2020

4. صفحات أنطاكيّة - البطريرك ثيوذوسيوس السادس (أبو رجيلي) يخلف البطريرك ألكسندروس الثالث (طحّان) - شفيق حيدر – العدد الخامس سنة 2020

صفحات أنطاكيّة

البطريرك ثيوذوسيوس السادس ‫(أبو رجيلي‫)

يخلف البطريرك ألكسندروس الثالث ‫(طحّان‫)

شفيق حيدر

 

وُلِد المثلّث الرحمة البطريرك ألكسندروس (طحّان) في دمشق في 9/5/1869، ومنذ السنة 1880 تردّد التلميذ «إسكندر طحّان» إلى الدار البطريركيّة يتابع دروسه في مدرستها. وفي 2/7/1882 أتمّ دراسته الابتدائيّة فعُيِّن معلِّمًا في المدرسة ذاتها، ومرتّلًا في الكنيسة الكاتدرائيّة المريميّة. وفي أواخر السنة 1885 أقام في دير النبيّ إلياس شويّا البطريركيّ. وألحقه مطران بيروت جراسيموس (مسرّه) (1858-1936) بشخصه، ووشّحه بالإسكيم الرهبانيّ في 12/9/1886، وعيّنه مرتّلًا في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في بيروت.

وفي 15/9/1887 أُرسِل إلى مدرسة خالكي التاريخيّة للتحصيل اللاهوتيّ، وفي 6/2/1894 سيمَ شمّاسًا في كنيسة خالكي وتخرّج حاملًا الشهادة اللاهوتيّة في 4 تمّوز من السّنة ذاتها. ثمّ عاد إلى وطنه وأقام في أبرشيّة حمص، يرعاه مطرانُها أثناسيوس (عطااللَّه) (1853- 1923)، وأقام لديه ثلاث سنوات شمّاسًا يعلّم ويعظ ويرتّل. ترك حمص السنة 1897 إلى روسيا ليلتحق بأكاديميّة كييف، وفي تشرين الأوّل السنة 1899 استحسن البطريرك ملاتيوس الدومانيّ (1837 -1906) تعيين الشمّاس ألكسندروس رئيسًا للأمطوش الأنطاكيّ في موسكو. والسنة 1903 انتخبه المجمع الأنطاكيّ متروبوليتًا على أبرشيّة ترسيس وسائر قيليقية في 30 تشرين الثاني.

ولـمّا شغرت أبرشيّة طرابلس بانتخاب مطرانها السيّد غريغوريوس (حدّاد) (1859- 1928) بطريركًا على أنطاكية في 13 آب 1906، تمّ اختيار السّيّد ألكسندروس (طحّان) متروبوليتًا على أبرشيّة طرابلس والكورة من بين ثلاثة إكليريكيّين رشّحهم البطريرك في 21/1/1908، وهم ألكسندروس  (طحّان) (ترسيس) وروفائيل (هواويني) (1860- 1915) أسقف بروكلن والأرشمندريت زخريّا (زخريّا).

وفاة البطريرك غريغوريوس الرابع (حدّاد)

لبّى المثلّث الرحمة البطريرك غريغوريوس (حدّد) نداء ربّه في 29/11/1928. فأقام أعضاء المجمع المقدّس أرسانيوس (حدّاد) متروبوليت اللاذقيّة قائمقامًا بطريركيًّا. ثمّ اجتمعوا في 20/1/1931 في دير القدّيس جاورجيوس الحميراء لاختيار البطريرك الخَلَف. وبعد المذاكرة اتّجهت الأنظار نحو المطران أرسانيوس اللاذقيّ، فانسحب، احتجاجًا، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما السيّد ألكسندروس من مجمع القدّيس جاورجيوس، ثمّ نودي بأرسانيوس (حدّاد) بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق. وبعد ثلاثة أيّام نودي بألكسندروس (طحّان) بطريركًا ثانيًا في دمشق. فعرفت الكنيسة شقاقًا أليمًا. وأذكت السلطات الفرنسيّة نار الشقاق. ولم نتخلّص من هذا الشقاق إلّا لما قضت العناية الإلهيّة بانتقال البطريرك أرسانيوس (حدّاد). فأبرق المطارنة الأنطاكيّون إلى السيّد ألكسندروس (طحّان) مقترحين اعترافه برئاسة المثلّث الرحمة البطريرك أرسانيوس خلفًا للبطريرك غريغوريوس (حدّاد)، وتسليمه عكّاز الرعاية بعد ذلك. فجاء السيّد ألكسندروس إلى بيروت، ووقّع صكًّا بذلك، فسُلِّم عصا الرعاية في كنيسة القدّيس أنطونيوس في قلّاية بيروت، وأصبح بطريركًا باعتراف المجمع الأنطاكيّ بأكمله.

