2019

8. تحقيق - أمّا اليتيم فلا تقهر - لولو صيبعة – العدد الثامن سنة 2019

أمّا اليتيم فلا تقهر

لولو صيبعة

 

 

أراه كلّ أحد يأتي إلى الكنيسة باكرًا، يهتمّ بالشمع وجمع تبرّعات المؤمنين. ليس وكيلًا، إنمّا حبّه للمساعدة وللكنيسة يدفعه إلى الخدمة. صديق لمجلّة النور ينتظر كلّ عدد منها بشوق. لطيف يحيّي الجميع كبارًا وصغارًا، وزوجته الجميلة تدخل القلب بلا استئذان.

اسم على مسمّى نبيل سمته النبل والرقيّ، وحاتم من شيمه الكرم والعطاء، نظير سميّه حاتم الطائيّ. درس الاقتصاد وعمل في نطاق المصارف، وهو مستشار في التطوير الاستراتيجيّ، ومدير عامّ جمعيّة تجّار بيروت.

غاب فترة عن كنيسة القدّيس نيقولاس، وهذا ليس من عاداته. سألت عنه مطمئنّة، قيل لي إنّه في الهند. للوهلة الأولى حسبت أنّه يقوم برحلة سياحيّة مع زوجته. إلاّ أنّ سيّدة جليلة أكنّ لها احترامًا كبيرًا أسرّت إليّ أنّ السيّد نبيل وزوجته في الهند يزوران ميتمًا في كيرالا الجنوبيّة.

انتظرت بفارغ الصبر عودة السيّد نبيل وزوجته لأنّ الفضول كان يتآكلني. وفي صباح الأحد عند انتهاء القدّاس الإلهيّ اقتربت منه وسألته. في البدء لم يودّ الإجابة. أدهشني تواضعه وتمنّعه عن إجراء لقاء معه حول هذا الميتم، انطلاقًا من قول الربّ «فإذا صنعت صدقة فلا تصوّت قدّامك بالبوق، ومتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء». وبعد أخذ وردّ وإلغاء موعد تلو آخر التقت مجلّة النور السيّد نبيل وزوجته الرائدة في المحبّة والعطاء.

على شرفة مطلّة على البحر الأبيض المتوسّط، تتناثر فيه السفن كأنّها نجوم في سماء صافية، طالت الجلسة وانتقلنا فيها بالروح والقلب إلى تودوبورا وإلى ميتمها.

كيف انطلق عملك في هذا الميتم؟

- كنت في رحلة سياحيّة مع زوجتي إلى شمال الهند، إذ بأحد أصدقائي يتّصل بي طالبًا منّي مساعدة ميتم في كيرالا. سألته عن بعض التفاصيل فأجابني وبالفعل تـوجّهنا إلى المنـطـقـة الـجـنـوبـيّـة واستـضافـتـنـا مـؤسـّسـة

Mother and Child Foundation التي بحسب تسميتها تعتني بالطفل اليتيم والمشرّد والهارب من البيت بسبب الفقر أو وفاة الأهل أو سوء المعاملة والاستغلال والتعدّي الجنسيّ والمخدّرات، وتهتمّ أيضًا بالأطفال الرضّع الذين يُرمَون على الطرقات وقرب حاويات النفايات. وهناك أيضًا الفتيات القاصرات (من 9 إلى 12 سنة) اللواتي يتعرّضن للاغتصاب. إذ عندما تكتشف العائلة هذه الحالة تُطرد الفتاة من المنزل ولا مكان لها تأوي إليه سوى هذه المؤسّسة.

تعرّفت إلى طبيعة المكان والخدمات المقدّمة. هناك مبنى مقسّم إلى غرف، وقاعة مخصّصة للطعام والاجتماع. المؤسّسة منظّمة ومرخّصة من قبل الدولة، لكنّ هذه الأخيرة لا تساعد الميتم بسبب التعصّب الدينيّ. هذا غير مهمّ فاللَّه أبو اليتامى، ينصرهم ويدافع عن حقّهم ويحميهم، ويطلب ذلك منّا أيضًا؟

