وهكذا كان، فضربه الجند بالسياط وصبّوا على جسمه المقدّس كلسًا حيًّا ممزوجًا بالقطران ومحلول الكبريت على جراحه فالتهبت وزادت آلامه فوق طاقة البشر. ومع هذا تحمّل بصبر وكانت شفتاه تمتمان الصلوات والمزامير. أخيرًا ظهر له المسيح وشفاه وطمأنه بأنّه لن يتركه وحده بل سيرافقه على طريق جلجلته.

صباح اليوم التالي، دخل عليه الجنود فذهلوا إذ رأوه يصلّي ووجهه يضيء كالشمس من دون أيّ أثر لكلّ الآلام التي تكبّدها. فسيق إلى الأمبراطور الذي لمّا رآه ثانية احتار بأمره واتّهمه بالسحر. فأرسل بطلب ساحر ماهر ومشهور. وعندما رأى الساحر جيورجيوس ناوله كأس ماء بعد أن وضع فيها عقاقير فتّاكة تقتل كلّ من يشرب منها على الفور. ثمّ أخذ يقرأ عليها بعض التعاويذ الشيطانيّة، وقدّمها للقدّيس آمرًا إيّاه بأن يشربها. أخذ القدّيس الكأس ورسم عليها إشارة الصليب وشرب الماء التي فيها، فلم ينله أيّ مكروه إنّما ظلّ منتصبًا باسمًا. حاول الساحر العمليّة ثانية ووضع في الكأس سمومًا شديدة المفعول، إلّا أنّه هذه المرّة طلب تقييد يدي القدّيس حتّى لا يتمكّن من رسم إشارة الصليب على الكأس. لكنّ جيورجيوس حرّك رأسه فوق الكأس بطريقة رسم فيها إشارة الصليب فم ينله أيّ ضرر على الإطلاق.

صبر الأمبراطور حتّى ضاق صدره، وازداد قسوة وهمجيّة، فأمر بصنع عجلة كبيرة مزوّدة  بمنجل وأطواق وسيوف حادّة. لكنّ جيورجيوس لم يخف عند مشاهدته تلك العجلة بل أخذ يصلّي بحرارة لكي ينجّيه اللَّه منها، ويساعده على تحمّل تلك التجربة القاسية.  وُضع القدّيس داخل هذه الآلة الجهنّميّة فانسحقت عظامه سحقًا وتناثر لحمه إربًا وانفصلت أعضاء جسمه عن بعضها البعض. عندئذ صاح الأمبراطور مخاطبًا رجال مجلسه قائلًا: «أين الآن إله جيورجيوس لماذا لم يأت ويخلّصه منّي»؟ ثمّ أمر جنوده بإلقاء أشلاء القدّيس في بئر عميقة كيلا يستطيع أنصاره أن يأتوا إليه. فظهر السيّد المسيح مع ملائكته وأقام القدّيس من الموت وأعاده إلى الحياة سالمًا.

في الصباح التالي أُدخل جيورجيوس إلى مجلس الأمبراطور فذهلوا لرؤية القدّيس معافى. حينئذ جمع الأمبراطور الأقطاب والشعب في الساحة العامّة، وأمر القدّيس بأن يقدّم للآلهة العبادة الوثنيّة فرفض. ثمّ وقف أمام الصنم الكبير وسأله: «أفصح إن كنت الإله الحقيقيّ»، فأجابه بصوت مزمجر: «الإله الحقيقيّ هو الذي تعبده أنت، ونحن لسنا سوى ملائكة عصاة تحوّلنا إلى شيّاطين». وفي الحال سقط الصنم الكبير على الأرض وتحطّمت كلّ الأصنام التي كانت معه.

غضب الأمبراطور بعد هذه الحادثة، فأمر بقطع رأس جيورجيوس وانتشر صيت استشهاده وجرأته النادرة في كلّ أرجاء الأمبراطوريّة، وكان ذلك في 23 نيسان 303. وحضر خادمه سوقراطيس مع مجموعة من أصدقاء القدّيس ونقلوا جسده الطاهر من مكان استشهاده وأخفوه مؤقّتًا. ونُقل في ما بعد إلى مدينة اللد العام 323 ووضع في الكنيسة التي شيّدها على اسمه الأمبراطور قسطنطين الكبير (274-337). بيّنت الدراسات أنّ رفاته وزّع في ما بعد على أديرة وكنائس في أماكن شتّى شرقًا وغربًا، كاليونان وفلسطين وقبرص والعراق ومصر وغيرها. وبقي ذكره وطلب شفاعته راسخين من جيل إلى جيل، وتكثر عجائبه مع المؤمنين حتّى إنّ الأخوة المسلمين يكرّمونه ويسمّونه الخضر. أمّا خليج بيروت الذي سمّي باسمه فيروى أنّ المغارة بجانبه كانت عرين التنّين الذي صرعه جيورجيوس.