ويوم الثلاثاء في 17 حزيران 1958 انتقل البطريرك ألكسندروس الثالث (طحّان) (1869- 1958) إلى الأخدار السماويّة. فنعاه الوكيل البطريركيّ المطران أثناسيوس (كليلة) (1885- 1960)، مطران بصرى حوران وجبل العرب، إلى آباء المجمع المقدّس والكنائس والعواصم. حضر أعضاء المجمع إلى المقرّ البطريركيّ وانتخبوا الميتروبوليت ثيوذوسيوس (أبو رجيلي)، راعي أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما، قائمقامًا بطريركيًّا ليتولّى مسؤوليّة الكرسيّ ريثما يتمّ انتخاب بطريرك جديد. 

وقبل ظهر الأحد 22 حزيران 1958 أقام السادة المطارنة خدمة جنّاز البطريرك طحّان في الكاتدرائية المريميّة بدمشق. ترأس الصلاة المطران نيفن (سابا)، ميتروبوليت أبرشيّة زحلة وبعلبك، بصفته أقدم المطارنة سيامةً. وقد أبّن البطريرك المتوفّى معدّدًا أعماله ومناقبه ومزاياه وخدماته الكنسيّة ومواقفه الوطنيّة.

اختيار ثيوذوسيوس (أبو رجيلي) خَلَفًا للبطريرك ألكسندروس (طحّان)

كان من المقرّر أن يجتمع المجلس الملّيّ العامّ في دمشق في 10/10/1958 لانتخاب قائمقام بطريركيّ ثمّ انتخاب البطريرك الجديد. تأجّل هذا الاجتماع إلى أجل غير مسمّى يرتهن تحديدُه بالوضع اللبنانيّ، لأنّ الحالة قد تأزّمت في لبنان (حوادث السنة 1958). ولـمّا كان في قانون البطريركيّة مادّة تنصّ على تجميد الأوضاع البطريركيّة في حالة وفاة البطريرك إلى حين يُنتَخَب البطريرك الجديد. انقسمتْ الآراء حول هذه المادّة وتأويلها، ثَمّة رأي يتمسّك بالنصّ حرفيًّا، ورأي آخر يقول بتجاوز القانون فيما يُعمل على خير الأمور. وهنا تطارح المطارنة القضيّة من جوانبها كافّة، وتباحثوا بخاصّة في أمر العودة إلى القانون البطريركيّ القديم ليتفرّد المجمع المقدّس وحده باختيار البطريرك؛ أو يطبقّون القانون الجديد (قانون السنة 1955) الذي يتمّ فيه انتخاب البطريرك بعد ترشيح ثلاثة إكليريكيّين يُقدّمهم المجلس الملّيّ العامّ، ثمّ يختار المجمع المقدّس بالتصويت السرّيّ البطريرك الجديد.

يوم الجمعة الموافق الرابع عشر من تشرين الثاني السنة 1958 التأم المجلس الملّيّ العامّ في الدار البطريركيّة في دمشق بحضور ستّين عضوًا، منهم اثنا عشر مطرانًا، وجدول أعماله ترشيح ثلاثة مطارنة ترفع إلى آباء المجمع الأنطاكيّ المقدّس لانتخاب البطريرك الجديد منهم. ويتألّف المجلس الملّيّ العامّ من مطارنة الأبرشيّات، وخمسة ممثّلين علمانيّين عن كلّ من العاصمتين بيروت ودمشق، وثلاثة ممثّلين علمانيّين عن كلٍّ من الأبرشيّات الأخرى. وتغيّب مطران بيروت إيليّا (الصليبي) (1881- 1970) لسبب المرض، ولم يتمكّن من المشاركة مطرانا الأرجنتين والبرازيل السيّدان ملاتيوس (صويتي) (1910-1983) وإغناطيوس (الفرزلي) (1913-1993).

