2019

6. دراسة لاهوتيّة - قراءة كتابيّة في وجه المسيح «أنت ابني وأنا اليوم ولدتك» - نقولا أبو مراد – العدد السابع سنة 2019

قراءة كتابيّة في وجه المسيح(٧)

«أنت ابني وأنا اليوم ولدتك»

 

نقولا آبو مراد

 

 

في سفر المزامير يتكلّم مسيح الربّ. فيه نسمع صوته، ويقصّ علينا روايته بنفسه، بعد أن سمعناها من آخرين. وللتعرّف إلى هذه القصّة، يمكننا أن نعرض قراءة المزمور الثاني الذي يشكّل، مع المزمور الأوّل، جزءًا من مقدّمة كتاب المزامير التي تتضمّن الخطوط التأليفيّة الأساسيّة. فكلاهما يأتيان في سياق معنويّ ووظائفيّ واحد، ويشكّلان وحدة من حيث المبنى والمعنى.

غير أنّ هذه الوحدة المعنويّة لا تنفي التطوّر الأدبيّ وانتقال الكاتب، بين المزمور الأوّل والمزمور الثاني، إلى مستوى تأليفيّ جديد. وفي هذا الانتقال، يقدّم الناظم للقارئ توضيحًا وشرحًا للتضادّ الذي أبرزَه، في المزمور الأوّل بمصطلحات عامّة، بين «الرجل البارّ» و«الأشرار». بحسب مزمور 2: 1– 2، الأشرار هم الأمم والشعوب وملوكهم، والبارّ هو مسيح الربّ. يواصل مزمور 2 هذا التمييز بين الذي يختاره الربّ، وبين خصومه الكثيرين. الشعوب كلّها والأمم تتواطأ على مسيح الربّ. غير أنّ الربّ يثبّته ويُسلِم الأممَ والأرضَ كلّها له ليخضعها ويتغلّب عليها.

يتألّف مزمور 2 من أربعة مقاطع ذات بنية متوازية. تصف الآية 1– 3، بلسان كاتب المزمور، تمرّد الأمم على الربّ وعلى مسيحه، وتتحدّث آ 4– 6، على سخرية الربّ من هذا التمرّد ولكن أيضًا على غضبه وغيظه، وتأكيده في آ 6، بلسان الربّ نفسه، على تنصيب مسيحه ملكًا على صهيون. أمّا آ 7– 9، فكلام على لسان مسيح الربّ الذي يعلن العهد الذي قطعه الربّ معه عند تنصيبه ملكًا. وتعود آ 10– 12 إلى الحديث على لسان كاتب المزمور وتنصح الملوك والرؤساء المتمرّدين بالعودة إلى عبادة الربّ ومسيحه، محذّرةً إيّاهم من عاقبة التمرّد. نجد إذًا موازاة بين المقطعين الثاني والثالث تقوم على العلاقة بين الربّ ومسيحه، اللذين يتكلّمان فيهما، أمّا الموازاة بين المقطعين الأوّل والرابع، فهي في حديثهما عن الملوك والأمم، والمتكلّم فيهما هو ناظم المزمور.

في آ 1– 3، نرى حكّام الأمم يتصرّفون وكأنّهم آلهة، ويشير إلى هذا استعمال العبارات المستعملة ذات الدلالة الواضحة إلى «مجمع أو مجلس الآلهة» في الشرق القديم، حيث كلّ إلهٍ يقوم بوظيفته وفق الدور المعيّن له في الكون. وعليه، فإنّ «اجتماع» الملوك هنا يعكس «اجتماع» الآلهة، التي يمثّلها ويجسّدها الملوك في الشرق القديم. الأمم والشعوب وملوك الأرض يرفضون سيادة الربّ عليهم، وذلك برفضهم مسيحَه الذي أقامه ملكًا في صهيون.

يبدأ المقطع الأوّل بسؤال بلاغيّ. اسم الاستفهام المفاجئ، «لماذا»، يفترض ما سبق وروده في مزمور 1 عن أفعال الأشرار. بمعنى آخر، يهدف الكاتب عبر استهلال مزموره بسؤال إلى تنبيه القارئ على الجواب الذي كان أعطاه في مزمور 1. الأمم وملوكها تعلن عن رغبتها في التحرّر من سلطة الربّ ومسيحه، من «قيودهما وربطهما». هذا هو الباطل الذي يلهجون به، ويقابل، في مزمور 1، شريعة الربّ التي يلهج بها البارّ. وفي إطار هذه العلاقة بين مزمور 1 ومزمور 2، وتكاملهما باعتبارهما وحدة أدبيّة متضمّنة، كما أشرنا أعلاه، فإنّ الأشرار في مزمور 1 يظهرون في مزمور 2 في شكل الأمم والملوك الذين يتمرّدون على الربّ وعلى المسيح الذي اختاره.

