2020

5. الخدمة في الكنيسة - نحو خدمة المسيح (٤) في الكهنوت الملوكيّ - نقولا أبو مراد – العدد الخامس سنة 2020

الخدمة في الكنيسة

نحو خدمة المسيح

في الكهنوت الملوكيّ

نقولا أبو مراد

 

يقول الرسول بطرس هذا الكلام متوجّهًا إلى مَن يسمّيهم «المتغرّبين من أهل الشتات» المقيمين في مدن آسيا الصغرى (1بطرس 1: 1). والمقصودون بهذه العبارة الذين آمنوا من اليهود ببشارة إنجيل يسوع المسيح، وكانوا عائشين خارجَ أرض اليهوديّة. والمدلول الأعمق لوصفهم بـِ«المتغرّبين من أهل الشتات»، ليس جغرافيًّا بقدر ما يتّصل بالمفهوم الكتابيّ للاغتراب، والذي نصادفه في رواية إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهو الإقامة في الأرض التي دعا الربّ إبراهيم إلى المضيّ إليها بعد أن يكون قد ترك وطنه وعشيرته وبيت أبيه، أي تخلّى عن كلّ انتماء إلى أشياء هذه الأرض، وأطاع دعوة الربّ وآمن بالخلاص الموعود وبوفرة النسل، أي بأن يولِد ربُّه منه أناسًا يكونون على صورة إيمانه بكلمته وطاعته حتّى التضحية القصوى.

وتأكيدًا على هذا الربط بين «أهل الشتات» وروايات التكوين، يستخدم بطرس، في الآية الأولى من هذه الرسالة، في الأصل اليونانيّ، عبارة «متغرّب» (parepidimos) التي تأتي على لسان إبراهيم في كلامه عن نفسه إلى بني حثّ، حيث يقول، «أنا غريب ونزيل عندكم» (تكوين 23: 4). والحقيقة أنّ صفة «الغريب»  أو «المتغرّب» ترافق قصّة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهي حاضرة بقوّة في ترحالهم، بحيث يتولّد الانطباع لدى القارئ أنّ الكاتب لا يريدهم إلّا «متغرّبين» أو «غرباء» على الأرض التي أرشدهم إليها الربّ، ودعاهم إلى أن يسلكوا فيها بحسب كلمته في ما بين الأمم، لعلّهم يصيرون لهؤلاء مثالًا في الطاعة، ويتبارك بهم الأمم فيسيروا في طاعة الربّ وتغدو الأرض وما فيها وعليها للخالق الذي شاءها على حسن كبير. وقد أعطى كاتب التكوين مثالًا على هذه البركة في قصّة العلاقة بين إبراهيم وإسحق من جهة، وأبيمالك وشعبه من جهة أخرى، ثمّ في قصّة يوسف الذي غدا بركة لمصر وللأرض كلّها.

واللافت، في سفر التكوين، الذي يستند إليه بطرس الرسول، أنّ الوعد بالنسل يصير لإبراهيم وهو في غربته أو تغرّبه، وفي كلام الربّ إلى مَن دعاه إلى أن يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، أنّ أرض الغربة هذه «أعطيها لك ولنسلك من بعدك ملكًا أبديًّا. وأكون إلههم» (تكوين 17: 8). والمقصود بهذا الكلام أنّ «أرض الغربة» تبقى أرض غربة ولا يتحوّل الآتون إليها من بعد دعوة إلى مقيمين في الأرض أو مالكين لها، بل يلبثون فيها غرباء عن كلّ شيء إلّا عن السير في كلمة الربّ الذي دعاهم، بموجب الإيمان الذي كان لإبراهيم وحُسِب له برًّا (تكوين 15: 6).