كيف نشأت هذه المؤسّسة؟

- تقع هذه المؤسّسة في قرية تودوبورا في مقاطعة إيدوكي، وتبعد عن مدينة كوتشي البحريّة نحو ساعتين. يرتبط تاريخها بعائلة قديمة وعريقة عُرفت بأعمالها الخيريّة. ومنذ العام 2000 حقّقت العائلة كلام الربّ يسوع حين قال «أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم»، فاهتمّت بالفقير وحوّلت منزلها الكبير إلى مأوى للمعوزين. كما تبرّعت لاحقًا بأرض لبناء منزل لائق لأطفال الشوارع. واليوم يتّسع المبنى لنحو 200 طفل، ويديره السيّد جوشي ماثيو مع زوجته، وتعمل معهما ثلاث عاملات اجتماعيّات ومحاسبة وأربع نساء يعملن في مطبخ بدائيّ على الحطب. يضاف إلى من سبق ذكرهم أكثر من طبيب نفسانيّ يتناوبون على متابعة الحالات كافّة، لأنّ لكلّ ولد أو بنت قصّة تدمع لها العين وينفطر لها القلب. ويجري أيضًا في هذا المركز تدريب العاملات الاجتماعيّات لينطلقن إلى العمل في مياتم أخرى أو في مراكز اجتماعيّة في أرجاء الهند.

ماذا وجدت عندما وصلت؟

- المكان بعيد عن الحضارة، النظافة معدومة على كلّ المستويات، الحشرات كثيرة وكذلك الروائح، الأطفال شبه عراة. فأدركت حينها أنّ الفقر في لبنان هو رفاهية في الهند. الشعب بسيط جدًّا وهم قريبون من الطبيعة يكبرون بين حقول الأرزّ والأناناس وجوز الهند. وأيقنت أنّه يجب أن أكون صلة وصل بين اللَّه وهذه الفئة من الناس، وأنّ اللَّه أرسلني إلى هذا المكان لغاية يعرفها هو وحده، وقد مدّني بالقوّة والعزم وساعدني على إنجاز رسالتي. إنّها رسالة ومسؤوليّة مهمّة يجب أن أتمّمها ليرتاح ضميري. وصرت أتوجّه إلى الميتم ثلاث أو أربع مرّات في السنة، وأصبحوا ينتظرون قدومنا حتّى إنّهم يصطحبوننا من المطار بحافلة هنديّة قديمة لكنّها تفي بالغـرض. تصـوّري أنّ طفلـة عانـقـتني بقوّة وسألتني أتريد أن تكون أبي؟ فهل يمكنك أن تتجاهلي هذه الحاجات الأساسيّة؟

كيف تطوّرت علاقتك بهذا الميتم؟

- تساءلت ماذا عليّ أن أفعل؟ هل المساعدة الماليّة تكفي أم أنّ المركز بحاجة إلى تطوير إدارته وتنظيم أهدافه وميزانيّته؟ أضف إلى ذلك ضرورة المساعدة النفسيّة، لأنّ 90% من المشاكل هي نفسيّة. وهناك أيضًا ضرورة التوعية والمتابعة الطبّيّة وصحّة الأسنان والنظافة الشخصيّة والعامّة. ونحن نهتمّ أيضًا بالإرشاد والتوعية حول المخدّرات. تصوّري أنّ هناك آباء يتعاطون المخدّرات ويجبرون أولادهم على تعاطيها. أريد أن أخبرك عن أولاد الشوارع، هؤلاء يتجوّلون ومعهم تحت قميصهم زجاجة أتعلمين لماذا؟ إذا لم يجدوا شيئًا ليأكلوه يضعون قليلًا من البنزين في الزجاجة ويتنشّقونه فيتخدّرون وينامون على معدة خاوية وعلى رئتين مليئتين بالبنزين.

ما هي أهداف هذا المركز؟

- وضعنا خمسة أهداف هي:

أ- الحماية (حماية الفتيات من الاغتصاب ومن المخدّرات ومن العنف داخل البيت إن كان من زوج الأمّ أو من زوجة الأب)، ونسعى إلى أن نقدّم لهنّ عالمًا آمنًا وملاذًا يقيهنّ شرّ المعتدين.

ب- تأمين الخدمات الصحّيّة

ت- توفير الحاجات الأساسيّة

ث- التعليم

ج- التسلية والترفيه

مهمّتنا أن ننثر البذار الأوّل والسعادة والتقدّم في قلوب الأطفال المعدومين. لأنّنا نؤمن بأنّ كلّ طفل قادر على النجاح في الحياة. وبهدف خلق جوّ آمن ومريح علينـا أن نوفّـر لـه مكانًا نظيفًا وأمًّا تحتضنه، ولباسًا وطعامًا وكلّ مستلزمات الحياة الكريمة. وعلى رأس كلّ مجمـوعة أولاد أمّ تهتمّ بشـؤونهـم وترعاهم كما لو كانت أمّهم.

