العالم الأرثوذكسيّ
تحدّيات لعالم الأرثوذكسيّ
النزعة الإكليريكانيّة الجزء الأوّل
ريمون رزق
تشكّل العلاقات بين المؤمنين والإكليروس أحد التحدّيات المتنامية التي تواجه الكنيسة الأرثوذكسيّة، وتُبعدها عن النموذج الإنجيليّ. لا بدّ للمطّلع على واقع الجماعات الأرثوذكسيّة من أن يلاحظ تصاعدًا، في كلّ مكان تقريبًا، للنزعة الإكليريكانيّة التي تفرّق المؤمنين إلى فئتين، وتدين بنظريّة «الكنيسة المعلّمة» و«الكنيسة المتعلّمة»، التي كانت للكنيسة اللاتينيّة التي هي في طريقها إلى الزوال في الأوساط الكاثوليكيّة! أمّا في أوساطنا، فنلاحظ توجّهًا يحصر عمل العلمانيّين بالأمور «المادّيّة» الدنيويّة وعمل الإكليريكيّين بالأمور «الروحيّة»، بينما حصل كلاهما على سرّ مسحة الميرون الذي أقامهم جميعًا أعضاء متساوين في شعب اللَّه وإخوة، وجعلهم مسؤولين معًا عن كنيسة المسيح، ومؤهّلين للمشاركة الكاملة في حياتها.
الواقع في العهد الجديد
لا توجد في العهد الجديد أيّ إشارة إلى ما تعنيه عبارة «علمانيّ» اليوم لوصف فئة من المؤمنين. يسمّي الجميع «القدّيسين»(١)، أو «الإخوة»(٢)، أو «التلاميذ»(٣)، بدون أيّ تمييز بينهم. ويؤكّد مرارًا أنّهم متساوون في الكرامة. ويذهب بولس الرسول إلى دعوتهم جميعًا «أهل بيت اللَّه»(٤) ويقول بطرس الرسول إنّهم جميعًا «شعب اللَّه»(٥). ولا توجد في العهد الجديد، بالمقابل، أيّة إشارة إلى ما تعنيه اليوم عبارة «كاهن»، إلّا مطبّقة على يسوع المسيح وحده، «الكاهن العظيم على بيت اللَّه»(٦). لكن يؤكّد بطرس الرسول على كهنوت شعب اللَّه المقدّس أو الملوكيّ، بقوله، متوجّهًا إلى المسيحيّين: «أنتم... بيت روحيّ، كهنوت مقدّس... جنس مختار وكهنوت ملوكيّ، أمّة مقدّسة، شعب اقتناء»(٧)، كما تؤكّد ذلك رؤيا يوحنّا(٨). فالكهنوت في العهد الجديد خلافًا للقديم مرتبط إذًا بالشعب كلّه. فالمسيح دشّن لنا طريقًا جديدًا يدخلنا وراءه إلى قدس الأقداس(٩)، فنقرّب أجسادنا «ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند اللَّه»(١٠).