بهذا المعنى يجمع كاتب التكوين، ببراعة تامّة، بين مفهومين متناقضين: الأمّة - أو الشعب - والاغتراب. فالأمّة لا تكون أمّة، ولا الشعب شعبًا، بالمفهوم المتعارف عليه حضاريًّا، إلّا إذا انتمى إلى أرض خاصّة به وأنشأ له كيانًا سياسيًّا مرتكزًا على القوّة والسيطرة ونظام حكم. أمّا في الكتاب، فنسل إبراهيم لا يصير شعبًا وأمّة إلّا إذا انسلخ عن انتمائه إلى أرض خاصّة وكيان سياسيّ ككيانات الشعوب، وعاش غربة أبديّة، أي، بالمفهوم الكتابيّ، أطاع الربّ وكان حيث أراده أن يكون.

من هذا المنطلق يواصل بطرس كلامَه إلى المشتّتين في رسالته الأولى، فيدعوهم إلى أن يحبّوا بعضهم بعضًا «مولودين ثانيةً لا من زرع يفنى، بل ممّا لا يفنى، بكلمة اللَّه الحيّة الباقية» (1بطرس 1: 23). أي أنّه يدعوهم إلى ألّا يروا أنفسهم منتمين إلى أمّة أو عرق أو شعب أو دولة، وذلك بأنّهم، بعد أن آمنوا بالمسيح الذي مات من أجلهم وافتداهم وباللَّه الذي أقامهم من بين الأموات، غدوا «مولودين بكلمة اللَّه الحيّة»، أي أنّهم تخلّوا عن هويّتهم الحضاريّة، وبطلوا أن يكونوا مولودين لأسلاف من أمّة معيّنة، ليصيروا مولودين بكلمة اللَّه. «لأنّ كلّ جسدٍ وكلّ مجد إنسان كزهر عشب؛ العشب يبس وزهره سقط. وأمّا كلمة الربّ فتثبت إلى الأبد. وهذه هي الكلمة التي بُشّرتم بها» (1بطرس 1: 24- 25). تباد الانتماءات، وتفنى الهويّات في «صراع الحضارات» القاتل، وتتحوّل الدول، غير أنّ الربّ شاء للبشر، إذ دعاهم، أن ينتموا إلى ما هو غير زائل، أي إلى كلمة محبّته، تلك المحبّة التي هي على صورة المسيح الذي افتدى العالم بدمه، والذي، ولئن كان قد مات، إلّا أنّ اللَّه أقامه من الأموات حتّى يكون رجاء للسالكين في نور كلمته.

لهؤلاء المتغرّبين والمشتّتين بين الشعوب على مثال إبراهيم في أرض الدعوة، يقول بطرس، «أمّا أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكيّ، وأمّة مقدّسة، وشعب معدّ للاقتناء، لكي تعلنوا فضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (1بطرس 2: 9). يلفتنا استعماله الكثيف لعبارات تدلّ على الانتماء إلى كيان حضاريّ وعرقيّ: أنتم جنس، وكهنوت، وأمّة، وشعب. فعبارة الجنس تدلّ على الانتماء العرقيّ، والأمّة والشعب عبارتان تتّصلان بالتكتّل الهويّاتيّ والدولتيّ أو الانتماء الحضاريّ في بعده السياسيّ، أمّا عبارة الكهنوت فمتّصلة بمركزّية الهيكل الدينيّة لدى شعب من الشعوب، وارتباط هذا الهيكل إداريًّا وسلطويًّا ودينيًّا بالملك أو الدولة. غير أنّ كاتب الرسالة، مستندًا إلى سفرَي التكوين والخروج، يفرّغ هذه العبارات من معانيها المتعارَف عليها، ويربطها بما أوردناه أعلاه من جهة الانتماء إلى كلمة اللَّه.