بنينا كلّ النشاطات حول هذه الأهداف. فبعض الفتيات يتعلّمن مهنة التمريض فهناك سيّدة تبرّعت بتعليمهن بقسط رمزيّ. كما أنّ أحد الشبّان صار أستاذًا في جامعة مدراس بعد أن درس هندسة الطيران. وشابّ آخر أصبح طيّارًا.

وأنشأنا مكتبة ومركز كومبيوتر ليتعلّم الأولاد كيف يستعملون التكنولوجيا الحديثة، طبعًا مع الانتباه إلى ما يشاهدون. كلّ من كان عنده كومبيوتر قديم تبرّع به وحملته معي إلى المركز.

واتّفقنا أيضًا مع بعض المدارس لتعليم الأطفال بأقساط رمزيّة ولقينا تجاوبًا كبيرًا.

وكان علينا أن نجد مصادر تمويل فأنشأنا فرقة موسيقيّة تعزف في المناسبات وأمّنّا لها الآلات والثياب الخاصّة. واكتسبت الفرقة شهرة وأصبحت تشترك في كلّ الاحتفالات الدينيّة في الكنائس، وهذا يؤمّن مردودًا على المركز، والناس يستمتعون بالموسيقى. وهناك أيضًا سيّدة جليلة تدعى بيندو أخذت على عاتقها تعليم الأولاد صنع المسابح وتباع هذه في الكنائس وهذا مردود مادّيّ آخر للمركز.

كما أسّسنا رابطة خرّيجي المركز، ونحن على تواصل يوميّ بواسطة الهاتف.

كيف يؤمّن الغذاء اليوميّ؟

- يقدّم المركز خمس وجبات يوميّة، والطعام يرسله أهل القرية في أغلب   الأحيان. وعندما أكون مع زوجتي هناك نحضّر لهم عشاء بيتزا أو همبرغر، ونحيي عيد ميلاد الأولاد. كان هناك نقص في الحليب لأنّه يستورد من ولاية مجاورة. وبهدف تأمين الحليب اشترينا بقرة نستفيد منها بالحليب والفائض يباع، وأصبح هناك أكثر من بقرة. وهناك مشروع أيضًا لتربية الدجاج والماعز. وفي عيد الميلاد تحضر زوجتي الحلوى الخاصّة ونقيم حفلة توزّع فيها الهدايا. باختصار نحن نعمل لنفرّح قلوب الأطفال ولنعيد إليهم الأمل بغد أفضل.

كيف تصف لنا الوضع الروحيّ؟

- في المركز كنيسة صغيرة فيها أيقونة قدّيس محلّيّ اسمه بطرس دونديز وهو يعتني بالأطفال. وقدّم لنا الأب ألكسي (مفرج) كاهن رعيّة القدّيس نيقولاوس أيقونة شفيع الكنيسة وعُلّقت في كنيسة المركز، والمطران المحلّيّ ويدعى «بيجو» كرّس الكنيسة والأيقونات. وكلّ يوم تقام الصلاة مدّة ساعة ونخصّص نصف ساعة للتأمّل.

هل لاحظت فرقًا؟

طبعًا وأهمّ شيء هو النظافة الشخصيّة والعامّة، والعلاقة مع الآخر والانفتاح على العالم ومستوى التعليم وبخاصّة تعلّم اللغة الإنكليزيّة. نحن بدأنا نتردّد على الميتم منذ العام 2012 وبعد سبع سنوات لمسنا تطوّرًا كبيرًا من حيث التعليم ومن حيث التعامل مع الآخر، فهناك أولاد كانوا لا يتكلّمون البتّة بسبب المصائب التي حلّت بهم. أمّا اليوم فتجدهم قد انقلبوا رأسًا على عقب، تمامًا مثل حياتنا التي تغيّرت منذ أن تعرّفنا إلى هذا المركز. أريد أن أروي لك حادثتين لأبيّن لك كيف تحوّلت حياة هؤلاء الأولاد. ذات صباح شاهدت فتاة اسمها إكسا فقلت لها أنت جميلة اليوم وتبتسمين، فأجابتني لأنّي ألبس الابتسامة التي أعطتينا إيّاها ورسمتها على وجهي. أمّا جوزف الشابّ الذي يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وهو منحنٍ إلى الأرض تمامًا كالمرأة التي شفاها الربّ يسوع في المجمع يوم السبت، فكنت قد وعدته بإجراء عمليّة جراحيّة ليقف على قدميه كسائر الأولاد، طبعًا إذا كان ذلك ممكنًا طبّيًّا، وكان يحدّق بناظريه في وجهي فقلـت له لماذا تنظر إليّ هكذا، أجاب أودّ أن أتذكّر وجهك جيّدًا حتّى أتذكّره يوم القيامة وأقف إلى جانبك. صـدّقيني أنّني في تلك اللحظة رأيت في عينيه وجه يسوع.

