تسليم النور
أضواء من الأب أندريه سكريما
جورج معلولي
يقارب الأب أندريه (سكريما) التقليد عبر قراءة للتاريخ المقدّس مركزها الروح القدس. الحدث المركزيّ هو الصليب: عندما أسلم يسوع الروح، أطلق الروح القدس في العالم ليشهد للحقّ. يظهر الحقّ هكذا تيّارًا دافقًا، يفتح مسام الخليقة على السماوات. ليس للروح القدس وجه خاصّ به: وجهه متعدّد ومتنوّع في جماعة القدّيسين الذين يوقظهم بين الناس. يخترق الروح القدس كلّ واقع ويزيل كمدة الأشياء أي انغلاقها. ليس التقليد ما نتعلّمه ونعلّمه بطريقة مرئيّة وكمّيّة. فالتسليم الأفقيّ من شخص إلى شخص، في الروح القدس، يظهر تسليمًا عموديًّا من ذرى السماء إلينا أي ولادة من فوق (يوحنّا 3 : 7). هذا انفتاح عموديّ، من فوق، للسماء علينا. كلّ التدبير الإلهيّ هدفه أن نجد نقطة الانفتاح هذه، ما نسمّيه في العربيّة «سمت الرأس»، (النقطة التي تقع فوق رأس المشاهد عموديًّا)، فتلتقي العلاقة الأفقيّة بالسماوات المنشقّة عموديًّا.
يسلّم هذا الحقّ كتقليد أي كإرث روحيّ، بخاصّة في علاقة التلمذة. ويدخل التلميذ في حركيّة هذا الروح وجريانه. خلافًا لأساليب التعليم المعروفة، يختفي المعلّم هنا خلف الروح الذي يعبر فيه. هذا الامّحاء – بحسب الأب (سكريما) – شرط من شروط تسليم النور. ذلك بأنّ المرشد هنا رسول يشارك التلميذ سفره في الطريق. يمّحي كي يظهر «الثالث» أي الروح القدس الذي ينقل. هنا ليس التعلّم تعلّمًا تراكميًّا ولا احتراف تقنيات في الصلاة أو المعرفة النظريّة. إنّما التعليم هنا نقل معنى، أو وجهة تضع التلميذ في وضعيّة المسافر المنجذب الى مركز وجوده السماويّ.
هذه الوجهة المشتركة بين المعلّم والتلميذ داخليّة حميميّة تبنيهما من الداخل وفي الآن عينه هي بعيدة المنال تتجاوز كلّ محدود. يبدو السائرون في هذه الطريق حجّاجًا يسافرون إلى اللَّه ويجدونه لأنّه وجدهم أوّلًا. يظهر المعلّم هنا فرصة أو إشارة في مسيرة التلميذ، أو قل إنّه سائح غريب يمتدّ إلى الأمام ويفتح آفاق التلميذ على اللامحدود. هو برق أو شرارة أو قوّة توقظ في التلميذ عطشه إلى الطريق. النموذج بامتياز هو المسيح القائم الذي يظهر لبرهة ثمّ يختفي أمام التلاميذ ليفتح أعينهم على الرؤية الأخرى. يتّخذ يسوع في حادثة تلميذي عمواس اسم «الغريب»: «هل أنت غريب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيّام؟» (لوقا 24: 18). هذا حوار بين السائرين في الطريق و المرافق الغريب. يبقى الغريب غريبًا لأنّه ما زال يمشي، لأنّه لا يتموضع في ما تألفه يوميّاتنا، لأنّه في تحوّل دائم، وكشف دائم لمعانٍ لا عدّ لها ولا حصر. لا يتعرّف إليه التلميذان مباشرة لأنّهما لم يتنبّها إلى حضرته الحقّ قبل كسر الخبز. هو غريب لأنّه لم يعرّف في حضوره نفسه. لذلك يكشف نفسه متجاوزًا فشل الإنسان في التعرّف إليه.
يترك المعلّم نفسه يحمل من الروح هو والتلميذ. يرشدهما الروح إلى الحجّ الروحيّ الذي يسيران فيه. خاصّيّة الرسول الفريدة أنّه عابر: يعبر ويترك لنا أثرًا يحوّلنا. هذا الأثر علامة تدعونا إلى قراءتها وفكّ رموزها كما تفكّ ختوم الرسالة. وفي محاولة الفهم هذه (أي فتح الرسالة) ينفتح لنا فضاء جديد لا يرقى إليه غير المسافر الذي فكّ هذه الختوم.
