الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة
بين الجماد والاستنساخ والتطوّر
بيرج طرابلسي
مقدّمة
تواجه الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة في بعدها البشريّ-الجماعيّ، كالعديد من الكنائس الأرثوذكسيّة وغير الأرثوذكسيّة حول العالم، تحدّيات معاصرة كثيرة ومتنوّعة، وأحيانا متشابكة، داخليّة وخارجيّة. فلو عدّدنا محاور التحدّيات التي تواجهها الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة داخليًّا، لذكرنا أبرزها: خدمة الكلمة الإلهيّة، الخدم الليتورجيّة، القوانين، الحياة الكنسيّة والروح الجماعيّة والتواصل، الحياة الرهبانيّة، الأوضاع الطارئة نتيجة الحروب والتهجير والهجرة، الكنيسة بين الوطن والمهجر، الكنيسة والطائفة، المسائل الإداريّة والتنظيميّة، المسائل المسلكيّة والأخلاقيّة، المسائل الاجتماعيّة. ولو أردنا رصد تحدّيات الكنيسة الخارجيّة، للاحظنا ما يتعلّق بالمحاور التالية: الأديان الأخرى، المذاهب الأخرى، الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى، المذاهب الفلسفيّة المعاصرة، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والسلوكيّة الحديثة، المسائل الاجتماعيّة والعائليّة، حقوق الإنسان والحرّيّات الفرديّة، قوانين الدول الوضعيّة، العلوم والتكنولوجيا والاكتشافات والتقنيّات العلميّة، الاقتصاد والعدالة الاجتماعيّة، الحرب والسلم، والبيئة... ولو أردنا تشخيص أهمّ الأمراض التي تفتك في جسم الكنيسة، الآن وهنا، لذكرنا المسائل التالية: الإكليروسيّة، العزوبة، الفساد، الاختصام، التحزّب، الاستقطاب، التكفير والتخوين، الانفراد بالسلطة، التسلّط والاستبداد والخوف، الإقصاء، معاداة الحداثة، الابتعاد عن العمل الكنسيّ، التقليديّة والتحجّر والركود، الشوفينيّة والإحساس بالتعالي، الأصوليّة والتعصّب الدينيّ، القوميّة والتعصّب الإثنيّ، محاربة «الحركة المسكونيّة»، ضعف الأهليّة (القياديّة والإداريّة)، مقاومة الإصلاح والتغيير. في مقابل كلّ ما تقدّم، بات ضروريًّا أن تقوم الكنيسة بإجراءات إصلاحيّة مستمرّة تهدف إلى إخراج الكنيسة من الجماد التي تعيشه وحالات الاستنساخ الذي تنتجه منذ قرون، وإلى تحديثها في العديد من جوانبها اللاهوتيّة والليتورجيّة والقانونيّة والرعائيّة والإداريّة والماليّة، وذلك عبر تغيير ما يجب تغييره وتطوير ما يجب تطويره. يكفي الإشارة إلى أنّ كلمة «إصلاح» لا يمكن احتكارها ولا حصرها بالكنائس الإنجيليّة التي نشأت في القرن السادس عشر، أو حتّى الاعتقاد أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة المجاهدة ليست بحاجة إلى إصلاح. بناءً على ما تقدّم، سنعمد في بحثنا إلى شرح (1) أطر الإصلاح العامّة و(2) أهداف وخطوات إصلاحيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، إذ إنّ الإصلاح بات حاجة ضروريّة ومهمّة للحياة الكنسيّة المستقيمة، فكرًا وقولاً وعملاً، رغم المصاعب والتحدّيات كافّة!
