هذا العالم إلى أين
مهى عفيش
كثيراً ما يشعر المسيحيّ الملتزم في هذه الأيّام، وفي وسط المجتمع المعاصر الذي في قمّة الغليان والتشوّش والاضطراب، بأنّه «وحده غريب عن أورشليم». ألعلّ هذا هو العالم الذي نشأ فيه؟ هل ما زال يستطيع أن يردّد على مسامع أولاده ما سمعه من والديه، أو أنّ المرادفات تغيّرت والظروف تبدَّلت...؟ ماذا يحدث؟ ألم يتغيّر وجه هذا العالم منذ سنوات قليلة؟ وفي أيّ اتّجاه؟
ألسنا نشهد اليوم «تسويقًا» مدروسًا لكلّ ما يناهض الكنيسة، وحملاتٍ مبرمجة تهدف إلى زعزعة الكيان المجتمعيّ والقيم الأخلاقيّة والفضائل البشريّة؟
ألم يبدأ كلّ شيء بالأفكار التي يصفونها بالـ«تحرّريّة»، وها هم الآن يزرعونها حتّى في عقول أولادنا منذ عمر الطفولة، ومنها: «أنا حرّ... أستطيع اتّخاذ القرار الذي يعجبني»... و«هذه حياتي»...؟ وهو ما يحدث فعليًّا. والنتيجة أنّه ما دام لكلّ إنسان الحقّ في فعل ما يريد، فيجب ألاّ يتعجّب الآخرون، أو يستهجنوا، أو يعترضوا. فجأة أصبح كلّ شيء طبيعيًّا. وتاليًا أصبح كلّ شيء صوابًا. ولعلّ كلمة الرسول بولس التي كتبت منذ نحو ألفي عام: «كلُّ شيءٍ يحقُ لي ولكن ليس كل شيء يوافق» كانت تستهدف هذه الأيّام تحديدًا.
نظرة إلى الخلف لسنوات قليلة فقط تبيِّن أنّ القوانين المجتمعيّة والأخلاقيّة تضاءلت وبدأت تتلاشى، بل صارت في أحيان كثيرة مثارًا للتهكّم والاستهزاء. اليوم صار من المقبول مثلاً أن نسمع ونشهد الخيانة الزوجيّة، والمساكنة، والمثليّة... والذين يفعلون هذه الأمور عادوا لا يكلِّفون أنفسهم عناء إخفائها، بل صاروا يجاهرون بها من دون حياء، فيما يتقبّلها الآخرون ببساطة ومن دون اعتراض أو انتقاد، بعدما كانت في الماضي القريب تستدعي الاشمئزاز والاحتقار. كما كانت تستتبع عقوبات قانونيّة متفاوتة، حتّى في دول الغرب.
نجح الشيطان في الغرب في تسويق الإجهاض، كما شرَّعت حكومات كثيرة وضعَ المثليّين، ثمّ سمحت لهم بالزواج، وأخيرًا بتبنّي الأولاد... فصارت كلّ هذه أمورًا يوميّة دخلت في صلب النسيج الاجتماعيّ الغربيّ، وهي تشقّ طريقها إلى مجتمعاتنا الشرقيّة بسرعة. منذ زمن قريب كان يدعى هؤلاء «شاذّين» فصاروا «عاديّين»، ولعلّ هذا أخطر ما في الأمر. وليرأف اللَّه بنا إن كانوا سيصبحون يومًا هم «القاعدة» والباقي الشواذ.
هل زال ذلك الخطّ الذي كان يفصل بين الخطأ والصواب؟ بين المقبول وغير المقبول؟ بين المسموح والممنوع؟
وحتّى القتل، والمجازر الجماعيّة، والحروب... بتنا نتقبّلها ببساطة وعادت لا تثير فينا لا الرفض ولا الاشمئزاز ولا حتّى الخوف...
ولو أردنا التطرّق إلى تهزيل ممارساتنا الدينيّة وأوّلها القدّاس الإلهيّ (الذي صار يُقام خارج الكنيسة وفي أماكن غريبة)، وسرّ الزواج (الذي قارب أن يتحوّل إلى مهرجان للأزياء البعيدة عن الحشمة...)، وسرّ المعموديّة (الذي حوَّله البعض إلى احتفالات ومآدب للرقص)...، لطال بنا الكلام وملأنا الصفحات.
أليس كلّ ذلك بهدف هدم القيم الروحيّة والإنسانيّة وحتّى المجتمعيّة التي أرستها البشريّة منذ العهود القديمة، ثمّ أتت المسيحيّة وثبَّتت الكثير منها على قواعد المحبّة واحترام حرّيّة الأخ، وأهمّيّة الآخر للسير معًا على درب الخلاص؟
المؤسف أنّ العمل جدّيّ ومبرمج لتسويق عمليّة «تشويه» الإنسان الذي هو كائن متفوّق وسامٍ مخلوق على صورة اللَّه. والهدف تحويله إلى حيوان مطلق العنان، يعيش بحواسّه الأرضيّة وفي بؤرة ابتعاده عن اللَّه.
هل هذا هو العالم الذي ولدنا فيه ونشأنا على مبادئه التي ظنّنا أنّها ثوابت؟
نخشى اليوم أن تكون بعض الكلمات قد توارت عن الاستعمال، وربّما تحذفها الطبعات المستقبليّة من القواميس، لكونها “منتهية الصلاحيّة” أو لأنّها فقدت كلّ معنى وباتت جوفاء. من نوع:
- «هذا عيب»، أو «لا يجوز»، أو «غير مقبول»...
- «الأصول يا ابني أن تفعل هذا أو ذاك...»
- «هذا صحّ... هذا غلط»...
فما هو سلاحنا الدفاعيّ في وسط هذه الحرب الضروس التي لن تلبث أن تؤدّي إلى خراب المجتمعات وانحطاط الإنسان الروحيّ وحتّى الجسديّ والنفسيّ؟ هلمّ نستلهم روح الربّ، الروح القدس، ليقودنا. هلمَّ نرجع إلى جذورنا، متمسّكين بإيماننا وتقليدنا الأصيلَين، فلا تحملنا رياح التحضُّر التي بدأت انفتاحًا وحرّيّة، وإذا بها ترمي إلى تدمير الكنيسة التي ابتناها الربّ يسوع بدمه الكريم على الصليب.
وإن تساءل أحد عن دور المؤمنين الأرثوذكسيّين في هذا العالم، لأجبناه من رسالة الرسول بولس: «لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَدًا ِللَّهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ»... وللإضاءة ينبغي الالتصاق بالنور الحقيقيّ والمصدر الذي ينبعث عنه كلّ نور، الربّ يسوع، له المجد إلى كلّ الدهور، آمين.n