2019

10. الإيمان على دروب العصر - قايين أو العنف المتأصّل - د. جورج معلولي – العدد الثامن سنة 2019

قايين أو العنف المتأصّل

جورج معلولي

 

 

يظهر قايين في بدء السرد (تكوين 4) إنسانًا متحدّرًا من الطبيعة البشريّة الأولى بنعمة من اللَّه: «وعرف آدم حوّاء امرأته فحبلت وولدت قايين». وقالت: اقتنيت رجلًا من عند الربّ» (تكوين 4: 1). يظهر قايين هكذا متّصلًا بالبشر وباللَّه. سيفقد قايين هذا الاتّصال بعد تجربة العنف ويصبح تائهًا وحيدًا في مدينة الضياع مقطوعًا عن اللَّه والبشر. 

يؤدّي هابيل دورًا خجولًا مقابلة بأخيه. ينبئ اسمه بمصيره: في اللغة العبريّة يذكّر اسم هابيل بالبخار الذي يظهر ثمّ يزول سريعًا. المعنى ذاته في افتتاح سفر الجامعة: باطل الأباطيل كلّ شيء باطل أي زائل كالبخار (والاشتقاق اللغويّ عينه في العبريّة بين «هابيل» و«باطل الأباطيل»). يظهر هابيل ليختفي سريعًا كأنّه صورة عن معطوبيّة الطبيعة البشريّة التي ما تلبث أن تتلاشى كالهباء.

يقدّم الأخوان تقدمة للربّ من دون أن يطلب منهما هذا. تبدو هذه التقدمة صامتة من دون كلمات: «وحدث من بعد أيّامٍ أنّ قايين قدّم من أثمار الأرض قربانًا للربّ، وقدّم هابيل أيضًا من أبكار غنمه ومن سمانها». من دون أيّ سبب «نظر الربّ إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر». كيف اكتشف الأخوان هذا(١)؟ قيل الكثير في التفسير القديم والحديث حول تصرّف اللَّه غير المفهوم وقيل الكثير لتشويه صورة قايين.

وراء خبرة الأخوين هذه خبرة بشريّة يوميّة تكمن في أنّ الحياة ليست دومًا عادلة، وأنّ الاختلافات بين البشر ليست قابلة دائمًا للتفسير. فالأرض التي يبذرها المزارع لا تنبت له محصولًا على قدر توقّعاته، وقد يظنّ المزارع أنّ اللَّه يرزق هذا ويغلق أحشاءه عن ذاك أو كأنّ رضاه اعتباطيّ. في نصّ تكوين 4، يواجه قايين هذه الخبرة التي لا بدّ من أن يعبر بها كلّ إنسان أي أنّ الاختلاف بين البشر لا مهرب منه. «فاغتاظ قايين جدًّا وسقط وجهه». هذه خبرة يصعب تحمّلها، كما توحي أيضا قصّة يوسف مع إخوته الذين اختبروا تفضيل والدهم ليوسف فحنقوا عليه، وأرادوا قتله.

غير أنّ اللَّه لا يرفض قايين بل يكلّمه كما يكلّم الأب ولده، في آية يبقى معناها عسير الفهم: «قال الربّ لقايين: لماذا اغتظت؟ ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا ترفع الرأس؟ وإن لم تحسن فعند الباب خطيّة رابضة، وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها». هذا أوّل ظهور لكلمة «خطيئة» في كتاب التكوين. هل يكون العنف هو الخطيئة الأولى عند البشر؟ أقلّ ما يقال إنّه هو التعبير الأقوى لتفشّي الخطيئة في الكيان البشريّ. تظهر الخطيئة في هذه الآية كحيوان رابض عند باب المنزل (أو باب النفس) تشتاق إلى أن يستجيب لها قايين. ماذا يصنع قايين بشعور الخيبة والمرارة والغيظ؟ بعد أن اغتاظ وسقط وجهه، أنجبت المرارة على باب نفسه إمكانيّة خطيئة تتلهّف للدخول. ولكن له أن يسود عليها رغم اشتياقها إليه كما يوضح له اللَّه. تظهر هكذا الخطيئة (أو مبدأ كل خطيئة) ناتجة من عدم قدرة الإنسان على إدارة انفعالاته وتدبيرها، ما يترك الباب مشرّعًا على ظهور العنف. على الإنسان أن يفهم إمكانات الراحة لديه بواقعيّة، وأن ينظّم معيشته (وحياته الداخليّة) أيضا في الظروف الصعبة بحكمة. 