أوّلًا. أطُر الإصلاح العامّة
يظنّ البعض أنّ لا ضرورة أو حاجة إلى إصلاح الكنيسة الأرثوذكسيّة المجاهدة، متمسّكين بعبارات غالبًا ما تُقتَبَس من خارج إطارها الثقافيّ والفكريّ والزمانيّ والمكانيّ، ومنها أنّ الكنيسة عروس المسيح «لا عيب فيها ولا دنس» (أفسس 5: 27)، وأنّ دستور الإيمان يعترف «بكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة»، وأنّ «التسليم الشريف» يحفظ الوديعة المسلّمة في الكنيسة من جيل إلى آخر. فلو توقّفنا عند ديناميّة التغيير والإبداع في الكنيسة، للاحظنا أشكالًا عدّة منها: (أ) الانقطاع (discontinuity) بين العهدين القديم والجديد في بعض العادات والتقاليد، كالتخلّي عن بعض العادات اليهوديّة، الدينيّة والثقافيّة، ومنها الختان وعدم استعمال الصور aniconism؛ (ب) تكوّن development النصوص الليتورجيّة كنصوص القداديس؛ (ج) التطوّر evolutionكتطوّر دساتير الإيمان والمصطلحات العقائديّة ومنها مصطلح «المساوي للآب في الجوهر» Homoousion to Patri والفكر الهدوئيّ وممارساته؛ (د) الابتكار innovationكابتكار طرائق حديثة رقميّة لكتابة الموسيقى الكنسيّة، (هـ) الحداثة modernity ككتابات الآباء التاريخيّين واللاهوتيّين المعاصرين وتعاملهم مع مسائل عصرهم، (و) الإيكونوميّا oikonomia كتلك المتّبعة في تفسير قوانين متعلّقة بأعضاء الكنائس الأخرى وتطبيقها.
هل من إطار لاهوتيّ للإصلاح؟ يقول المتروبوليت يوحنّا (زيزيولاس): «يجب أن يتمّ الإصلاح الكنسيّ ضمن أطر لاهوتيّة ترتكز على الكتاب المقدّس وخلاص الإنسان». وفي الكتاب المقدّس، خُلِق الإنسان في البدء «على صورة اللَّه ومثاله». والكنيسة، هي جماعة المؤمنين وجسد المسيح. فلو اعترفنا بأنّ صورة الإنسان تشوّهت بسبب السقوط، وبأنّ صورة الكنيسة تشوّهت بسبب الفساد الذي أصابها، لاعتبرنا أنّ التوبة هي المعبر إلى التألّه، على صعيد الإصلاح الفرديّ، وذلك عبر ترميم صورة اللَّه واستعادة المثال، وأنّ الإصلاح، على المستوى الجماعيّ، هو مسار متواصل نحو عيش الفضائل المسيحيّة في أعمال الجماعة والتعبير عن المسؤوليّة تجاه الآخر وعضده ومحبّته. والكنيسة، المؤسّسة، مدعوّة إلى تدبير الرعيّة والأبرشيّة والمؤسّسات الكنسيّة كافّة بغيرة ومصداقيّة ولياقة وترتيب وحسن الخدمة بهدف بنيان جسد المسيح. هكذا، يصير الإصلاح معبرًا إلى الكمال في الكنيسة عبر الاستقامة والقداسة في أعمالها كافّة. والكنيسة مدعوّة أيضا إلى تنقية ذاتها ومؤسّساتها من الدنس والغضن والأخطاء والشوائب والسقطات، وإلى محاربة الفساد، وإلى معالجة ذاتها من الأمراض الروحيّة والمادّيّة، وإلى مواجهة التحديّات عبر تراكم خبراتها وعلوم العصر وأفكاره وخبراته ولغاته، وإلى تحديث قوانينها وممارساتها لتخاطب تطلّعات أعضائها كافّة.
