2019

7. قضايا أرثوذكسيّة - المجمع عن العائلة: خواطر وأفكار - أسعد قطّان – العدد السابع سنة 2019

 

المجمع عن العائلة

خواطر وأفكار

أسعد قطّان

 

 

تداول المجمع الأنطاكيّ المقدّس في دورته الأخيرة قضيّة العائلة. وامتدّت هذه الدورة، بخلاف سابقاتها، على أيّام عدّة وشهدت تغطيةً إعلاميّةً كثيفةً نسبيًّا، وحفلةً موسيقيّةً بيزنطيّةً اتّصفت باللجوء إلى نصوص من خارج خدمة الإكليل. كما تخلّلت المجمع قراءةُ عدد من الأوراق العلميّة، التي أعدّها لاهوتيّون وقانونيّون وأطبّاء واختصاصيّون في علم النفس التربويّ. وأعلن المجمع في بيانه أنّه في صدد إصدار رسالة رعائيّة عن موضوع العائلة خلال مهلة لا تتعدّى الأسابيع القليلة.

مبادرة المجمع المقدّس إلى تطارح هذا الموضوع جديرة بالتثمين، ولا سيّما أنّ هذا يأتي بعد نحو ثلاث سنين من إصدار المجمع الأرثوذكسيّ المنعقد في كريت ورقته الهزيلة عن «الزواج وموانعه»، والتي لم تأتِ بجديد يُذكر بالنسبة إلى الموقف اللاهوتيّ التقليديّ والممارسة الكنسيّة. والحقّ أنّ المجمع الأنطاكيّ، في إعلان عزمه على إعداد رسالة رعائيّة تتناول موضوع العائلة، يحذو حذو الأساقفة الأرثوذكس في ألمانيا، الذين وجّهوا العام الماضي رسالةً إلى الشباب عن الحبّ والجنس والزواج، تميّزت بلغتها الرعائيّة الهادئة وإحجامها عن إطلاق الأحكام العشوائيّة في موضوع الجنس قبل الزواج والمساكنة والمثليّة الجنسيّة. من النافل القول إنّ صوغ رسالة رعائيّة عمليّةٌ أصعب وأدقّ بكثير من مجرّد إعداد الأوراق العلميّة وإلقاء المحاضرات على أهمّيّتها. فهي تقتضي حسًّا رفيعًا بالتحدّيات التي تواجه البشر في زمننا، والتقليل قدر الإمكان من استخدام لغة لاهوتيّة معقّدة، والعزوف خصوصًا عن «التنظير» على الناس والظهور بمظهر الكنيسة التي «تعرف» كلّ شيء، و«تعلّم» الناس كلّ شيء، عوضًا من الإصغاء إلى صوتهم وإلقاء البال إلى خبراتهم.

ربّما تكون النقيصة الأساسيّة في «مجمع العائلة» هي الحضور الهزيل للنساء فيه، ما يطرح السؤال عن مدى جدّيّة آباء المجمع في أن يكون للمرأة صوت فعليّ في مناقشة القضيّة. لا جدوى من التذكير بأنّ للنساء بالذات كلامًا مهمًّا يقلنه في هذا الشأن، إذ لا يختلف اثنان على أنّ المرأة في بلادنا تبقى «زنبرك» الأسرة الفعليّ، وذلك رغم نزولها بقوّة إلى ميدان العمل. والحقّ أنّ النساء هنّ أيضًا «زنبرك» حياتنا الكنسيّة وعمادها، بدليل حضورهنّ الذي يفوق بأشواط حضور الرجال في مختلف الأنشطة وعلى المستويات كافّةً. إنّ أيّ تفسير لهذا الغياب شبه الكلّيّ للنساء عن المجمع هو عذر أقبح من ذنب. طبعًا، هذا المشهد لا يمكن فصله عن تهميش النساء الذي تصاعد في الكنيسة الأرثوذكسيّة خلال العقود الأخيرة. بكلّ بساطة، كنيستنا حتّى اليوم كنيسة ذكوريّة بامتياز: يترأّسها الذكور، ويدبّر أمورها الذكور، ويتكلّم باسمها الذكور. إضافة إلى أنّها فشلت، مثلاً، في استعادة شموسيّة النساء وإعادة تحديدها بشكل يتلاءم مع متطلّبات العصر، رغم كلام لاهوتيّيها الواضح في هذا الشأن. «الذكورة» في الكنيسة ليست مجرّد ظاهرة تتأصّل في التقليد القديم، كما يحلو لبعضهم أن يقول، بل ترتبط على الغالب أيضًا ببنية يستميت معظم الذكور القابعون في دوائر القيادة الكنسيّة في الدفاع عنها واستنساخها وإعادة إنتاجها. المسألة، إذًا، ليست مسألة «ذكورة»، بل «ذكوريّة». فالذكوريّة بنية سيكولوجيّة متأصّلة في لاوعينا، وربّما حتّى في وعينا، آن الأوان أن نعترف بوجودها كي نلفظها إلى غير رجعة.

يضاف إلى ذلك أنّ الرسالة الرعائيّة التي سيعمل المجمع الأنطاكيّ على إعدادها، في الأيّام المقبلة، ستواجه بالتأكيد تحدّي الانتفاضة التي يعيشها لبنان فيما أنا أكتب هذه السطور، والكلّ يعرف كم أنّ حضور النساء فيها قويّ ولافت. طبعًا، كنيستنا الأنطاكيّة منتشرة في أصقاع المعمورة كافّةً، في الأميركيّتين وأوروبّا وأستراليا بالإضافة إلى شرقنا. في هذه الأرجاء كلّها، المرأة حاضرة بقوّة، والنساء يتشوّفن إلى كلام كنسيّ يكون في حجم هذا الحضور. ولكنّ الانتفاضة اللبنانيّة، التي لا يستطيع أحد اليوم التكهّن بمساراتها المستقبلة، تشي بمدى التغيّر في الذهنيّة الذي تشهده مجتمعاتنا العربيّة في الوقت الحاضر، وهي على الأرجح النسيج المجتمعيّ الذي يأتي منه معظم مَن سيعمل على صوغ هذه الرسالة. ولذا، لا يمكن التغاضي عمّا لهذه المتغيّرات من أهمّيّة بالنسبة إلى الأفكار الواردة في هذه الرسالة وكيفيّة التعبير عنها، وخصوصًا بالنسبة إلى مواضيع حسّاسة مثل الجنس والمساكنة والأشكال المجتمعيّة الأخرى التي بدأت تفرض ذاتها شيئًا فشيئًا من خارج منظومة الأسرة التقليديّة.

مسعى المجمع الأنطاكيّ المقدّس إلى إصدار رسالة رعائيّة تتناول قضيّة العائلة، مسعى مشكور ولا شكّ. ولكنّه يشبه أيضًا التحرّك في حقل ألغام بالنظر إلى دقّة الموضوع وما يخالطه من انزياحات مجتمعيّة. وهو في أيّ حال ينطوي على تحدٍّ هائل لا بالنسبة إلى المضمون فحسب، بل في ما يتعلّق باللغة والأسلوب المزمع استخدامهما أيضًا.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search