رغم التنبيه لا يتمكّن قايين من التعامل مع غيظه. «وكلّم قايين هابيل أخاه» ولكنّ النصّ ينقطع هنا (الآية غير مكتملة في النصّ العبريّ). تختنق الكلمات في حنجرة قايين. تكمل بعض المخطوطات الجملة فتقول «فلنذهب إلى الحقل». ولكن ينبغي أن نأخذ على محمل الجدّ انقطاع النصّ وغياب الكلام. هل حاول قايين أن يكلّم أخاه بعد التنبيه الإلهيّ و لكنّه ما استطاع؟ الجريمة الأولى وتفجّر العنف في البشريّة مرتبطان بعدم القدرة على الكلام، أي بفشل التواصل.

«فقال الربّ لقايين: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أعلم! أحارس أنا لأخي؟ فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوّتها. تائهًا وهاربًا تكون في الأرض». في قصيدة عن قايين يدمج فيها فيكتور هيغو بين عين اللَّه وعين الضمير، يحكي الشاعر عن قايين الهارب من عين اللَّه التي تلاحقه أينما ذهب وتحدّق فيه في ظلام الليل. فيهرب ويهرب أيّامًا أيّامًا ويبني حوله جدرانًا سميكة كالجبال ويكتب عارضةً كبيرة: «يمنع اللَّه من الدخول». ولكن عبثًا يحاول الاختباء. وفي نهاية أيّامه يحفر في الأرض ليسكن تحت التراب. وهناك، بعد أن ذرّوا التراب على جبينه، كانت عين اللَّه تنظر إليه في القبر.

«فقال قايين للربّ: «ذنبي أعظم من أن يحتمل. إنّك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كلّ من وجدني يقتلني». فهم قايين أنّ عنفه أطلق حلقة العنف في العالم. هو، القاتل، يخشى الآن أن يقتل. «فقال له الربّ: لذلك كلّ من قتل قايين فسبعة أضعافٍ ينتقم منه». هل ندخل هنا في سلسلة القتل والانتقام التي لا تنتهي؟ يكمل النصّ: «وجعل الربّ لقايين علامةً كيلا يقتله كلّ من وجده»، في محاولة لكسر حلقة العنف وإيقافها. وخرج قايين من لدن الربّ، وسكن في أرض نودٍ أي في أرض الضياع، هائمًا على وجهه.

يبني قايين مدينة وينحدر من صلبه موسيقيّون وحدّادون وبناة حضارة. لا يمنع العنف ظهور الحضارة و التقدّم التقنيّ. تبقى الحياة ممكنة رغم العنف. هل تكون الحضارة طريقًا لإدارة العنف أو توجيه طاقته إلى مستويات إنسانيّة أرفع؟ تبقى الحياة ممكنة ولكنّها سريعة العطب تهدّدها فورات مفاجئة من العنف: «وقال لامك لامرأتيه عادة وصلّة: اسمعا قولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي. فإنّي قتلت رجلًا لجرحي، وفتى لشدخي. إنّه ينتقم لقايين سبعة أضعافٍ، وأمّا للامك فسبعةً وسبعين».

يعود السرد إلى الجدّين الأوّلين فاتحًا إمكانيّة ولادة جيل جديد من البشر: «وعرف آدم امرأته أيضًا، فولدت ابنًا ودعت اسمه شيثًا،... ولشيث أيضًا ولد ابن فدعا اسمه أنوش. حينئذٍ ابتدئ أن يدعى باسم الربّ». للوهلة الأولى يبدو هذا التأكيد على البدء بإعلان اسم الرب في نسل أنوش، مناقضًا  لنصّ خروج 3 و6 حيث يعلن اللَّه اسمه لموسى لأوّل مرّة. غير أنّ تركيز نصّ تكوين 4 هو على الدعاء أي استعمال الكلام في عبادة الربّ. قدّم هابيل وقايين تقدمة صامتة، من دون أيّ كلام من الواحد للآخر، ومن غير أي ّكلام موجّه إلى الربّ. الإنسان مدعوّ إلى الكلام مع أخيه ومع اللَّه لإدارة فعّالة للعنف وأسبابه. وحده التواصل يبني حضارة السلام. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search