ولو أرادت الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة الاستفادة مما كُتب حول الإصلاح في الكنائس غير الأرثوذكسيّة، لركّزت على الخلاصات التالية: أ) تبنّي موضوع الإصلاح علانيّة والبدء بالعمل، وبالتوازي، من داخل المؤسّسات الكنسيّة ولجانها ومنظوماتها ومن خارجها؛ ب) حثّ الجميع على المبادرة والانخراط في العمل الكنسيّ المحلّيّ؛ ج) التشجيع على إجراء النقد الذاتيّ في كلّ أبعاده؛ د) التعامل البنّاء مع المعارضين السلميّين واحتضانهم ومحاورتهم؛ هـ) العمل بالتزام وجدّيّة ومثابرة؛ ومشاركة الإكليريكيّين والعلمانيّين بخاصّة أولئك الذين هم في موقع ثانويّ أو هامشيّ، بالدراسات وصناعة القرار مع إكليريكيّ مركز القرار وعلمانيّيه؛ و) البقاء في شركة مع الكنيسة والحفاظ على وحدتها وعدم الخروج منها؛ ز) عدم الوقوع تحت ضغط المواعيد المحدّدة لإنجاز العمل والتحلّي بالصبر وتقبّل التأخير؛ ح) فهم التقليد على حقيقته والذي هو حركة وديناميّة نحو الأمام؛ ط) التركيز على مشاكل الكنيسة وأمراضها وإعداد تشخيصات سليمة وعلاجات مناسبة وحلول عملانيّة للمشاكل الحقيقيّة التي تواجهها الكنيسة والمتعلّقة بالإيمان، والأخلاق، والثقة، والسلطة، والقيادة، والفساد الماليّ والإداريّ، والعداوة تجاه العلوم والتطوّر والديمقراطيّة وغيرها، أكان لها جذور تاريخيّة أم هي معاصرة؛ ك) وضع الدراسات الإصلاحيّة ونشرها؛ ل) تحضير الأجواء الكنسيّة لعمليّة الإصلاح عبر التواصل وتفويض المسؤولين ولجان التغيير؛ م) إطلاق العمليّة الإصلاحيّة ومتابعتها بزخم وتنسيق متواصلَين. مقابل كلّ ذلك، لا بدّ من التنبّه إلى أن تبنّي الإصلاح قد يولّد ردود فعل سلبيّة تتراوح بين الانفصال والانشقاق والخوف واللامبالاة والابتعاد والرياء.
ولو أرادت الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة الاستفادة من المراجع غير الكنسيّة حول التغيير (change)، ونقصد بالتغيير الانتقال من وضع حاليّ ما إلى وضع آخر مرتجى، لركّزت على الخلاصات التالية: أ) أنواع التغيير المتعدّدة والتي أهمّها التصحيحيّ والتطويريّ والإبداعيّ والابتكاريّ والتغييريّ والتعديليّ والانتقاليّ؛ ب) خطوات التغيير والمتمثّلة بالتحفيز ووضع خطط العمل وتحديد الأهداف وما يجب تغييره أو إصلاحه وإنشاء شعور بضرورته وحاجته، وتأمين موارد بشريّة ومادّيّة ومعنويّة مناسبة، وبناء فرق عمل وائتلافات داعمة للتغيير، وضع رؤية واضحة للتغيير ونشرها، والتواصل وحشد التأييد والموافقة، وتمكين أصحاب المبادرات التغييريّة ومؤيّديهم، والتعامل بفعاليّة مع معارضي التغيير ومعرقليه، وتحقيق نجاحات ومكاسب على المدى القصير، والإصرار والمثابرة وعدم التوقّف والاستسلام، وتثبيت التغيير عبر جعله جزءًا من ثقافة الفريق والمؤسّسة؛ ج) العراقيل الداخليّة للتغيير، ومنها 1) الثقافة والمناخ التنظيميّان؛ 2) أساليب وتقاليد وقيم وعادات قديمة؛ 3) السلبيّة؛ 4) الرفض؛ 5) ضعف الإنتاجيّة؛ 6) ضآلة الإمكانيّات؛ 7) قيادة غير كفوءة؛ 8) تواصل سيّئ؛ 9) تعقيدات متجاوزة الحدّ؛ 10) لامبالاة؛ 11) التبسيط؛ 12) الخوف والحذر؛ د) عملاء التغيير (الظاهرون والمستتَرِون) ودرجة تأثيرهم، وهم 1) المنظّمون، 2) المدافعون، 3) المعارضون، 4) اللامبالون. أخيرًا، لا بدّ من أن نشير إلى أنّ لمقاومة التغيير أشكالاً عدّة، منها فرديّة وجماعيّة؛ فكريّة ونفسيّة، لفظيّة (كالتهديدات والتخاصم والشائعات والشكليّات والصمت والنكات والاستهزاء والمراوغة) وعمليّة (كالتعطيل والجماد واللامبالاة).
