2019

11. 11 – تأمّل (١) - طريق جبل القدّيسين – آثوس - جان توما – العدد السابع سنة 2019

طريق جبل القدّيسين

آثوس

 

جان توما

 

 

1- التأمّل الأوّل من سبعة

-يا جبلًا من رهبان مصلّين، كيف تُعَلّمُنا بالصلاة أن نكون هدوئيّين، عارفين؟

كيف نغدو بالصلاة خَدَمَةً بصمتٍ، عابرين إلى قلوب المؤمنين الزائرين؟

كيف استطعتم بمسرى حياتكم اليوميّة الرهبانيّة أن تزرعوا في الأفئدة محبّة من دون أن تتكلّموا؟ أو تتفوّهوا بغير كلمة الصلاة؟

ماذا عن ذاك الراهب القابع على الشاطىء يستقبل الوافدين بفرح؟ كيف يعرف كلّ واحد مهمّته فلا يتأفّف ولا يتذمّر؟

ألعلّ الطاعة إن سادت استقام التفكير؟ ألعلّ المحبّة إن كانت، تجلّى حينها التدبير؟

- كأنَّ بابل هنا بألسنة ولغات، توحّدهم الكأس المقدّسة، تجمع المتفرّقين، تضمّ المشتّتين بذاك الذي ارتفع على الصليب وصارت به القيامة البهيّة.

- يطوّق البحر سواحل الجبل كالبَخُور المتصاعد من احتراقه لهبًا. يصير الموج قوارير طيب، يأتي بالجياع إلى كلمته فيلقاهم، وبالمساكين فيرعاهم،  وبالفقراء إليه فيأتيهم.

-أيّها الجبل المرتفع واديًّا للقدّيسين وقممًا للساعين وقلالي للناسكين،

أعطنا أن تنزل البركات من صلوات الرهبان شفاعة لنا في قلوبنا وعيالنا ومحيطنا،

أعطنا يا ربّ الجبل أن نكون أديرة في بيئاتنا: هذيذًا باسمك، صلاةً دائمة، حُسنَ خدمة وشهادةَ لمحبّيك.

- من زار الجبل لن يتركَهُ، يبقى في قلبه مراع خضر، هناك حيث الأيائل تطفر في الربى، تشتاق إلى ينابيع المياه، لعلّ بحر جبل آثوس صار للعطاش إلى بِرّ الله سبيل نور وضياء،حيث قلبك معلّق كالسحبِ بين السماء والماء.

2- التأمّل الثاني من سبعة

جبل آثوس

يكتسب جبل آثوس اسمه من سلسلة الأديار العشرين التي ترى بعضها فيما أنت تنتقل بحرًا إلى الدير الذي يستقبلك. أديار أنّى التفتّ تراها عابقة بالطيب، ساحرّة فتّانة، صوّرتها يد الإله جمالًا ملأى بالحياة الروحيّة الملهمة للمؤمنين الزائرين.

غريب أمر هذه الأديار في جبل آثوس، كما في دير القدّيس ميناس للراهبات في جزيرة إيينا: أبواب مفتوحة وراحة الحلقوم والماء بانتظارك بعد عناء سفر. إنّ كانت الأبواب مغلقة يأتيك راهب مسؤول يفتح لك ما أُغلقَ عليك كي تتبارك وتصلّي. تشعر من ضيافة أديار جبل آثوس أنّك ما عدت القاصد بل المقصود، فالرهبان في خدمتك لأنّك أتيت إليهم من آخر الدنيا إلى هنا حيث أيضًا آخر الدنيا.

أنت هنا تعيش في زمن آخر، وتحديدًا حسب التوقيت البيزنطيّ، ففي دير القدّيس غريغوريوس الذي من اليونان الذي شيّد السنة ١٤٠٠ميلاديّة تجد ساعتين، واحدة حسب توقيت اليوم وأخرى حسب التوقيت البيزنطيّ الذي يتقدّم بأربع ساعات وخمس عشرة دقيقة على التوقيت اليونانيّ، كما تعتمد الأديار التقويم الشرقيّ الذي يتقدّم على التقويم الغربيّ بثلاثة عشر يومًا.