الواقع في الكنيسة الرسوليّة
تدلّ ممارسات الكنيسة الأولى على أنّ كلّ واحد من أعضاء شعبها يسخِّر مواهبه المتنوّعة لخدمة تكامل الجسد الواحد(١١). ولا تمييز بين المواهب من ناحية الأهمّيّة، بل تعتبر أنّ جميعها ضروريّة لبناء الجسد. وجليّ أنّ بعض أعضاء الكنيسة، دون غيرهم، أُقيموا ليترأسوا عبادتها والسهر على إيمانها ووحدتها، يسمّيهم رسول الأمم «الذين يتعبون بينكم»(١٢). يُدعى هؤلاء «مراقبين»(١٣) أو «شيوخًا»(١٤)، وليس «أساقفة» و«كهنة»، كما نجد في بعض الترجمات التي تُحمّل النصّ الكتابيّ دلالات لا يحملها. يعاونهم الشمامسة(١٥) في الخدمة. وكان الأنبياء يؤدّون دورًا أساسيًّا في الجماعات الأولى(١٦) إذ يؤمّنون الإرشاد الروحيّ ويسهرون على بقاء الجماعة في الرجاء الأخرويّ. يقول عنهم بولس الرسول إنّهم «يكلّمون الناس ببنيان ووعظ وتعزية»، ويُشير مرارًا إلى موهبتهم ويضعهم مباشرة بعد الرسل من جهة أهمّيّة رسالتهم(١٧). وكان قد انقطع صوت أنبياء العهد القديم خلال العصور التي سبقت مجيء المسيح، فعاد وبرز ضمن الجماعات التي آمنت به. وكانت هذه الجماعات مقتنعة بأنّه إذا صمت صوت الأنبياء فيها تصبح مؤسّسة يسيطر عليها النظام بدلًا من الحياة الدفّاقة وتنتهي إلى فقدان نكهتها. وكان غيرهم من الإخوة، رجال ونساء، يساهم في عمل الكنيسة والخدمة. تدلّ أسماء معاوني بولس الكثيرة الواردة في رسائله(١٨)، على مساهمة معظم الإخوة في العمل البشاريّ أو من أجل تسهيله، مبيّنة أنّ «الرعاية» لم تكن «فرديّة» بل جماعيّة مشتركة بين أعضاء الكنيسة. وينقل سفر أعمال الرسل أحداث «مجمع أورشليم الرسوليّ»(١٩)، قائلة: «رأى الرسل والشيوخ مع كلّ الكنيسة»، وتورد، في مطلع الرسالة التي بعثها «المجمع» إلى الإخوة في أنطاكية، أنّ «الرسل والشيوخ والإخوة يُهدون السلام» إليهم، ويُطلعونهم على ما قرّروه «مع الروح القدس». فالجميع يشترك إذًا في أمور الكنيسة ويشارك في بلورة القرارات برئاسة الرسل أو مَن ينوب عنهم.
فلا يوجد إذًا في العهد الجديد وفي الكنيسة الرسوليّة أيّة تفرقة بين الإكليروس والعلمانيّين، إذ جميعهم إخوة تتكامل أدوارهم في الكنيسة بموجب مواهبهم. فهم جميعًا «علمانيّون» laicos - لأنّهم أعضاء في شعب اللَّه - laos tou theou - ويشكّلون معًا «كهنوت اللَّه». فالإكليريكيّ يتلقّى بسيامته الكهنوتيّة نعمة خاصّة ليترأس صلاة الجماعة ويوزّع أسرارها ويسهر على إيمانها ووحدتها. لا يفعل ذلك إلّا بواسطة التفاعل مع أعضاء الشعب الآخرين، وجعلهم يساهمون في بناء جسد المسيح، الكنيسة، وتفعيل النعمة التي «رسمهم» إليها سرّ الميرون المقدّس، ليُعبّروا عن «آمين» البشريّة لعطيّة اللَّه التي يستدعيها الإكليريكيّ. على كلّ منهم القيام بمسؤوليّته بطاعة كلّيّة لله والكنيسة وممارسة الطاعة المتبادلة بينهم. فتؤمّن هذه الطاعة، النابعة من المحبّة، الانسجام بينهم، وتجعلهم كيانًا واحدًا ينمو إلى ملء قامة المسيح. أمّا في حال عدم وجود الطاعة للَّه والسعي إلى قداسته، وافتقاد المحبّة الأخويّة، فتكون الطاعة مفروضة كطاعة من العالم، ويزول التناغم وتظهر التوتّرات.
كنيسة «الأمبراطوريّة»
بدأت هذه التجاوزات باكرًا جدًّا. بعد تهديم مدينة أورشليم في العام 135 على يد الرومان، انضمّ إلى الكنيسة عدد من الكهنة اليهود واللاويّين، وساهموا في تحويل مفهومها للكهنوت الملوكيّ إلى مفهوم العهد القديم الكهنوتيّ، أي إلى حصر الكهنوت بمَن «يخدمون الهيكل». فصار عندنا «كهنة»، ومَن يرأسهم، «رئيس الكهنة»، وهم مميّزون عن باقي الشعب، أسوة بالكهنوت اليهوديّ.