يظهر كلّ التقليد المسيحيّ هكذا نسيجًا شفّافًا يكشف في عالمنا ما لا يحتويه هذا العالم. هذا تقليد حيّ لا ينكشف إلّا في علاقة الأشخاص الذين يحملونه وإلّا أصبح شيئًا من أشياء التاريخ، متحفًا للحضارة وسببًا للشجارات. لا يمكننا أن نسجن هذا الإرث في مؤسّسة بل هو روح نبويّة في وجه كلّ مؤسّسة. كان آباء الصحراء يهربون من جموع الناس، ينسحبون إلى عمق الصحراء، ولكن عند الحاجة كانوا يظهرون في الكنائس ليذكّروا الكهنة وكلّ المؤمنين بأنّ المسيحيّ حاجّ مسافر ليس العالم منزلًا له بل طريق. أن نبقى سائرين في طريق الروح أساس في هذا التقليد. تجد الطريق الباحث عنها فتصبح الدعوة قوّة جاذبة له وهدفًا. هذه عناية إلهيّة وتدبير: إنّنا نجد الطريق لأنّ اللَّه سبق فرآنا ووجدنا. فيظهر وجودنا لغزًا واتّجاهًا ومعنى: هو لغز لأنّ الطريق لا تنكشف إلّا خلال السير فيها. وترسل لنا العناية الإلهيّة أشخاصًا يسهّلون لنا السير في الطريق. المكان الأوّل لهذا اللقاء هي الكلمة نفسها في الكتاب المقدّس وكتابات الآباء. يظهر الكتاب هكذا كتابًا للسائح يرشده من مقام إلى مقام. وتنكشف لنا خريطة كاملة إن تنبّهنا إلى محطّات صلاة يسوع خلال مسيرته. لا تعود الصلاة واجبًا دينيًّا أخلاقيًّا بل فعل شفاعة مباشر، وفعل وعيٍ ويقظة غير اعتياديّ. لذلك يركّز الأب (سكريما) على أن نتمعّن في النصوص التأسيسيّة للتقليد بطريقة ليتورجيّة لتنكشف لنا نشيدًا موجّهًا إلى السماوات وبدء سفر، حتّى لا تتحوّل إلى كتب تعليم وحتّى لا تبدو لنا كأنّها نهاية الطريق. نكتشف هكذا أنّ الأرثوذكسيّة استقامة تمجيد وحركة نحو اللَّه.
نجد صورة نموذجيّة لهذه المسيرة في تعليق القدّيس غريغوريوس النيصصيّ على صعود موسى على الجبل: الذي أظهر لموسى المكان يدفعه في الوقت عينه إلى أن يمشي في الطريق. يعده بالثبات على الصخرة ويرشده إلى خاصّيّة هذه المسيرة الإلهيّة. هذه المسيرة هي بمعنى من المعاني حالة. وهذا شيء عجيب أن يكون الوضع ذاته حالة وتحرّك. هنا الاستقرار تصاعد لا ينتهي. يفهم موسى الذي يرى اللَّه من الخلف، ويتعلّم كيف يرى اللَّه: أن يتبعه أينما أخذه. هذا انقياد إلى اللَّه. بعد هذه التصاعدات الوعرة والظهورات الرهيبة والمجيدة، تمنح الرؤية للذي تعلّم أن يتبع آثار اللَّه.
«أعط دمًا وخذ روحًا» يقول أحد آباء الصحراء. هذه صورة مسيحانيّة: فقط على الصليب يتفجّر الروح مع الدم المبذول. لذلك ما يسلّم في التقليد المسيحيّ هو الروح القدس نفسه. مبتغى هذا التسليم أن نصبح أبناء في الروح. الفاعل الأساس ليس المعلّم ولا التلميذ بل الروح القدس نفسه. وينسكب نوره على السائرين في الطريق ويبقى النور أمينًا لنفسه والتلاميذ يقولون: «ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا عندما كان يكلمنا؟».
المرجع :
Tradition et conseil spirituel. André Scrima. Ioan Alexandru TOFAN. Hermeneia - Nr. 21/2018