رشّح المجلس الملّيّ العامّ ثلاثة إكليريكيّين ليختار منهم المجمع المقدّس البطريرك الخَلَف. أمّا المرشّحون فكانوا السادة إغناطيوس (حريكة) (حماة)، ثيوذوسيوس (أبو رجيلي) (طرابلس والكورة) وإلياس (معوّض) (حلب والإسكندرون).

وأتت نتائج الترشيح على الشكل التالي:

وأمام البالوتاج بين الثالث والرابع أجرِيَت القرعة، بحسب القانون، بين المطرانين معوّض وجحا فوقعت على مطران حلب والإسكندرون إلياس (معوض). فتوجّه آباء المجمع إلى الكاتدرائيّة المريميّة للانتخاب، رفعوا صلاة استدعاء الروح القدس ورتّلوا طروباريّة عيد العنصرة. وبعد ذلك اختاروا بالإجماع سيادة الميتروبوليت ثيوذوسيوس (أبو رجيلي) راعي أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما، بطريركًا على مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق، باسم ثيوذوسيوس السادس.

تنصيب البطريرك ثيوذوسيوس السادس.

ويوم الأحد في 23 تشرين الثاني 1958 أقام آباءُ المجمع، ووفودُ الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة الخدمةَ الإلهيّة في الكاتدرائيّة المريميّة بإمامة البطريرك الجديد.  وفي نهاية القدّاس الإلهيّ سلّم المطران نيفن (سابا) (زحلة وبعلبك)، أقدم المطارنة سيامة، عصا الرعاية إلى غبطة البطريرك المنتخَب “لتكون نحو الجهّال والمتمرّدين للتأديب والتربية، ونحو العقلاء والراضخين للرعاية والعناية”. وذلك بعد “الإعلام العظيم” بانتخاب السيّد ثيوذوسيوس بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق، وقد أعلنه أمين سرّ المجمع المقدّس، المطران بولس (الخوري)  (صور وصيدا) (1896-1995).

وشاركت السلطات الرسميّة والمدنيّة في احتفال التنصيب. فقد مثّلَ الرئيسَ جمال عبدالناصر، رئيس الجمهوريّة العربيّة المتّحدة آنذاك، وزيرُ الداخليّة للإقليم السوريّ عبد الحميد السرّاج، كما مثّل رئيسَ جمهوريّة لبنان الجنرال فؤاد شهاب الرئيسُ حسين العويني وزير الخارجيّة ومحافظ مدينة بيروت نقولا رزق الله. ومثّل السيّدُ منير أبو فاضل ، رئيسَ المجلس النيابي اللبنانيّ، وحضرت أيضًا وفودٌ من الكنائس المسيحيّة الشقيقة.

وقد ألقى غبطة البطريرك ثيوذوسيوس السادس خطابًا ضمّنه الرؤية التي يرجوها لعهده. وممّا قال: “...فنحن إلى الأمام إذًا، وما استعانتنا إلّا بمَن لا عون إلّا من عنده... فإلى الأمام أيّها الأبناء الأحبّاء، إلى الوعي الروحيّ، إلى الأدب الدينيّ، إلى الخُلق الشرقيّ النقيّ، الى العمل المجدي، إلى الخير والبنيان، إلى التضامن والتعاون، إلى التفاهم والتسالم، إلى التعايش والتآخي، الى الجهاد الحسن...”.

ولا بدّ من لفتة أنهي بها هذا المقال، وهي أنّ القارىء اللبيب يلاحظ الدقّة التي تحلّى بها الجيل القديم من رجالات الكنيسة، إكليريكيّين وعلمانيّين، في احترام الأنظمة والقوانين التي يسنّون فيتشبّثون في تطبيقها، رغم رغبات التفلّت في بعض الأحيان.

 

مراجع المقال:

معهد التاريخ والآثار ودراسات الشرق الأدنى في جامعة البلمند.

«كنيسة مدينة اللَّه أنطاكية العظمى»، د. أسد رستم، منشورات المكتبة البولسيّة، الجزء الثالث، صفحة 323-380.

مجلّة النور الأرثوذكسيّة، تصدرها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، السنة 1958، الأعداد 6 و7 و9 و10.

جريدة الرائد الغرّاء الطرابلسيّة، مؤسّسها جبر جوهر، يصدرها الأرشمندريت رومانوس جوهر، أعداد آخر سنة 1958. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search