2020

3. رأي - نَبقى أَم نُهاجر؟ - غسّان الحاجّ عبيد – العدد الخامس سنة 2020

نبقى أم نهاجر

غسان الحاج عبيد

 

أن تشعر، وأنت في بلدك، بالاستقرار، وطيب الإقامة، وهناءة العيش، هذا هو الوضع الطبيعيّ. ما ليس طبيعيًّا أن تقيم في بلدك وشعورك، دومًا، أنّك على رَحْل، أي متأهّب لمغادرته عند أوّل فرصة، لأنّ الإقامة فيه باتت صعبة. من المتَّفق عليه، عُرفًا، أنّ الإقامة هي القاعدة والهجرة استثناء. أمّا في لبنان، وخلافًا للعُرف، فتكاد الهجرة أن تكون هي القاعدة. غريبٌ أمر هذا البلد الذي تشكّل هجرة أبنائه علامته الفارقة منذ الحرب العالميّة الأولى، بل منذ ما قبل الحرب العالميّة الأولى إلى اليوم، حتّى لتكاد معدّلات الهجرة فيه تفوق معدّلاتها في أيّ بلد آخر. إنّ نسبة المنتشرين من اللبنانيّين – حسب ما تظهره الدراسات الإحصائيّة – تفوق، بأضعاف وأضعاف، نسبة المقيمين، حتّى لَيجوز الزعم – وهنا المفارقة – أنّ المقيمين في لبنان من أبنائه باتُوا هُمُ المغتربين. لبنان بلد اختلال المقاييس بامتياز.

وما يُؤسَف له أنّ هذا النزف البشريّ اللبنانيّ مستمرٌّ إلى اليوم، وبلا توقّف، لا سيّما في أوساط الشبيبة حيث نسبة الهجرة آخذة بالازدياد بوتيرة تصاعديّة تبعث على القلق، وتثير الخوف على مصير البلد. إذ، ماذا يبقى من البلد، وماذا يبقى له، إذا خَلا من طاقاته الشبابيّة القادرة، وحدها، على الإنتاج والإبداع والعطاء؟ خوفي، إذا تفاقمت أوضاع البلد سُوءًا، أن لا يبقى فيه غير المتقاعدين، والبلد لا يحيا بالمتقاعدين. وفي لبنان بات المتقاعدون أَشبه «نواطير مفاتيح» لبيوت هجرها صبيانها وصباياها فتلاشى نبض الحياة فيها – وهذا مشهد بات مألوفًا في معظم بلداتنا وقُرانا، إن لم يكن فيها جميعًا – يقيمون فيها وحيدين، يَنطرون مفاتيحها بانتظار عائد لا يعود، ويكسرون رتابة الوقت بِعدّ الأيّام وقد باتت ثقيلة. أجل، البلد لا يحيا بالمتقاعدين؛ إنّه يحيا بشبيبته، فهي وَعدُه وشُرفاته المُطِلّة على المستقبل. إنّ بلدًا لا دماء شبابيّة في أَوردَته هو بلد آيل، حتمًا، إلى التلاشي. وأَسوأُ ما أخشاه أن يكون هذا مصير لبنان لأنّه، تاريخيًّا وبامتياز، لم يُتقن سوى تهجير أدمغته؛ حتّى ليصحّ القول إنّنا، بأدمغتنا المُهجَّرة، بنَينا لبنان في بلاد الانتشار، إلاّ في لبنان فقد أَخفَقنا في بنائه، والأصحّ أنّنا لم نَشَأ بناءه. هذه ظاهرة لبنانيّة مزمنة، مرضيّة وخطيرة بطبيعة الحال، وهي، للأسف، مستمرّة إلى اليوم. فما زال لبنان، إلى اليوم، يُخرّج الأدمغة ويُصدّرها. هذا، لَعمري، هو الخطر الكيانيّ المحدق بالبلد؛ ولا داعي لعرض الأسباب لأنّها معلومة لدى الجميع.

نبقى أَم نُهاجر؟ سؤال مصيريّ حادّ وضاغط، ويومًا بعد يوم يشتدّ ضغطه على شبّان هذا البلد وشابّاته فيما هم يحملون شهاداتهم، أو كفاءاتهم، أو مهاراتهم، وقد باتت، بالنسبة إليهم، جوازات سفر يحملونها وينتظرون أوّل فرصة للرحيل، لأنّ أبواب المستقبل قد أُوصدَت دُونَهم هنا، ولا أمل يلوح في الأفق أو تلمع له بارقة. نبقى أم نهاجر؟ إشكاليّة بالغة الدقّة، لا سيّما وسطَ التردّي العميم الذي يشهده لبنان، لكونها مسألةً تحتمل الكثير من التنظير ويبقى الحسم فيها صعبًا إذ هي، في نهاية الأمر، خيار شخصيّ. نبقى أم نهاجر؟ سؤال ضميريّ مصيريّ يقضّ مضجعك ويؤرّق عليك لياليك ما إن ترى نفسك في مواجهة الاستحقاق. وإنّه لكذلك لأنّه يجعلك متوتّرًا بين قناعاتك المبدئيّة، الوطنيّة والإيمانيّة، من جهة، وضغوط واقع الحال، من جهة أخرى.

