2019

9. شؤون كنسيّة - في الأزمة الأرثوذكسيّة وأبعادها - ج.غ. – العدد السابع سنة 2019

في الأزمة الأرثوذكسيّة وأبعادها

ج.غ.

 

 

تعيش عائلة الكنائس الأرثوذكسيّة منذ نحو السنة على وقع تطوّرات ما يسمّى بالمسألة الأوكرانيّة، بعد أن قام المجمع المقدّس لبطريركيّة القسطنطينيّة في 11 تشرين الثاني 2018، بمنح الاستقلال الذاتيّ للكنيسة الأرثوذكسيّة في أوكرانيا، وردّ المجمع المقدّس لكنيسة موسكو بتاريخ 15 تشرين الأوّل 2018 على هذا القرار الذي اعتبر أنّه «من المستحيل الاستمرار في الشركة الإفخارستيّة مع بطريركيّة القسطنطينيّة. وأنّه منذ الآن وصاعدًا وحتّى رجوع كنيسة القسطنطينيّة عن أعمالها غير القانونيّة يستحيل على الإكليريكيّين التابعين لكنيسة موسكو الاشتراك في الخدم الإلهيّة مع الإكليروس التابع للقسطنطينيّة، وللمؤمنين الاشتراك في الأسرار التي يقيمها هؤلاء وفي الكنائس التابعة لها».

أتى قرار قطع الشركة هذا بسبب مجموعة من العوامل من بينها:

منح الاستقلال الذاتيّ لكيانين منشقّين، هما «بطريركيّة كييف» و«الكنيسة الأرثوذكسيّة الأوكرانيّة المستقلّة»، اللذين يفتقر المسمّون فيهما «إكليروس» إلى الشروط القانونيّة الأساسيّة لصحّة كهنوتهم وأهمّها التسلسل الرسوليّ؛

التعدّي القسطنطينيّ على ما تعتبره كنيسة موسكو حدودها القانونيّة التاريخيّة في أوكرانيا، عبر قرار الرجوع عن قرار منح متروبوليتيّة كييف لكنيسة موسكو في العام 1686.

تجاهل وجود الكنيسة ذات الإدارة الذاتيّة الشرعيّة التي يرأسها المتروبوليت أونفري والتي هي جزء من كنيسة موسكو؛

تجاهل آليّة منح الاستقلال الذاتيّ للشروط الموضوعيّة المتّفق عليها بين عائلة الكنائس الأرثوذكسيّة؛

تشديد القسطنطينيّة على تمتّعها بصلاحيّات التدخّل في الشؤون الداخليّة للكنائس المحلّيّة وعلى حقّها في تغيير حدود هذه الكنائس بطريقة منفردة.

لاقت الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة قرار القسطنطينيّة هذا، بمواقف غير متجانسة، ومتناقضة أحيانًا، بحيث:

1- رفض عدد من الكنائس المحلّيّة ككنيسة صربيا وكنيسة بولندا هذا القرار بشكل قاطع. فاعتبرت الأولى أنّها لا تعترف بوجود «الكنيسة الأوكرانيّة المستقلّة» المستحدثة، التي ليست هي إلّا كونفدراليّة تضمّ مجموعات منشقّة، لأنّ المنشقّين يبقون منشقّين ما لم يتوبوا. وبأنّها تعترف فقط بالكنيسة الأوكرانيّة الشرعيّة التي يرأسها المتروبوليت أونفري. أمّا الثانية فشدّدت على أنّ «الاستقلال الذاتيّ لا يمكن منحه إلّا لكنيسة شرعيّة موجودة في البلد وليس لمجموعات منشقّة». كما شدّدت الكنيستان بشكل واضح على أنّهما لا تعترفان بكهنوت المنشقّين، وتعتبران المتروبوليت الذي انتخب على رأس الكيان المستحدث إنسانًا علمانيًّا.