أخيرا، لو أرادت الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة إقامة تحليل رباعيّ (SWOT Analysis) حول الإصلاح الكنسيّ، لتوقّفنا عند الأبعاد التالية: أ) عوامل القوّة ومنها وجود كفاءات قادرة على التفكير والتخطيط والتنفيذ، واستقلاليّة الكنيسة من حيث عدم اعتمادها على الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى، والإطار الكنسيّ غير الإثنيّ والعرقيّ الذي يسمح بنوع من الهويّة المنفتحة وقبول عناصر ثقافيّة متعدّدة؛ (ب) عوامل الضعف ومنها كثرة معارضي التغيير من محافظين، وتقليديّين، معارضة مصطلح «إصلاح» وربطه بالإصلاح البروتستنتيّ، كثرة المتردّدين (خائفين، مراقبين)، كثرة اللامبالين، عدم وجود قرار داعم، عدم انتظام الكفاءات القادرة على إدارة الإصلاح؛ عدم التوافق على أهداف إصلاحيّة مشتركة، كلفة الإصلاح؛ (ج) الفِرص المتاحة ومنها إصلاح الإدارة والقيادة الكنسيّة، إصلاح الوضع الماليّ واستثمار الأوقاف، تطوير القوانين الكنسيّة، تطوير الطقوس الليتورجيّة، تقويم الوضع الرهبانيّ، تطوير علم اللاهوت، إصلاح الشؤون الاجتماعيّة؛ و(د) التهديدات ومنها عدم استقراء التداعيات، فشل التغيير، انشقاقات داخل الكنيسة، وتردّي العلاقات مع الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى.
ثانيًا. أهداف وخطوات إصلاحيّة
في الإطار الأنطاكيّ
قلّة قليلة حتّى يومنا هذا تنادي علانيّة بالإصلاح في الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة. وفي مقابلها، ثمّة أعداد كبيرة من غير المبالين والمستهزئين والرافضين والمقاومين للإصلاح الكنسيّ وذلك للأسباب التالية: أ) اعتبار الكنيسة مقدّسة بالكلّيّة وخالية من أيّ فساد وتاليًا لا مجال لإصلاحها، ب) إنكار الحاجة إلى الإصلاح رغم ما يفتك بالكنيسة من آفات وفساد، ج) الولع بالماضي والتمسّك بأعرافه وتقاليده وتقديسها والخوف من خسارة إرثه، د) التماهي مع الكنائس الارثوذكسيّة الأخرى في الحفاظ على صورة نمطيّة تقليديّة، هـ) المحافظة على الاستقرار والابتعاد عن الإصلاح ومخاطره وخضّاته، و) تفضيل الجمود والاستنساخ على التغيير والتطوير والابتكار، ز) إساءة فهم «الإصلاح» واعتباره حالة غريبة وغربيّة عبر ربطه بالبروتستنتيّة، ح) تعدّد القراءات حول حال «المؤسّسة الكنسيّة» ومشاكلها والإصلاح المنشود، ي) الظنّ والتوهّم بأنّ الإصلاح يهدّد الكنيسة ووجدانها وخصائصها ومستقبلها، ك) عدم معرفة كيفيّة إدارة الإصلاح في الكنيسة، ل) الخوف من المجازفة والمجهول ومن تداعيات الإصلاح ومنها الفشل، م) قلّة الطاقات البشريّة المُصلِحة في مراكز القرار، ن) ضعف الثقة بالمصلِحين، س) تردّد أصحاب القرار والنفوذ والأغلبيّة الصامتة في تبنّي «الإصلاح» والالتزام به، ع) خوف التقليديّين والمحافِظين والمتردّدين من خسارة المناصب والمصالح والامتيازات أو حتّى تقليصها وإضعافها. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الدراسات تشير إلى أنّ مقاومي الإصلاح يتفاعلون نفسيًّا مع هذا الأمر وذلك عبر ردود فعل عدّة، متباعدة زمنيًّا، وهي: الصدمة، الإنكار، الغضب، الارتباك، المقاومة، الشكوك، الإحباط، الأزمة، الاستكشاف، التدقيق، التفهّم، القبول، القرار، الاندفاع والأمل، والالتزام.