قناعاتك الوطنيّة، بل أخلاقك الوطنيّة، تأبى عليك أن تلازم وطنك ما دام صحيحًا مُعافًى وأن تتنكّر له إذا اعتلّت صحّته أو ساءت الأحوال فيه. كذلك هي تأبى عليك أن تلازم وطنك ما دُمتَ بحاجة إليه وأن تهجره متى صار هو بحاجة إليك. قناعاتك المبدئيّة الوطنيّة تقول لك إنّه ليس يليق بك أن تتعامل مع وطنك باعتباره فندقًا وأنتَ فيه نزيل ما دام يوفّر لك الخدمات التي ترغب فيها. باختصار، إنّ قناعاتك الوطنيّة لا تُجيز لك أن تُقيم في وطنك باعتباره محطّة انتظار تمكث فيها وحقائبك محزومة ريثما يأتيك ما أو مَن يُقلّك إلى بلد أفضلَ حالاً. إنّ أحدًا منّا لم يختر لبنان وطنًا له، فكلٌّ منّا لبنانيّ لأنّه وُلد من أبوين لبنانيّين. هذا صحيح، لكنّنا ارتضينا لبنان وطنًا، والارتضاء، بمعنًى من المعاني، اختيار، وتاليًا هذا يُوجب علينا أن نُخلص له الحبّ والخدمة. ففي معادلة الانتماء الوطنيّ ثَمّةَ علاقة جدليّة بين الأخذ والعطاء، بحيث يكون السؤال ليس، فقط، ماذا يُعطيني وطني؟ بل، أيضًا، ماذا أُعطيه أنا؟

هذا وطنيًّا، فماذا إيمانيًّا؟ إنّ قناعاتك الإيمانيّة – التي لا تَباينَ بينها وبين قناعاتك الوطنيّة وإِنِ اختلفتا في المستوى – تقول لك إنّك موجود في هذه البقعة من الأرض بمشيئة وتدبير إلهيَّين. أجل، لقد شاء لك ربّك أن تكون في هذه البقعة من الأرض، تُقاسم أهلها العُسر واليُسر، وتكون فيها شاهدًا له، على غرار موسى الذي «بالإيمان... آثَر أن يشارك شعب اللَّه في عذابه...» (عبرانيّين ١١: ٢٥). فإذا كان هذا هو النصيب الذي قطعه لك ربُّك في أرض الأحياء، فعليك أن ترضى بنصيبك وتطرح عنك فكرة الهجرة. لا يجوز، بالنسبة إليك مؤمنًا، أن تكون الهجرة خيارًا سهلاً. وإذا صحّ ما يُعلّمنا إيّاه كاتب الرسالة إلى العبرانيّين أنّه «ليس لنا هنا مدينة باقية، لكنّنا نسعى إلى المدينة العتيدة» (عبرانيّين 14: 13) – وهو، بالطبع، صحيح – إلاّ أنّه يصحّ كذلك، وبالمقدار عينه، أنّ المدينة العتيدة التي نسعى إليها إنّما نسعى إليها من هنا، ونؤسّس لها من هنا، من هذه البقعة التي شاءَها اللَّه لنا موطنًا أرضيًّا، حتّى نُخلص لها الانتماء ولشركائنا فيها المودّة والخدمة والصدق. من لم يستحقّ وطنه الأرضيّ لن يستحقّ السماويّ. نحن، من هنا، من هذه الأرض الطيّبة، ننطلق إلى فوق ونؤسّس لِما هو فوق، إلى أن تُردم الهوّة بين ما هو فوق في السموات وما هو هنا على الأرض. هذا، لَعمري، هو سرّ التجسّد الإلهيّ، حيث المغارة الأرضيّة غَدَت سماء... والمذود محلاًّ شريفًا. في هذا المناخ، وتحت عنوان «بيئتنا الجديدة في الشرق الأوسط»، نقرأ للفيلسوف اللبنانيّ المؤمن رينه حبشي محاضرة قيّمة جاء فيها: «يظنّ البعض أنّه من الواجب الضروريّ الخروج من الزمن للولوج في الأبديّة. بينما يجب علينا أن نفتح الزمن للأبديّة لتشعّ فيه؛ وهذا يفرض تقبُّل الإعلان الإلهيّ الذي يُعطي المسيحيّين طابعًا ثوريًّا مناضلًا. فهل يتنفّس المسيحيّون تارةً للَّه وتارة أخرى للتاريخ فاصلين، هكذا، بين اللَّه والتاريخ؟... على المسيحيّين أن يكونوا في مقدَّمة المصلحين الاجتماعيّين والاقتصاديّين، والمثقّفين، والسياسيّين، كما يوصي الآباء القدّيسون؛ هذا إذا فهموا أنّ الإعلان الإلهيّ ثورة. أمّا إذا قبلوا بالجمود فإنّ المسيحيّة تموت بسببهم. (مجلّة النور الأرثوذكسيّة 1964، العدد 15، ص 239).

