2019

12. خاطرة - غربة بعد غربة - كارولين طورانيان – العدد السابع سنة 2019

 

غربة بعد غربة

كارولين طورانيان

 

 

ترك المسيحيّون بلادهم في الشرق ووجّهوا بوصلتهم نحو الغرب أملًا بغد أفضل، وحلموا بكنيسة ترعاهم وتخفّف عنهم غربتهم، لأنّ كنيستهم الأمّ انشغلت عنهم ولم تهتمّ لأمرهم. انتقلوا إلى بيئة مختلفة وإلى ثقافة مختلفة فماذا وجدوا؟ وجدوا كنيسة تتخبّط في مشاكل عدّة، كنيسة تواجه تحدّيات جمّة.كيف يمكن لهذه الكنيسة أن تجمع أولادها تحت جناحيها كما تحتضن الدجاجة فراخها؟ كيف ترعى القادمين إليها على اختلاف طباعهم ومشاكلهم وضعفاتهم، من أين تؤمّن المال الكافي لتساعدهم على الاستقرار؟ كيف توفّر لهم مكانًا للصلوات والاجتماعات؟ أين تبحث عن الناس المشتّتين الذين لا يذهبون إلى الكنيسة إلّا في الأعياد الكبرى والمواسم؟ كيف تساعد المؤمنين الذين يجاهدون في تعليم أولادهم تعليم الكنيسة الصحيح؟ كيف تساعد أبناء المهاجرين المراهقين على التأقلم مع البيئة الجديدة، فهم يأتون من مجتمعات مسيحيّة مختلفة، ومن بيئة منغلقة ولا يعرفون كيف يتصرّفون في عالم طغت عليه الدهريّة، فيصطدمون بتحدّيات لا عدّ لها ولا حصر، منها على سبيل المثال الحداثة والإلحاد والعلم والحرّيّة المطلقة. تتفاقم المعضلة عندما يكبر الأولاد في هذا العالم الجديد، فيتأثّرون بتعليمه ويشرعون في مجادلة أهلهم عبر العلم والحجج المبنيّة على الحداثة وما بعد الحداثة، ويرفضون الإيمان المسلّم مرّة من القدّيسين، ويبقى الأهل على رجاء أن يأتي يوم يؤمن فيه الأولاد فلا ينجرفون في تيّار العولمة والاستهلاك. وتبقى المشكلة الكبرى حين يجاهد بعض الأهالي في النهي عن الجنس قبل الزواج، وأعتقد أنّ التوعية حول هذا الموضوع بشكل علميّ مفصّل غير كافية، إذ لا يخاطب كلام المرشدين حياتهم وتساؤلاتهم وعقولهم.

ومن المؤمنين من انجبوا أولادهم في الغرب ونشأوا في هذا الجوّ وأصبحوا جامعيّين ملتزمين شؤون البيت والجامعة والعمل، يتعطّشون إلى أمثلة عليا تعطيهم ما ينقصهم من معرفة الإيمان والإنجيل والخبرة الحياتيّة العميقة. ومن المؤمنين من تشرّدوا من كنيسة غربيّة إلى كنيسة شرقيّة إلى أخرى لسبب عدم وجود الكنيسة التي ينتمون إليها. هذا بالإضافة إلى الشعور بعدم الانتماء إلى الغرب وإلى ثقافته من جوانب عدّة، وإلى ما يمكن للمؤمن أن يواجه من تحدّيات وصعوبات وتجارب، من دون أن يجد من يلجأ إليه وقت الشدّة. وما يزيد من الشعور بالغربة عدم الانتماء إلى أيّ مكان، وعدم وجود ترابط حتّى مع المجتمع الذي يعيش فيه المهاجر، وعدم وجود أشخاص يمكن للمؤمن أن يرى نفسه فيهم لأنّهم يشبهونه في الفكر والانتماء، فهو ترك من تربّى معهم في الوطن ورحل لأسباب قسريّة. هذه الأمور مع ضغوطات الحياة وتحدّياتها تؤثّر سلبًا في صحّة الإنسان النفسيّة والمعنويّة والفكريّة والجسديّة، بخاصّة إذا طالت مدّتها، إذ يمكن أن تؤدّي إلى الإحباط والاكتئاب والتشاؤم، حتّى إلى الشعور بالضياع وفقدان معنى الحياة وحتّى إلى الانتحار.