لكن لم يدع المسيحيّون الأوائل(٢٠) هؤلاء الكهنة ورؤساءهم «آباء» و«أسيادًا«، لكونهم كانوا ما يزالون يتذكّرون بقوّة كلام الربّ يسوع(٢١) المانع تلك التسميات. ولم يُدخلوا إلى القاموس الكنسيّ عبارة «العلمانيّين»، إلّا في منتصف القرن الثالث، حين طلبت الديداسكاليا(٢٢) من «العلمانيّين» الخضوع الكلّيّ للأسقف، وتكريمه «كأب وسيّد وإله»(٢٣). وتعتبر أنّ «قوّة العلمانيّ تكمن في خيرات هذا العالم»، وعليه أن يؤمّن «مخصّصات الإكليروس»، وأن «يُعطي فقط وعلى الأسقف التصرّف»(٢٤). وتدعو الأسقف «الوسيط بين اللَّه والناس»، ناسية أنّه «يوجد... وسيط واحد بين اللَّه والناس هو الإنسان يسوع المسيح»(٢٥). ونراها أيضًا تطلب من الأساقفة أن يعاملوا «العلمانيّين» «كما تفعل الدجاحة بالبيض قبل خروج فراخها منه»(٢٦). مع ذلك، لم تظهر نتائج هذا الكلام مليًّا في الحياة الكنسيّة آنذاك، لأنّ الاستشهاد الذي تعرّض له الجميع جعلهم يختبرون وحدتهم في الدم المهراق.
أمّا تقليص دور العلمانيّين، الذي سجّلته الديداسكاليا، فظهر علانية بعد «تنصير» الأمبراطوريّة الرومانيّة، وانتقال الكنيسة من كيان مضطهَد إلى «حزب الملك»، مع كلّ ما يقتضيه ذلك من تنازلات وتسويات. إذ ذاك جلس الأساقفة على مائدة الأمبراطور، ما دفع معظمهم إلى التشبّه به. وكون الكهنة حظوا بامتيازات ضريبيّة وغيرها توازي ما كان يتحلّى به الكهنة الوثنيّون، جعل الكثيرين منهم ينخرطون في صفوف الإكليروس لتفادي الضرائب وبدون تأهيل. وزاد عدد الذين انضمّوا إلى الكنيسة، ليس اقتناعًا، بل على قاعدة أنّ الشعوب تدين بدين ملوكها. فلا بدّ من أن كلّ ذلك أثّر في عدد من الأساقفة، وجعلهم، بوعي أو بدون وعي، ينتقلون من مكانة «الأخ الأوّل» التي كانوا يحتلّونها في الجماعات الإفخارستيّة القديمة، إلى مكانة «أسياد» تلك الجماعات. وما عادت هذه الجماعات تمثّل وحدات عائليّة متحابّة تجتمع في البيوت الخاصّة، أو في كنائس صغيرة متواضعة، بل أضحت تجمع كثيرين لا يعرفون بعضهم البعض ولا يتحابّون ضرورة. واعتبر معظمهم أنّهم يؤمّون الاجتماع الإفخارستيّ لتلبية «فرض» العبادة، وليس لتكوين الكنيسة وتجسيد المحبّة.
يعتبر أحد الباحثين المعاصرين أنّ الكنيسة خسرت، بتقبّلها هذه الأعداد الكبيرة، بعض مكوّناتها، وتأثّرت تدريجيًّا بالعادات الوثنيّة. ويقول: «كان يبدو أنّ الوثنيّة غُلبت، بينما كانت بالفعل هي التي غلبت، إذ سادت روحها في الكنيسة. ومع أنّ شعوبًا بأكملها وضعت نفسها تحت الراية المسيحيّة، لكنّها بقيت رغم ذلك، وثنيّة بمسلكها وذوقها وآرائها»(٢٧). إذا صحّ هذا القول، ولا بدّ من أنّ فيه قسطًا من الحقيقة، يكون قسطنطين الكبير أساء إلى الكنيسة بقدر ما أفادها.