هذا ما تقوله لك قناعاتك المبدئيّة، وطنيًّا وإيمانيًّا. بَيد أنّ هذه القناعات سُرعان ما تصطدم – وللأسف – بواقع الحال عندنا، وهو مرير جدًّا. فماذا تقول، مثلًا، لابنك المتخرّج جديدًا، أو لتلميذك، أو لأيّ شابّ آخر مُقبل على الدنيا حديثًا، لو جاء يسألك رأيًا أو توجيهًا في مسألة بقائه في هذا البلد أو رحيله عنه بحثًا عن بديل يستطيع أن يحقّق فيه طموحاته، العلميّة وغيرها، وأن يضع اللَّبنة الأولى في بناء مستقبل يسعى إليه بثقة كبيرة وعزم ثابت ورجاء أكيد؟ هل تنصحه بالبقاء أملًا بانفراج غير مضمون، إذ ليس في الأفق ما يدلّ على أنّه حاصل، لا في المدى المنظور ولا في المدى البعيد؟ أم تنصحه بالرحيل وأنت عالم أنّ الغربة مُرّة وأنّ بلادها قاسية، لا ترحم، وأنّه فيها غريب مهما طالت إقامته، وإلاّ لماذا هي غربة؟ أنت في حَيرة شديدة وفي مأزق جدّيّ، إذ لا تعرف أيًّا من التوجيهين أنفع لولدك، أو لأيّ شاب آخر. هذا هو الضيق بعينه؛ ونحن، في لبنان، نختبر هذا الضيق، يوميًّا، مع أولادنا. مع ذلك، يبقى أنّ من حقّ الإنسان أن ينعم في وطنه، بين ناسه وأهله، بحياة كريمة تليق بإنسانيّته؛ فإذا انتفت هذه في وطنه وضاقت به سبل العيش، هل يلام إذا فكّر بالهجرة لأنّه رأى فيها الحلّ؟

نبقى أم نهاجر؟ سؤال ضميريّ يطرح ذاته بحدّة، وهو برسم دولة طال غَفوُها وآن لها أن تصحو وأن تستعيد وعيها لذاتها كراعية لشعبها مؤتمنة على يومه وعلى غده. كذلك هو برسم كنيسة – أجل، برسم كنيسة، ولم لا؟ مدعوّةٍ، لا سيّما في ظروف قاسية كالتي نعيش، إلى أن تنظر في كيف تنمّي أوقافها وتستصلحها وتستثمرها في مشاريع إنتاجيّة تعهد بها إلى شبيبتها، علّ هذه الخطوة تسهم، ولو يسيرًا، في تثبيت الشبيبة في أرضها؛ علمًا، بالطبع، أنّ الكنيسة لا يمكنها، لا في هذا المجال ولا في سواه، أن تكون بديلًا من الدولة.

نبقى أم نُهاجر؟ إشكاليّة دقيقة للغاية وتبقى مقاربتها شخصيّة. تاليًا لا وصفة جاهزة لها تصلح للجميع، ذلك بأنّ الجواب عنها يتحدّد تبعًا لمعطيات كلّ شخص وظروفه الخاصّة، ولما إذا كان قادرًا على احتمال تبعات الهجرة أم لا. وحيال هذه الإشكاليّة لا ننتظرنّ من الكنيسة جوابًا حاسمًا. فأمام إشكاليّة كهذه ومثيلاتها لا تسجّل الكنيسة مواقف صارمة ولا تُصدر فَتاوَى. هي ترسم خطًّا عامًّا، تُرشد وتوجّه، ثمّ تترك لكلّ من يعنيه الأمر أن يقرّر، بنفسه، ما يناسبه، بوصفه «كامل السنّ». الكنيسة لا تفكّر عن أحد ولا تقرّر عن أحد، لأنّها لا تصادر لأحد حرّيّته. فمن استطاع البقاء فليبقَ، وبُورِك له بقاؤُه. ومَن لم يستطع فليهاجر؛ ولن يعيّره بهذه الخطوة أحد، شرط أن يُقدم عليها بوعي وحرّيّة مسؤولة.

في نهاية الأمر، وفي ما خلا بعض الاستثناءات، ليس أحد يهجر أرضه طوعًا، إذ الهجرة، في الغالب، قسريّة. والهجرة القَسريّة تقتلعك، جسديًّا، من ترابك ومن بيئتك الإنسانيّة. فَقَط احرَص على ألاّ تقتلعك من جذورك الفكريّة، الوطنيّة والإيمانيّة؛ فعلى هذه نشأت وتربّيت، وعليها يجب أن تثبت، فهي اسمك وهويّتك. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search