هل هناك من متبرّعين محلّيّين أو لبنانيّين؟

- المتبرّعون قلائل جدًّا لكنّ اللَّه لا يتركنا ونحن نتكّل عليه.

وكان لقاء ثانٍ مع السيّد نبيل لمتابعة التحقيق واختيار الصور التي احترت بينها، فكلّها تنمّ عن محبّة كبيرة ليسوع ولصغاره. والمفاجأة أنّ السيّد جوشي اتّصل بنا  مطمئنًّا بعد أن استمع إلى الأخبارعن لبنان، وحزن جدًّا عندما علم أنّ السيّد نبيل وزوجته لن يتمكنّا هذه السنة من الاحتفال بعيد الميلاد معهم في الميتم. وكانت فرصة جميلة أن أتعرّف إلى من هو صاحب المبادرة الإنسانيّة. ولكـنّ الخبر المـحزن الـذي نقله إلينا هـو أنّ خلال الأشـهـر الثلاثـة الماضـيـة أربع عشـرة فتـاة اغتـصبن وجيء بهنّ إلى المركز، حتّى إنّ أربعًا منهنّ حاولن الانتحار.

هل من كلمة أخيرة؟

- أودّ أن أقول فقط أنّ لديّ حياتين، حياة أعيشها، وحياة أعطيها. يمكن باللغة الإنكليزيّة واضح أكثر: 
I have two lives, one life to live, one life to give. 

هؤلاء الأطفال ملائكة جنت عليهم الحياة ونحن إذ نتعني بهم نخدم اللَّه وملائكته. فليعطنا الربّ القوّة لنتابع رسالتنا ليس في الهند فقط بل في كلّ مكان.

عزيزي القارئ بعد هذا التقرير عن ميتم تودوبورا كيف قرّرت أن تمضي الأعياد هذه السنة. ليس من الضروريّ أن تذهب إلى الهند أنظر فقط من حولك فهناك كثيرون يحتاجون إليك، وهؤلاء الصغار أوصى بهم يسوع المسيح وتماهى معهم. وكلّ عام وأنت بخير.

أين تقع كيرالا؟ هي ولاية في جنوب غرب ساحل مالابار مساحتها 39 ألف كلم2، يعيش فيها 34 مليون نسمة بكثافة 860 نسمة في كلّ كلم2. ولها شاطئ طوله 590 كلم. اشتهرت بأنّها مركز بحريّ لتجارة التوابل على المحيط الهنديّ. وهي تنتج جوز الهند والشاي والبن والكاجو والتوابل. سيطر عليها العرب في القرون الوسطى، ولكن مع وصول البحّار ڤاسكو دي غاما إلى الهند العام 1498 انتهت سيطرة العرب على هذه الطريق، إذ هاجم البرتغاليّون ممتلكات العرب واحتلّوها بعد نزاع مسلّح وتمركزوا وأنشأوا المصانع والقلاع.

الديانة الهندوسيّة هي الأكثر انتشارًا، وهناك أقلّيّتان مهمّتان المسيحيّة والإسلام. وبحسب إحصاء 2011 هناك:

54,73% هندوس/ 26,56% مسلمون/ 18,38% مسيحيّون. تضمّ كيرالا أكبر نسبة مسيحيّين في الهند، ويروي التقليد أنّ المسيحيّة وصلت إلى الهند في العام 52 للميلاد على يد الرسول توما أحد الرسل الاثني عشر. الكنائس في الهند هي الكنيسة السريانيّة الأرثوذكس، السريانيّة الكاثوليكيّة والإنجيليّة والكاثوليك وهؤلاء أي الكاثوليك وصلوا نتيجة الإرساليّات البرتغاليّة في القرن السادس عشر.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search