اعتراضات على الواقع الجديد
احتجّ على الوضع الجديد عدد من المسيحيّين وأصرّوا على عيش خبرة الأخوّة التي نشأوا عليها، فخرجوا من الرعايا الجديدة، وانضمّوا إلى الرهبانيّات الناشئة، التي مثّلت، قبل أن يتمأسّس بعضها، نموذج الإنسان الإنجيليّ القياميّ. وارتفعت بعض الأصوات اعتراضًا داخل الرعايا. نرى ترتليانوس يؤكّد أنّ «سلطة بطرس في غفران الخطايا هي ملك الرجال الروحانيّين الذي يمثّلهم بطرس، أي الرسل والأنبياء. لأنّ الكنيسة يكوّنها الروح قبل أيّ شيء آخر... فتغفر الكنيسة الخطايا بواسطة الروح الفاعل في الرجال الروحانيّين، وليس بواسطة «الكنيسة»(٢٨)، كما يفهمها البعض «أنّها الجسم الأسقفي»(٢٩). ويضيف، مشدّدًا على وحدة حال الكهنة والعلمانيّين، ويذهب إلى القول: «نكون من الجهّال إذا اعتبرنا أنّ ما هو ممنوع على الكهنة مسموح للعلمانيّين. أليس العلمانيّين كهنة؟ قد كُتب «جعلنا ملكوتًا وكهنة اللَّه أبيه» (الرؤيا 1: 6). فالفرق بين الإكليروس والشعب هو ناتج من قرار للكنيسة اتّخذه اجتماع الإكليروس (أي الأسقف والشيوخ)»(٣٠). من دون الوصول إلى مثل هذه المواقف «المتطرّفة»، اعتبر إقليموس الإسكندريّ وأوريجنِّس أنّ من واجبهما تقويم مكانة «الإكليروس» الناشىء ومقابلتها بالمستوى الروحيّ كما يفهمانه. فنرى أوريجنِّس يشتكي من تقهقر عدد المؤمنين الحقيقيّين رغم تزايد عدد المسيحيّين، ويتذكّر بأسى زمن الشهداء الأوائل وحرارة إيمان الجماعة المسيحيّة الأولى، قائلًا: «آنذاك كان عدد المؤمنين قليلاً، لكن كانوا مؤمنون حقيقيّون يتبعون الطريق الضيّق المؤدّي إلى الحياة. أمّا الآن فكثر عددهم لكن لا يوجد بينهم كثير من المختارين»(٣١). ويقابل بين الكنيسة الطاهرة التي «لا دنس فيها ولا غضن»(٣٢)، والكنيسة «الواقعيّة» التي يعايشها، مضيفًا أنّ «أيًّا كان يمكنه أن يترأس الخدمة أمام الشعب، لكن قلّة من الناس، القدّيسة بتصرّفاتها والقائمة في الحكمة، جديرة بإعلان حقيقة الأمور وتلقين الإيمان»(٣٣).
لكن استمر الانزلاق
لكن لم تمنع هذه الأصوات المعترضة المنبّهة معظم الرئاسات الكنسيّة من الاستمرار بالنهج الجديد، وتشجيع العلاقة بين الكنيسة والدولة أحيانًا على حساب نقاوة الرسالة. فنراهم يدعون قسطنطين الكبير «الأسقف من الخارج»، و«ثالث عشر الرسل القدّيسين»، ويُدرجونه في مصفّ القدّيسين. واتّصف كثير من الأساقفة بأخلاق العالم، وممارساته السلطويّة الملتوية. مَن يطّلع على تفاصيل المجامع مثلًا، التي انعقدت بين القرن الرابع والقرن السادس، لا بدّ من أن يتعثّر، أمام العنف الكلاميّ وأحيانًا الجسديّ والاتّهامات المتبادلة والكراهية والتحزّبات والتزلّف تجاه الإرادة الأمبراطوريّة الذين سادوا معظمها. رغم ذلك كلّه، تدخّل الروح القدس وأمّن الوصول إلى بلورة الإيمان القويم. والغريب الغريب، أنّ أعضاءها لم يستطيعوا، أو لم يُريدوا فعلًا، تقديم التنازلات وتبدية المحبّة على المصلحة القوميّة لرأب الانشقاقات(٣٤) التي مزّقت شرقنا، بخاصّة عقب المجمع الخلقيدونيّ المسكونيّ الرابع. يتساءل المرء كيف لم يتوصّلوا إلى الاتّفاق والتفاهم العقائديّ اللذين وصلت إليهما الحوارات اللاهوتيّة الحديثة(٣٥).