 

الأيقونات

1- أيقونة خشبيّة من رسم ميخائيل مهنّى القدسيّ، ديرالمخلّص للروم الكاثوليك، جون، جنوب لبنان، تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

2- أيقونة بهيّة بدقّتها وألوانها وخطوطها، مصدرها جزيرة كورفو اليونانيّة تعود إلى بدء القرن الثامن عشر. خشبيّة ذهبيّة الخلفيّة ذوّبت ألوانها بصفار البيض. تشير ملامح وجه القدّيس إلى وجه فتيّ جميل الطلعة، يمتطي حصانه الأبيض مصوّبًا رمحه إلى فم التنّين المنفتح.

3- أيقونة للرسّام نعمة المصوّر ترقى إلى العام 1701. نرى في الوسط الفارس جيورجيوس محاطًا بصويرات دقيقة تروي قصّة حياته واستشهاده.

4- أيقونة من مطلع القرن السادس عشر تنتمي إلى المدرسة الكريتيّة وهي نسخة عن أيقونة موجودة في متحف «بيناكي» في أثينا اليونان. نلاحظ أنّ التنّين هنا يلفّ ذنبه على قدم الحصان. نرى أيضًا على ردف الحصان الأسير الذي حرّره القدّيس من الجزائر وأعاده إلى أمّه في جزيرة لسبوس اليونانيّة. هذه إحدى عجائب القدّيس جيورجيوس الكثيرة. وفي تفاصيل هذه الحادثة أنّ القراصنة كانوا يختطفون الأولاد المسيحيّين ويبيعونهم كأسرى. وهذا الفتى الذي خلّصه القدّيس من براثن سيّده كان يصلّي للقدّيس جيورجيوس ويطلب إليه أن يعتقه من العبوديّة. كان يصلّي بحرارة وإيمان فهبّ القدّيس لنجدته بسرعة وانتشاله من عذابه، فنزل عن الحصان وحمله وأجلسه وراءه على ردف الحصان وسلّمه إلى أمّه في لسبوس. كان القدّيس يعلم كم كان هذا الفتى البريء يتألّم في وظيفته كساقٍ لسيّده، ولذلك نراه حاملًا إبريقًا خاصًّا بالخمر. كان جيورجيوس الذي يقرأ الأناجيل قد وقع حتمًا على مقطع من إنجيل متّى (18: 6): «من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له أن يعلّق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجّة البحر».

أشهر أيقونات القدّيس جيورجيوس هي تلك التي ترسمه فارسًا وسيم الطلعة يمتطي حصانه الأبيض مصوّبًا حربته نحو التنّين الرهيب. ماذا نعرف عن هذا الحيوان؟ استنادًا إلى معلومات وردت في السنكسار نذكر ما يلي: في كبادوكيا بالقرب من نبع ماء كان يستقي منه السكّان كان تنّين رهيب يفرض على الناس أن يرسلوا إليه فريسة هي فتاة وإلّا لا يسمح لهم باستقاء الماء من النبع. افترس هذا التنّين الرهيب كلّ الفتيات اللواتي أُرسلن إليه حتّى وصل الدور أخيرًا إلى ابنة الملك التي أتت إلى جلّادها وهي ترتجف خوفًا. ولكن في الوقت عينه ظهر القدّيس جيورجيوس وأخذ يصارع التنّين والفتاة ترتعد فرائصها وجلًا. بقي الصراع مستمرًّا إلى أن انتصر القدّيس، وهكذا تخلّصت المدينة من ذلك الوحش المرعب وتحرّرت ابنة الملك.

تعود هذه الرواية إلى القرن السادس، ووردت بصيغ مختلفة خلاصتها تلك الواردة في الأيقونة إذ نرى الفتاة مرتعدة من التنّين في حين أنّ والديها يقفان يشرفان عليها من فوق أسوار القصر يراقبان المعركة بحذر. هذه الصورة رمزيّة وشرحها المفسّرون أنّ التنّين هو رمز الشرّ والقدّيس جيورجيوس الفارس البطل ظهر فجأة وانتصر على التنّين وحرّر الفتاة منه. رمزيّة القصّة أنّ القدّيس والشهيد العظيم انتصر على الشيطان الممثّل بالتنّين وهدأ من روع الكنيسة الممثّلة بابنة الملك.

في سفر رؤيا يوحنّا الإصحاح 12: 7- 13 «وحدثت حرب في السماء: ميخائيل وملائكته حاربوا التنّين فطرح التنّين العظيم الحيّة القديمة المدعوّ إبليس والشيطان، الذي يضلّ العالم كلّه، طرح على الأرض وطرحت معه ملائكته»، و«لمّا رأى التنّين أنّه طرح على الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الابن البكر».

خلاصة القصّة أنّ إبليس يحاول دائمًا أن يجرّب الإنسان ويبعده عن الإيمان، ولكنّ المسيح انتصر عليه وكسر شوكته. ورئيس الملائكة ميخائيل كما القدّيس الشهيد جيورجيوس طرحا التنّين ليخلّصا الكنيسة من قبضته.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search