قد يظنّ البعض أنّ الإصلاح هو مشروع شموليّ ومتكامل ويتبع خطّة استراتيجيّة واحدة وجامدة، يمكن تحقيقه بفترة زمنيّة محدّدة من قبل شخص أو فريق أحلام نموذجيّ. للأسف، هذه مقاربة غير عمليّة وغير واقعيّة وتاليًا غير منتجة. وبما أنّ للأسقف (بطريرك ومطران أبرشيّة) مكانة قياديّة متقدّمة في الكنيسة تتمحور حول مسؤوليّاته التعليميّة والرعائيّة والإداريّة، وأثرًا كبيرًا في ثقافة الكنيسة التنظيميّة، فقد يكون من أولويّة المجمع الأنطاكيّ (أ) أن يتبنّى رؤية لإصلاح الكنيسة والترويج له. والتشديد على أهمّيّة الإصلاح وحاجته وضرورته والعمل على خلق بيئة مناسبة له؛ (ب) أن يشكّل لجانًا متخصّصة للبحث بمسائل إصلاحيّة في الكنيسة على مستوى البطريركيّة والأبرشيّة والرعيّة تنسّق مع أصحاب المعرفة والخبرة من إكليريكيّين وعلمانيّين، (ج) أن يحثّ أصحاب النفوذ في الأبرشيّات والمؤسّسات الكنسيّة على الإقلاع فورًا عن ممارسة سياسة الإقصاء والتهميش والانغلاق والتسلّط والتخويف وعدم التواصل البنّاء مع أصحاب المعرفة والخبرة والقدرة والتأثير وتحفيزهم واستقطابهم؛ د) أن تتحوّل المطرانيّات ومعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في جامعة البلمند ومدارس التنشئة اللاهوتيّة إلى مشاغل وحاضنات علميّة للإبداع والتدريب وتطوير الأفكار الإصلاحيّة واختبارها، (هـ) أن يتوسّع المجمع والأبرشيّات والرعايا في درس أوضاع الكنيسة والمشاكل والتحدّيات التي تواجهها، داخليًّا وخارجيًّا، والتي أشرنا إليها في المقدّمة؛ (و) التواصل مع الأبرشيّات والرعايا وشرح أهمّيّة هذا العمل الإصلاحيّ وتشجيع الشرائح الكنسيّة كافّة على تبنّي هذا المشروع والمشاركة في إنجاحه؛ (ز) أن يستفيد من القدرات والإمكانيّات والموارد المادّيّة والبشريّة والثقافيّة وتوظيفها بهدف الإصلاح.
ثمّة أهداف إصلاحيّة لا بدّ من العمل عليها في هذه المرحلة التأسيسيّة، وهي: أ) لاهوتيّة، وذلك عبر تمكين أكاديميّ الكرسيّ الأنطاكيّ، كتابة فكر لاهوتيّ (نظريّ وعمليّ) يخاطب تحدّيات العصر، والعمل على تحديث مناهج اللاهوت في جامعة البلمند ومدارس التنشئة اللاهوتيّة وصياغتها على أسس علميّة تخاطب متطلّبات الحاضر وتحدّياته، وتأهيل قادة الكنيسة المستقبليّين وتدريبهم على أهمّ المهارات، وكيفيّة الاستفادة منها في الكنيسة ومنها القيادة، والوعي المعلوماتيّ، والإدارة، والمبادرة، والتفكير النقديّ، والإبداع، والتعاون، والتواصل؛ والمرونة، والإنتاجيّة؛ ب) ليتورجيّة، وذلك عبر العمل على إعادة صياغة النصوص الليتورجيّة على ضوء الدراسات اللاهوتيّة الحديثة؛ ج) قانونيّة، وذلك عبر العمل على تحديث القوانين الكنسيّة وأصول المحاكمات وقوانين الأحوال الشخصيّة والأنظمة الداخليّة، ووضع قواعد جديدة للأخلاقيّات والسلوكيّات الإكليريكيّة تخاطب مبادئ حقوق الإنسان؛ د) رعائيّة، وذلك عبر العمل على تطوير الحياة الرعائيّة والإكليريركيّة والرهبانيّة لتصير أكثر فعاليّة وإنتاجيّة، والاستفادة من جميع الطاقات البشريّة والمادّيّة وإرساء علاقات سليمة بين أعضاء الكنيسة، والعمل على تطبيق مبادئ التنمية المستدامة في الخدمة الرعائيّة؛ هـ) إداريّة، وذلك عبر تطوير العمل الكنسيّ على أسس حقوق الإنسان والحكم السديد ومعايير منظّمة العمل الدوليّة والأخلاقيّات المهنيّة والعلوم الإداريّة والقياديّة والماليّة الحديثة وتشكيل لجان متخصّصة وفعّالة على المستويات كافّة، البطريركيّة والأبرشيّة والرعائيّة؛ ز) ماليّة واقتصاديّة، وذلك عبر العمل على تطوير أفكار ومشاريع استثماريّة للأوقاف والهِبات والأموال بشفافيّة وإنتاجيّة في مجالات عدّة تتعلّق بالمؤسّسات التابعة للطائفة ومنها الرعائيّة والتنمويّة والتربويّة والثقافيّة والصحّيّة والاستشفائيّة وتلك المتعلّقة برعاية المسنّين والعجزة والأيتام.