فعبارة جنس (في اليونانيّة genos)، والتي تشير إلى مجموع المنتمين إلى عرق معيّن بالولادة، بالتجانس، والمشتقّة من الجذر ذاته فعل genneo الذي يعني «وَلَدَ»، يربطها الكاتب بالولادة الثانية التي يتحدّث عنها في 1بطرس 1: 23. فالمؤمنون بالمسيح لا ينتمون إلى جنسٍ لأنّهم مولودون لآبائهم في عرق من الأعراق أو لون من الألوان أو نسب من الأنساب، بل لأنّهم، بعد أن وُلِدوا بالجسد الفاني والساقط، وُلِدوا ثانية بكلمة اللَّه الحيّة الباقية. ما عادوا على سيرة باطلة تسلّموها من آبائهم، بل غدوا على سيرة المسيح الذي دعاهم إلى أن «طهّروا نفوسكم في طاعة الحقّ بالروح للمحبّة الأخويّة التي لا رياء فيها، وأحبّوا بعضكم بعضًا من قلب طاهر بشدّة» (1بطرس 1: 22). هم «جنس مختار» لأنّهم تعلّموا المحبّة التي لا تعرف الرياء، وسلكوا في الحقّ والطهارة، لا لأنّهم أرفع من سائر الشعوب أو أبقى أو أقوى.

ثمّ يسمّيهم بطرس أيضًا أمّة وشعبًا، ليس لأنّهم يتكتّلون حول كيان دولتيّ وسياسيّ أو لأنّهم ينتمون إلى مملكة أو أمبراطوريّة، ويخضعون لسلطان حاكم، فهم مشتّتون ومتغرّبون، كما يسمّيهم في بدء الرسالة. يسمّيهم كذلك، لأنّهم غدوا شعبًا وأمّة في خضوعهم لكلمة الربّ التي دعتهم إلى أن يكونوا في ثباتهم في الحقّ وإخلاصهم للمحبّة المطلقة وطاعتهم للعدل والإحسان، إلى أن يكونوا بركة لجميع الشعوب ومثالًا لهم ليسلك هؤلاء أيضًا في السيرة الحسنة ويمجّدوا اللَّه لأجل أعمالهم: «لتكن سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا في ما يفترون عليكم به كفاعلي شرّ يمجّدون اللَّه في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها» (1بطرس 2: 12).

وتتويجًا لهذا كلّه، يدعوهم الرسول، مستندًا إلى خروج 19: 6، «كهنوتًا ملوكيًّا». والحقيقة أنّ عبارة «الكهنوت الملوكيّ» هي الترجمة اليونانيّة التي نجدها في السبعينيّة للأصل العبريّ «مملكة كهنة» التي ترد في هذه الآية من سفر الخروج، في قوله: «فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصّة من بين جميع الشعوب، فإنّ لي كلّ الأرض. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدّسة». يأتي هذا الكلام في المقطع الذي يتحدّث عن ظهور الربّ لموسى نازلًا على جبل حوريب ليعطيه شريعته، وذلك تتويجًا للخروج من مصر والبلوغ إلى جبل اللَّه لعبادته. وقبل نزول الربّ على الجبل في بهاء ومجد، وقبل أن يسلّم موسى وصاياه التي ينبغي للخارجين من مصر أن يسلكوا فيها، يقول الربّ لموسى هذا الكلام ليبلّغه إلى بني إسرائيل. ما من أدنى شكّ في أنّ الرسول بطرس يستند إلى هذا الكلام ويستشهد به مباشرة في كلامه الذي أوردناه أعلاه. ولعلّ عبارة الكهنوت الملوكيّ أو مملكة الكهنة هي الأهمّ هنا، ولا بدّ من فهمها، هي الأخرى، على خلفيّة السياق الذي يضعنا فيه كاتب سفر الخروج.

تكمن أهمّيّة هذه العبارة في أنّها تُستعمل هنا على نطاق لم نعهده في أيّ من النصوص الأخرى في العهد القديم، وبالطبع أيضًا، لا نجده في أيّ سياق دينيّ في الشرق القديم. فالكهنوت معناه محدّد وكذلك وظيفته، وهو متّصل اتّصالاً عضويًّا بالهيكل المركزيّ الخاضع لولاية الملك مباشرةً، وله وظائف محدّدة، وانتقاله من شخص إلى آخر يجري وفق شروط صارمة، منها التوارث الجسديّ في الكهنوت الإسرائيليّ مثلًا. غير أنّ كلام الربّ إلى موسى وهو مزمع أن يستعلن على الجبل بمجده ويعطي وصاياه، يطلق صفة الكهنة على الذين يطيعون وصاياه ويحفظون عهده جميعهم، بغضّ النظر عن وظيفتهم. والأهمّيّة التي يعطيها لهذه «الرتبة» الكهنوتيّة، تعبّر عنها كلمة «مملكة» أو «ملوكيّ»، التي تربط الكهنوت العامّ هذا بالملك مباشرة، والملك هنا ليس سوى اللَّه نفسه.