2- لم يعارض البعض ككنيسة قبرص مبدأ منح الاستقلال الذاتيّ للكنيسة في أوكرانيا، بالاستناد إلى مبدأ أنّه يحقّ لكلّ دولة مستقلّة أن تطلب استقلالها الذاتيّ، وأنّ الحدود الكنسيّة يمكن أن تتغيّر مع تغيّر المعطيات السياسيّة، ولكنّها لم تعترف بنتائج «مجمع التوحيد»، وبالقيادة الجديدة التي انبثقت عنه، لأنّ هذه القيادة لا تتوافر فيها صحّة الرسامة. 

3- كنيسة ألبانيا التي فنّدت الأخطار الكنسيّة التي تضمّنها قرار الكنيسة معتبرة «أنّ منح الرسامات غير القائمة شرعيّة لاحقة، هو أمر يخالف العقيدة الأرثوذكسيّة حول الروح القدس، وتلك المتعلّقة بالتسلسل الرسوليّ. ومن الصعب القبول بأنّ ما كان أصلاً غير قائم، قد يصبح «تدبيريًّا» في مرحلة لاحقة حاملاً للروح القدس، وما كان في الأصل تجديفًا ضدّ الروح القدس يمكن قبوله لاحقًا «وتدبيريًّا» في الكنيسة»، وشدّدت على أنّ «منح الاستقلال الذاتيّ لأوكرانيا يختلف جذريًّا عمّا سبقه في ما خَصّ الكنائس المحلّيّة الأخرى التي حصلت على استقلالها الذاتيّ، حيث كان جميع أساقفة هذه الكنائس موحّدين ومجمعين على هذا الطلب»، والتي عبّرت عن تحفّظها على إضافة اسم «إبيفانويس»، ضمن لائحة رؤساء الكنائس القانونيّة»، وحذّرت من أنّ «اعتقاد البعض بأنّ الانقسام الحاصل سيكون لفترة قصيرة، وأنّ جميع الكنائس ستعترف بما حصل في الوقت القريب هو اعتقاد خاطئ ينمّ عن جهل بتاريخ الانشقاقات. فالجراح التي لا تداوى في وقتها لا تشفى أبدًا».

4- نأى عدد من الكنائس عن اتّخاذ أيّ موقف بشأن قرار القسطنطينيّة، ككنيسة بلغاريا التي أحالت المسألة إلى لجنة مجمعيّة لدراستها.

5- اعتبرت كنيسة رومانيا أنّه لا بدّ من أن «يتمّ فتح حوار بين البطريركيّة المسكونيّة وبطريركيّة موسكو من أجل إيجاد حلّ لهذا الخلاف الكنسيّ، يُؤْمِن «الحفاظ على وحدة الإيمان، ويحترم الحرّيّة الإداريّة والرعائيّة للإكليروس والمؤمنين في هذا البلد، بما فيه حقّ الاستقلال الذاتيّ، وعبر إعادة الشركة الكنسيّة».

6- صرّح عدد من الكنائس عبر مواقف قادتها أو ممثّلين عنهم ككنيسة الإسكندريّة وأنطاكية وأورشليم والتشيك والسلوفاك باعترافهم بالمتروبوليت أونفري كمتروبوليت لكييف وكلّ أوكرانيا كالرئيس الشرعيّ الوحيد للكنيسة في هذه الدولة.

7) كنيسة اليونان التي اعترف مجمع مطارنتها العامّ بقرار منح الاستقلال الذاتيّ لأوكرانيا، الذي اتّخذته القسطنطينيّة، وسط معارضة عدد من المطارنة، ما دفع كنيسة موسكو إلى اتّخاذ قرار بقطع الشركة فقط مع المطارنة الذين يعترفون بإبيفانيوس أو يخدمون معه.

رغم الاختلاف في المقاربة بين مختلف الكنائس الأرثوذكسيّة للمسألة الأوكرانيّة، فإنّ غالبيّة هذه الكنائس طلبت إلى قداسة البطريرك القسطنطينيّ برثلماوس الدعوة إلى عقد اجتماع لرؤساء الكنائس المحلّيّة أو لمجمع عامّ لإيجاد حلّ للانقسام الأرثوذكسيّ الذي سبّبته هذه المسألة إلّا أنّه رفض الاستجابة لهذه الدعوات. كما أنّه عبّر عن استيائه من الوساطة التي حاول رئيس أساقفة قبرص الاطّلاع بها من أجل تسهيل إيجاد حلّ للانقسام الأرثوذكسيّ الذي نتج من منح الاستقلال الذاتيّ لأوكرانيا.