موقف الآباء
لم يقف الآباء متفرّجين على هذا الانزلاق في الممارسة الكنسيّة، بل ناضلوا للحفاظ على علاقة سويّة مع رعاياهم. عبّر المغبوط أوغسطين عن آراء كبار آباء القرن الرابع، عندما توجّه إلى «شعبه» (أي شعب اللَّه) واصفًا العلاقة بين «الأسقف-المراقب» والرعيّة، وقائلًا: «أنا أسقفكم، لكنّي مجرّد مسيحيّ مثلكم. الأسقفيّة مسؤوليّة مُنحت لي. أمّا صفة المسيحيّة فهي النعمة التي مُنحت إلينا جميعًا. نحن الأساقفة خدّامكم ومرافقوكم في آن، رؤساء ومرؤوسون. نسير أمامكم بقدر مساهمتنا في خيركم. إنّ لم نتصرّف هكذا، لسنا أساقفة، بل نحمل الاسم وحسب»(٣٦).
ولم يتأخّر آخرون عن انتقاد هذه الأوضاع. فنرى القدّيس أثناسيوس الكبير يشجب ما سمعه من قسطنطين الكبير القائل: «على الكنيسة أن تعتبر ما أريده قانونًا لها»(٣٧). أمّا القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ، فينتقد، في المجمع المسكونيّ الثاني، الأساقفة الميّالين إلى الوجاهة والترَف، قائلًا: «ربّما يلومونني لأنّه ليس عندي مائدة غنيّة بالمأكل، ولا ثياب لائقة بالرتبة، ولا أبّهة في المظهر، ولا عظمة في الوجاهة والتصرّف. لم أكن أعلم أنّه على الأسقف أن يعاشر القناصل والولاة وقادة العسكر وكلّ مَن لا يعرف أين يبذّر غناه. لم أعلم أنّه كان ينبغي لي أن أعيش في الترف من مقتنى المساكين»(٣٨). وكتب لاحقًا، مستذكرًا الجوّ الذي ساد «مشاحنات» هذا المجمع، أنّه كان مؤلّفًا من «عصابة كبيرة من المتاجرين بالمسيح»، وأنّ الفوضى كانت ميزة جلساته الأولى، لأنّه لم يخضع لأيّ نظام سوى «سلطان العدد».
وتذمّر بعض الآباء من الواقع الذي آلت إليه أوضاع الكهنة الروحيّة، ودعوا إلى التشدّد في قبول المتقدّمين للكهنوت. يقول باسيليوس الكبير في هذا الصدد، في إحدى رسائله الموجّهة إلى خورأساقفته(٣٩): «بعدم رجوعكم إليّ، أدخلتم إلى الكنيسة كهنة وشمامسة غير مستحقّين، وذلك من أجل تلبية أهوائكم، بدون تفحّص لحياتهم... لذلك، لا يوجد بينهم الآن، رغم كثرة عددهم، واحد يستحقّ خدمة الهيكل»(٤١). ويؤنّبهم في رسالة أخرى(٤١)، لأنّ «بعضهم يقبلون المال من الذين يرسمونهم». ويقول إنّ كثيرًا من القائمين على الكنيسة انتموا إلى الكهنوت «خوفًا من التجنيد»(٤٢). وكان المجمع النيقاويّ قد توقّف أيضًا عند ظاهرة الكهنة غير المستحقّين، وشرّع قائلًا: «إذا رُقّي البعض إلى الكهنوت بدون الفحص اللازم... ونالوا السيامة خلافًا للقانون، فالشرع الكنسيّ لا يعترف بهم، وتُعتبر سيامتهم باطلة، لأنّ الكنيسة الجامعة إنّما تطلب مَن كان بلا عيب»(٤٣).