في هذه الأديار تجد آلاف المخطوطات والكتب والأيقونات العجائبيّة، كما تجد رهبانًا يقومون بكلّ الأعمال من المسؤول عن مرفأ الدير إلى رهبان الصيانة والبناء والزراعة. إنّها أمبراطوريّة الرهبان المصلّين العاملين بالحِرَف اليدويّة الخاصّة بالحفاظ على الأديار وصيانتها، إذ ترى مثلًا قطعًا من الحجر المحلّيّ تقوم مكان القرميد.

كما في توزّع الحجر الملوّن توزيعًا فنّيًّا على الجدران، وفي رفع الجلول على الأراضي المحيطة بالأديار بطريقة هندسيّة مبتكرة، إضافة إلى استكمال الطرقات الجبليّة التي تربط بين الأديار لتتكامل مع الخط البحريّ الذي لا يهدأ.

جبل آثوس، متمسّك بالتقليد الرسوليّ فإنَّ رهبانه مصلّون منفتحون مرحّبون بكلّ زائر. فالراهب  يتوجّه إليك بالصلاة ويبخّرك كما يبخّر الأيقونة، لأًنّ كلّ واحد منّا أيقونة للآخر ليتمجّد اسم الربّ بخدمتنا إلى الأبد.

3- التأمّل الثالث من سبعة

القدّيس نيكتاريوس

حين يحملك الشوق إلى قبر القدّيس نيكتاريوس في جزيرة «ايينا» تجد أنّ الطرق كلّها تؤدّي إليها برًّا وبحرًا وجوًّا. في رحلة الحجّ هذه لا تحملك أجنحة طائرة أو أيّة وسيلة نقل، بل تحملك إليه تلك الدقّات التي تلتقطها أذنك حين تضعها، من فوق، على الجانب الأيمن أو الأيسر من قبره الرخاميّ في الدير المرتفع على تلك الروابي الجميلة.

تقعد قرب مقبرته في الغرفة الصغيرة حيث يمرّ الآلاف في مسيرة اعتذار منه، كما اعتذرت منه السلطة الكنسيّة لتعلنه قدّيسًا ذاعت شهرته في العالم الأرثوذكسيّ قاطبة.

تتأمّل في جلستك معه ما جرى وتشهد له معك تلك الشجرة العتيقة التي تظلّل حجر غيابه كما ظلّلته في حضوره، كأنّها العلّيقة الملتهبة إشارة إلى استسلامه للعذراء في مسيرته الروحيّة وجهاده في نهضة الكنيسة رهبنة ورعاية، وهو الآتي من عمله المتواضع في التبغ حيث كان يودع كلّ علبة تبغ آية من الإنجيل لعلّ المستهلك يمتنع عن التدخين.

تأتي قداسة نيكتاريوس من هذه الملاصقة للعمال وبسطاء القوم الذين خرج إليهم في هياكلهم وتعبهم وعرقهم فكانوا له أوفياء في حياته ومماته. لم يترك نيكتاريوس هيكل الربّ، إنّما خرج إلى هيكله القائم في أحبّته المساكين والضعفاء والمشرّدين والمظلومين وقد ذاق طعم السكون والضعف والتشرد والمظلوميّة وبها عبر من عتمة وجعه إلى نورانيّة قداسته.

هذه القداسة عاشها قبل أن تعلنها الكنيسة معتذرة ولعلّ همّه كان في مطرح آخر، في تلك الدروب التي عاش فيها وجهًا بوجه مع تكاليف الحياة الصعبة، فكان يبدّد صعوبتها بإيمانه غير المتزعزع ورجائه غير المنقطع.

للتأمّل صلة.

 

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search