ومنهم من تحلّى بالوعي الكافي والالتزام ويعيش تحدّيات عصر ما بعد الحداثة وحده، من دون أن يجد أين يلقي رأسه حتّى يستريح. إلاّ أنّ الأسئلة كثيرة وكذلك الهواجس، وليس من صديق يساعد على الإجابة عنها. ومن الناس من يواجه تحدّيات جمّة في الحياة العائليّة، تتنوّع بين صعوبات التربية وصعوبات تعلّم اللغة وإيجاد سكن وعمل، من دون أن يتعرّض المرء إلى الاستغلال والذلّ والعبوديّة، من بعض أصحاب العمل الشرقيّين الذين تعوّدوا الكذب والاستغلال والسرقة، وجلبوا هذه الآفة معهم إلى الغرب، ليكسبوا المال على حساب من هم بحاجة ماسّة إلى العمل ليعيلوا عائلاتهم.

 وقد تواجه الأُمّ وحدها تحدّيات العمل في ظروف صعبة تفرض تربية الأولاد وتحمّل مسؤوليّة المنزل، هذا عدا الإزعاج الذي يصدر من عائلتها، فلا تجد دعمًا حتّى من كاهن الرعيّة، وهي إذا طلبت منه المساعدة في معاملات الطلاق من رجل غير مسؤول، ألزمها دفع مبالغ طائلة لا قدرة لها على جمعها. من يرعى هذه العائلات في غربتها، غربتها عن الوطن وغربتها عن الكنيسة؟

  أين يكمن العلاج الناجع؟

  كيف نبدأ بجمع شمل الناس تحت سقف الكنيسة، ولا نشرذمهم أكثر فأكثر كيلا نكون سببًا في ضياعهم وهلاكهم. يأتي كاهن جديد من الشرق، على سبيل المثال، شابّ، قليل الخبرة، فلا نجده يشعر مع الآخرين، وإذا سأله أحد أعضاء الرعيّة عن خدمة الفقراء والذين يعانون من الوحدة،  يبادر إلى الكلام على كيفيّة جني المال من المؤسّسات الحكوميّة. كاهن آخر تشكو له ضغط الحياة في الغرب فيبتسم مستغربًا من دون أن يفهم عمق المأساة التي يعيشها الفرد مشرّدًا من دون راعٍ. كيف للمؤمن أن يثق به والبداءة لا خير فيها. يعمل ويعمل في الكنيسة وتمرّ السنين ولا نرى شيئًا جديدًا يتغير، والناس تعاني وليس من يشعر معها، ومن يريد أن يخدم ويعمل في الكنيسة بشكل نظاميّ وشفّاف ومن كلّ القلب ومن كلّ الجوارح، يُحارَب بخاصّة إذا كان مثقّفًا ومتعلّمًا وهو لا يريد شيء غير الخدمة والعطاء والانغماس في الحياة الكنسيّة، والشعور بالانتماء بعد سنين الغربة الطويلة وإيجاد حضن الكنيسة الأُمّ، الحضن الذي هو الصخرة التي يتعلّق بها المؤمن كيلا تأخذه الأمواج إلى حيث لم يرد الربّ له أن ينجرف. نلاحظ بعض الناس يهربون من الكنيسة الواحد تلو الآخر، ومعرفة هذه الأمور سهلة جدًّا في عالم التواصل الاجتماعيّ. نرى مسؤولين في الكنيسة يفتحون أحاديث جانبيّة خلال القدّاس الإلهيّ وخلال المناولة، ولا يكونون مثلًا يحتذي به من يأتي إلى الكنيسة كواجب اجتماعيّ وليس التزامًا واعيًا بالكلمة، هؤلاء يختارون من يريدون حولهم في تجمّعاتهم ويعرفون كيف يرفضون أشخاصًا ليسوا على هواهم، يرفضونهم بشكل منمّق عبر الإهمال وعدم التعاون وعدم الشفافيّة في التعاطي. نرى شبابًا يافعين يخرجون من القدّاس الإلهيّ يوم الأحد، ويقفون في إحدى زوايا الكنيسة ويشعلون سجائرهم ويدخّنون غير آبهين بشيء، كأنّهم لا يعرفون أو لم يتعلّموا أنّهم على صورة اللَّه وهم في هذه الحالة لا يجسّدونها. والنساء كما يقول الكاهن يقمن بأعمال لا يقدر الرجل على إنجازها. نعم جيّد هذا رائع... ولكن يصدمك الواقع وقلّة الوعي فتجد النساء ينظّمن الحفلة تلو الأخرى ويطبخن وينظّفن الكنيسة ولا شيء جديد!! كأنّ هذا هو دور المرأة الوحيد!! والجوقة ترتّل من دون قائد ومن دون تمارين، ولجنة الكنيسة تؤلّف أحيانًا من خمسة رجال وامرأة واحدة، وبعض من هؤلاء لا يعرف شيئًا عن الإنجيل أو عن الثقافة. وقد تسير بعض الأمور بطريقة غير قانونيّة، وإذا واجه أحدهم المسؤولين بالأمر ينكرون ويتهرّبون من الجواب، وبعدها ينبذونه ويلومونه.