تقليص دور الأنبياء والمعلّمين
وباقي فئات الشعب
حصر المواهب في الأسقف
تبيّن بعض النصوص القانونيّة(٤٤) كيف أنقص الأساقفة تدريجيًّا من دور الأنبياء والمعلّمين والقرّاء والقائمين على باقي الخدمات الكنسيّة، وحصروها بأشخاصهم، أو كلّفوا الكهنة (الذين حلّوا مكان الشيوخ) أو الشمامسة ببعضها. وتؤكّد القوانين الرسوليّة(٤٥) هذا الواقع الجديد، قائلة للأساقفة: «كونوا أنتم تجاه العلمانيّين أنبياء ورؤساء ومدبّرين وملوكًا ووسطاء مع اللَّه ومعلّمين ومبشّرين بالكلمة وحافظين الكتب المقدّسة وكلام اللَّه وشهودًا لمشيئته»(٤٦). وتقول أيضًا، متوجّهة إلى العلمانيّين، إنّ الأسقف «هو بعد اللَّه، إلهكم على الأرض، ويحقّ له من طرفكم كلّ احترام... وتقدير والكرامة ذاتها التي تُؤدّى للَّه»(٤٧). من هنا درجت عادة تبخير الأسقف أوّلًا في كلّ خدمة كنسيّة، وحتّى قبل أيقونات السيّد ووالدته والقدّيسين! ويُبخّر في حضوره تسع مرّات، ويُبخّر «عرشه»، أوّلًا أيضًا، ثلاث مرّات في غيابه! كما درج غالبًا في تلك الحقبة إطلاق ألقاب «السيّد» على الأساقفة، خلافًا لطلب الربّ، ونعتهم بالقُدسيّة والسيادة وشتّى تعابير السموّ.
منع اشتراك الشعب في انتخاب أسقفه
وتوقّف أيضًا في هذه الحقبة تقليد مشاركة الشعب في اختيار أسقفه. يذكر مجمعا أنقيرة(٤٨) وأنطاكية(٤٩) حالات عدم قبول الشعب لأساقفة منتخبين بدون استشارته، ما يشير إلى أنّ تقليد اشتراك الشعب في انتخاب الأسقف كان ما يزال حيًّا لدى الشعب في أيّام انعقادهما، رغم تجاهل بعض الأساقفة. ولم يأتِ المجمع النيقاويّ الأوّل قطّ على ذكر العلمانيّين في انتخاب الأساقفة، ما جعل البعض يعتبرون أنّ هذا الصمت يعني عدم مشاركتهم. وذهب مجمع لاوديكيا إلى نبذ التقليد القديم كلّيًّا بقوله الواضح إنّ «مَن اختاره الشعب غير مقبول، لا يُقبل ولا يُنتخب»(٥٠).
التمييز بين «المكرّس» و«الدنيويّ»
وبرز قبيل أواخر الألفيّة الأولى تيّار لاهوتيّ(٥١) دعا إلى التمييز بين «المقدّس» و«العامّيّ»، وبين «الروحيّ» و«المادّيّ» أو «الجسديّ»، وبين «المكرّس» و«الدنيويّ». أثّر على انتشار إعطاء المناولة بواسطة الملعقة بدلًا من اليدين وتزامن معه بسبب الرهبة الواجبة أمام القدسات وعدم لمسها من قبل العلمانيّين باعتبارهم «غير المكرّسين»، أي غير الحاصلين على سرّ الكهنوت. بينما بقي التقليد القديم ساري المفعول بالنسبة إلى الكهنة «المكرّسين والوسطاء بين اللَّه والشعب». تناست هذه العقليّة أنّ جميع أعضاء شعب اللَّه هم «قدّيسون»، لأنّهم «مُسحوا من اللَّه القدّوس»(٥٢). أدخلت هذه العقليّة «المتزمّتة» الكثير من التغييرات في الحياة الكنسيّة، نذكر من بينها رفع جدار الإيقونسطاس الفاصل بين الشعب «الأرضي» والإكليروس «السماويّ»، ومنع العاميّين من دخول الهيكل، وتُليت صلوات تكريس القدسات «سرّيًّا» كي لا يسمعها الشعب، ومنع من لمس الكتاب المقدّس أو حتّى قرائته في بعض الأمكنة، كما مُنعت سيامة المتزوّجين إلى الرتبة الأسقفيّة. حوّلت كلّ هذه الإجراءات وغيرها «جماعة الإخوة» إلى فئتين، واحدة تُعلِّم و«تُقدّس» وأخرى تتعلَّم وتطيع. وأدخلت مقاربات جديدة حوّلت روح البنوّة الواثقة باللَّه والمبنيّة على محبّته ومحبّة الإخوة المتبادلة والمشاركة في المواهب الذي تميّزت به الجماعات المسيحيّة الأولى، إلى مفاهيم السلطة والطاعة والخشية من الدينونة ومن الآخر.n