المشهد الذي يعطينا إيّاه سفر الخروج، في هذا الموضع، هو الآتي: اللَّه هو الملك بعد سقوط فرعون وخروج الشعب من مصر، واللَّه هو أيضًا الإله الذي سينزل على جبله وكأنّه هيكل له. وفي هذا الهيكل، جميع مَن يصغون إلى كلمته هم كهنة له ومتّصلون به مباشرة. لاحقًا سيتحدّث سفر الخروج عن كهنوت هارون الخاصّ، غير أنّ هذا الكهنوت سيتّصل بوظائف محدّدة أهمّها تقديم الذبائح، فيما الكهنوت الملوكيّ متّصل بالإصغاء إلى كلمة اللَّه ووصاياه وطاعتها والعمل بها.

بهذا المعنى أيضًا يستعمل بطرس عبارة «الكهنوت الملوكيّ» في رسالته الأولى، والسياق الذي يتّبعه هو سياق الخروج تحديدًا: فالمتغرّبون الذين من الشتات بين الأمم، هم الذين تركوا أجناسهم وشعوبهم وأراضيهم وملوكهم، وتغرّبوا في أرض ليست لهم بل للَّه الذي له الأرض كلّها، وهناك، إذ صاروا في منزلة الخارجين من مصر، دُعُوا ليصيروا شعبًا وأمّة في غربتهم، مولودين، كإسحق، ليس بالجسد، بل بكلمة اللَّه الحيّة إلى الأبد. هؤلاء يصيرون للَّه، ملك الأرض كلّها، كهنةً، إذا هم تقبّلوا كلمته، وصاروا اقتناء له، ووظيفتهم الكهنوتيّة تقوم على «أن يخبروا بفضائل الربّ الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب».

على هذا الأساس، يمكننا القول إنّ الكهنوت الملوكيّ هو قيام المؤمنين بالمسيح بدور الكهنة في التعليم والوعظ وحفظ كلمة اللَّه، وأن يصيروا، بكونهم شتاتًا بين الأمم، بركة للشعوب، إذ بأفعالهم وحسن سلوكهم، تجد الأمم طريقها إلى اللَّه، ملك الأرض كلّها.

تجدر الإشارة إلى أنّ عبارة الكهنوت، في العهد الجديد، لا تُطلَق إلّا على يسوع المسيح، الذي يصير، بحسب الرسالة إلى العبرانيّين، صاحب أرفع رتبة كهنوتيّة، مبطلًا كهنوت الهيكل، لكونِه صار رئيس كهنة لا حاجة له إلى أن يقدّم ذبيحة عن نفسه، كهارون وبنيه، وعن الشعب، بل قدّم نفسه مرّة واحدة للَّه الآب ذبيحة عن جميع الناس. وبعد المسيح، يأتي المؤمنون به، ليحملوا في سلوكهم ومحبّتهم وأمانتهم لكلمة الحقّ، صورة كهنوته، لتلتمع أمام جميع الناس، دعوة لهم إلى التوبة. تغيب عبارة الكهنوت كلّيًّا عن الوظائف الأخرى في الكنيسة والتي تسمّى بأسماء أخرى، منها الشيخ والأسقف والخادم، ويبقى الكهنوت الملوكيّ دعوة إلى كلّ من قبل الفداء بدم المسيح إلى أن يحمل على جبهته علامة الصليب، وينطلق في تغرّب دائم عن كلّ ما في هذه الدنيا من تفاهات، وأن يولَد كلّ يوم بكلمة اللَّه ويصطبغ بالمحبّة وحسن الأعمال. فقط، بهذا، يصير كاهنًا حقًّا للَّه الملك العليّ، قائمًا دائمًا أمام وجهه.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search