وفي ظلّ هذا الواقع المعقّد برز الاقتراح الذي أعدّه «المركز المسكونيّ للدراسات الرساليّة والبيئيّة»، التابع لبطريركية القسطنطينيّة، في التقرير النهائيّ الذي أصدره والمعنون «دراسة نقديّة لاهوتيّة للمسألة الأوكرانيّة وبعض الأفكار للحفاظ على الوحدة الأرثوذكسيّة». والذي يقضي بأن يتمّ استحداث مجمع مقدّس في كنيسة أوكرانيا المستقلّة يعتمد على مبدأ المناصفة في التمثيل بين الكنيسة الشرعيّة والكنيسة التي استحدثها الفنار من المنشقّين، كما هو الحال بالنسبة إلى المجمع الدائم في كنيسة اليونان الذي يتألّف نصف أعضائه من المطارنة التابعين للقسطنطينيّة، والنصف الآخر من مطارنة كنيسة اليونان المستقلّة. واقتراح صاحب السيادة المتروبوليت إيروثيوس (ڤلاخوس)، في الدراسة التي أعدّها بعنوان «اقتراح من أجل التعاطي مع المسألة الأوكرانيّة» حيث اقترح استحداث مجلس أسقفيّ في أوكرانيا يضمّ الطرفين في حال تعذّر استحداث مجمع مقدّس على قاعدة المناصفة».

أتى هذا الاقتراح ليدلّ على اعتراف المقرّبين من القسطنطينيّة بفشل هذه الأخيرة من تحقيق الوحدة الأرثوذكسيّة في أوكرانيا.

وفي المقابل يصرّ معارضو قرار القسطنطينيّة على مجموعة من الشروط كأساس لحلّ المسألة الأوكرانيّة ولعودة الشركة بين القسطنطينيّة وموسكو ومن هذه الشروط:

1- أن يقوم البطريرك القسطنطينيّ بالرجوع عن طرس الاستقلال الذاتيّ؛

2- أن يعبّر المنشقّون عن توبتهم عن الانشقاق ومن ثمّ يتمّ قبولهم في الكنيسة الشرعيّة؛

3- أن تقوم الكنيسة بإعادة رسامة الذين لا يحول أيّ مانع قانونيّ دون رسامتهم؛

4- أن تدرج الكنيسة الأرثوذكسيّة الأوكرانيّة ضمن لائحة الذبتيخا في مجمع أرثوذكسيّ عامّ؛

5- أن يعبّر البطريرك برثلماوس خلال هذا المجمع العامّ عن توبته العلنيّة عن اشتراكه في الخدمة الإلهيّة مع المنشقّين.

وأمام تعقيدات المسألة الأوكرانيّة، والأبعاد الكنسيّة والسياسيّة التي تتحكّم فيها، يبدو أنّ الانقسام الأرثوذكسيّ سيطول، وأنه سيكون على الأرثوذكسيّة أن تتعايش معه لفترة طويلة، بعد أن تحولت هذه المسألة إلى عنصر للتنابذ والتشرذم بين الأرثوذكس في عدد كبير من الكنائس المحلّيّة، وشرّعت الباب أمام الحركات القوميّة لاستخدام العامل الكنسيّ كورقة ضغط على الكنائس المتعدّدة القوميّات لتفتيتها إلى كنائس قوميّة، وصارت تهدّد بانقسامات داخل الكنائس المحلّيّة بسبب الموقف منها. ولعلّ أخطر ما فيها أنّها بيّنت هشاشة النظام المجمعيّ الذي لطالما ميّز الكنيسة الأرثوذكسيّة، وصارت مطيّة تستخدمها القسطنطينيّة من أجل إرساء نظام أرثوذكسيّ جديد يُكرّس أوّليّة بابويّة للكرسيّ القسطنطينيّ اليونانيّ الطابع لاحتواء الغلبة العدديّة للكنيسة الروسيّة المدعومة من الدولة.n

 

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search