وتبقى الخطوة الأولى التي يجب اتّباعها بهدف التحضير لإطلاق العمليّة الإصلاحيّة هي إنشاء فرق عمل كنسيّة، منتجة وفعّالة، تسعى إلى البحث بمجالات عدّة، أهمّها: الأخلاقيّات، الإعلام والصحافة، الإعلان والتسويق، البيئة، التربية والتعليم، التكنولوجيا، الحضارات والثقافات، الزراعة، السياسة، الشؤون الاجتماعيّة، الشؤون الشبابيّة، الطبّ والصحّة، علم السلوك، العلوم الاجتماعيّة، العلوم الإداريّة، العلوم الإنسانيّة، العلوم التطبيقيّة، العلوم الطبيعيّة، العمارة والهندسة، الفنون والموسيقى، القانون والقضاء، اللاهوت والأديان، المال والاقتصاد. أيضًا، لا بدّ من اتّخاذ إجراءات أساسيّة على مستوى البطريركيّة والأبرشيّة والرعيّة، نذكر التالي: أ) العمل على استقطاب أصحاب المعرفة والخبرات والمواهب عبر التواصل البنّاء والتحفيز المناسب والمكافأة؛ ب) العمل على إعداد قواعد بيانات مفصّلة حول الأعضاء ومعرفتهم وخبراتهم ومواهبهم بهدف إدارة المعرفة؛ ج) العمل على تشكيل لجان متخصّصة مخوّلة للعمل المنتج والفعّال في المجالات كافّة ومواجهة التحدّيات المرافقة؛ د) العمل على تنقية العلاقات، أينما وُجِدَت، من التزلّف والمحاباة والمحسوبيّة وتضارب المصالح بين الأعضاء؛ هـ) العمل على كسر الحواجز النفسيّة والنمطيّة الاستعلائيّة والاستغلاليّة، أينما وُجِدَت، في التعاطي بين الإكليريكيّين والعلمانيّين.
خاتمة
الإصلاح الكنسيّ هو مسار رؤيويّ متواصل وعمل جَماعيّ يهدفان إلى تنقية الكنيسة من الفساد والشوائب والآفات، والممارسات الملتوية والخاطئة والمتخلّفة وإلى تخطّي العوائق ومواجهة التحدّيات، أكانت بالفكر أم القول أم العمل، وإلى ضمان استقامة الكنيسة ونهضتها وتحسينها وتطويرها بهدف الخروج من التقليديّة الجامدة والمتحفيّة، رغم المقاومة والتريّث واللامبالاة التي يظهرها الكثيرون! العمل الجماعيّ الفعّال يتطلّب إنشاء لجان وفرق عمل مشتركة، مركزيّة وفرعيّة، لديها الإرادة والمعرفة والخبرات والمهارات والإمكانيّات المادّيّة والقوّة الناعمة والصلاحيّات والفعاليّة القياديّة والإداريّة بنسب عالية. ولكن، ما لم يتبنّ معظم الفاعلين والمؤثّرين في العمل الكنسيّ من إكليريكيّين وعلمانيّين، في الرأس والقاعدة، وفي الوسط والأطراف، موضوع الإصلاح الكنسيّ، سيبقى الواقع غير قابل للتغيير. أخيرًا، كلّ المحاولات الإصلاحيّة ستتعثّر، والأعمال الفرديّة ستبقى ضعيفة وغير مثمرة على مستوى واسع، وسيبقى أصحاب المعرفة والخبرة والمواهب خارج إطار العمل الفعّال والبنّاء في الكنيسة ومؤسّساتها، وستعاني الكنيسة من الجماد والاستنساخ وستغرق في مشاكلها المتنوّعة والمتعدّدة أكثر فأكثر، ما لم تتبنّ الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكيّة مشروع إصلاحها والعمل على إنجازه.n