وما هو مؤسف أكثر، أنّ الكاهن لا يقوم بأيّ مبادرة جدّيّة أو محاولة للتقرّب من المثقّفين، الذين يريدون أن يعملوا من أجل الجميع والذين يحملون هموم الكنيسة وحدهم منذ عقود. «من يريد أن يكون عظيمًا بينكم فليكن لكم خادمًا»، هذا ما يقوله الربّ في إنجيله. من هو الذي يُعَدُّ كبيرًا في الرعيّة؟ من هو من ينظر إليه الناس بعامّة على أنّه يمثّل اللَّه على الأرض؟ من هو المطلوب منه أن يلمّ شمل الناس ويحاول جدّيًّا وبالتعاون مع الآخرين. رعاية الكلّ من دون تمييز وإيجاد حلول على الأقلّ للمشاكل الوجوديّة والمصيريّة والرعائيّة. أليس هذا مطلوبًا من الراعي الذي ينبغي أن يكون أبًا صالحًا، والذي حسب قول المسيح يبذل نفسه عن الخراف على مثال سيّده؟ وأيضًا ماذا عن المؤمن الفرد الذي عانى ويعاني ويرى، ويعرف كم من التحدّيات واجه هو نفسه ويواجهها الكثيرون حوله لسنين وعقود طويلة، وهو لا سلطة له سوى على حياته الشخصيّة وفي محبّته لبعض من هم حوله؟

هذا غيض من فيض، فكيف لكهنة شباب لا خبرة رعائيّة لهم، لا يشعرون مع الفقير ومع الأرملة، جلّ همّهم تأمين المال للكنيسة قبل الرعاية والمحبّة والتواضع وبذل الذات، أن يرعوا من شرذمتهم الدنيا والغربة وتحدّيات العولمة وتداعياتها، وأن يسعوا إلى خلاص الكلّ من دون تفرقة. ونحن لا نرى ثمارًا حقيقيّة في أعمالهم، سوى تلك التي يصوّرونها هم من بعيد، لكي يظهروا بمظهر المجتهدين لسادتهم. لا بل نرى من ترك الكنيسة ولجأ إلى كنيسة أخرى ونرى غيره يشتكي بصمت مُطبَق. أمام هذا الواقع المرير نسأل لماذا يشعر الإنسان في الكنيسة الأخرى، أيًّا كانت، بالانتماء وبمحبّة الناس الطبيعيّة والعفويّة وغير المصطنعة له، ويُنعش نفسه وروحه بانفتاح البعض عليه، وتقبّله كما هو وانفتاحه عليهم بشكل طبيعيّ وبسيط. هذا ما تحتاج إليه كلّ روح إنسان وتتعطّش إليه لكي تعيش على أمل الاستمرار والعطاء وإيجاد معنى للوجود، في بلاد لا معنى للوجود فيها بدون الكنيسة وبدون رعيّة مُحِبّة، ويجد معنى للحياة ومأمنًا في دنيا الفوضى اللامحدودة، في البلاد التي لا يعرف قساوتها إلّا الذي عاش فيها وتمرمر طويلًا.

هل يجد الخراف من يرعاهم بعد الآن؟ أو أنّ الذي يحظون بالرعاية هم نخبة مُختارة من الكاهن تتلاءم وأهواءه وطموحاته وحبّه لخضوع الناس الأعمى له والانصياع إلى أوامره؟ «شعبي هلك بسبب قلّة المعرفة»، وبسبب رعاة يشرذمون الرعيّة ولا نعرف إلى أين يأخذون الناس..

 تركوا الشرق وتوجّهوا إلى الغرب، ولكنّهم لم ينجوا فأين الملاذ؟ ماذا بعد؟n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search