يحمل المقطعان الثاني (آ 4– 6) والثالث (آ 7– 9)، الفكرة الرئيسة المحوّلة والتي تفسّر الانتقال من وصف التمرّد في بدء المزمور إلى الدعوة إلى الخضوع في نهايته. نسمع في هذين المقطعين كلامًا مباشرًا من الربّ ومن مسيحه، وكأنّه حوار بينهما. كلّ آيةٍ في الأوّل تقابل آيةً في الثاني. فتواطؤ الأمم وتمرّدها على الربّ ومسيحه، يقابله في آ 4 تعالي اللَّه وسُكناه في السماء. كلّ محاولات الأمم والملوك لتقويض سلطان اللَّه والتخلّص من سيادته مدعاة للسخرية. حكّام الأرض لا يدركون أنّ صراعهم إنّما هو مع الربّ الجالس على عرشه في السماء، وأنّ معركتهم انتهت قبل أن تبدأ. عبارة «حينئذٍ» في آ5 تشدّد على حتميّة تدخّل الربّ الذي قرّر أن يضع حدًّا لهذا التمرّد، «بغضبه وسخطه». يبرز استعمال هاتين العبارتين في هذه الآية للدلالة على الموقف من تصرّف الأمم والملوك، فهي، ولئن كانت في نظرة الكتاب مخلوقة من «غبار» (تكوين 2)، إلاّ أنّها تتصرّف وكأنّها آلهة. هذا مدعاة للسخرية من جهة، ومن جهة أخرى سبب للغضب والسخط، لأنّ تصرّفها هذا إنّما هو مقاومة باطلة لسلطان الربّ، خالق السماوات والأرض وسيّدها.

بهذا، يقترب مزمور 2 في تصويره تمرّد الأمم وموقف الربّ من هذا التمرّد، من رواية بناء بابل في تكوين 11، حيث نصادف التمرّد عينه، والموقف الإلهيّ ذاته. شعوب الأرض تريد أن تبني «مدينةً وبرجًا رأسُه في السماء». في آ 1– 4، يشدّد الكاتب على التناقض بين واقع الناس الذين على الأرض ومسعاهم إلى أن يبلغوا السماء بقوّة ذاتهم، «هلم نبنِ لأنفسنا مدينةً وبرجًا رأسه في السماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلاّ نتبدّد على وجه كلّ الأرض» (تكوين 11: 4). بلوغ السماء على هذا النحو إنّما هو تحدّ لسلطان الربّ، ولذلك كان ردّ فعله بأن »بلبل لسانهم» حتّى لا يفهموا بعضهم بعضًا، وأوقف بناء مدينتهم وبرجها، وبدّدهم على وجه الأرض (تكوين 11: 7- 8). نلاحظ أنّ واحدًا من المواضيع الأساسيّة التي يطرحها الكاتب في التكوين هو موضوع اللغة الواحدة (تكوين 11: 1) التي ترمز إلى وحدة الناس في جسم واحدٍ مقاومٍ لله ومتمرّد عليه، وهذه الوحدة يكسرها اللَّه وتنفرط بتبدّدهم على وجه الأرض بسبب الكبرياء، ومحاولة التخلّص من الربّ نهائيًّا وإخراجه من حياتهم كلّيًّا وذلك بتنصيب أنفسهم آلهةً على الأرض وفي السماء. وهذا بالضبط ما نراه أيضًا في مزمور 2 بين المقطع الأوّل والمقطع الثاني: تمرّد الأمم والشعوب مع ملوكها وحكّامها كلّهم «مجتمعين» على الربّ وعلى مسيحه، يستدعي تدخّل الربّ «الجالس على عرشه في السماء» ليعيد الأمم والملوك إلى حجمها الطبيعيّ، وحجمها الطبيعيّ هو أن تخضع للمسيح الذي سينصّبه الربّ ملكًا على الأرض كلّها في آ 6– 9.

مقابل آ 3 التي توضح نيّة الأمم والملوك الخروج على سلطان الربّ ومسيحه، «لنقطع قيودهما ولنطرح هنّا ربطهما» تأتي آ 6 لتعلن تنصيب الربّ ملكَه على صهيون. اللافت أنّ آ 3 وآ 6 تشتركان في كون الأولى تأتي على لسان الملوك والرؤساء، والثانية على لسان الربّ، وكأنّي بالكاتب يجعل آ 3 ردًّا مباشرًا من الربّ على ما يقوله الملوك والرؤساء بشكل مباشر. هم يريدون التمرّد عليه وعلى مسيحه، أمّا هو فيؤكّد أنّ مسيحه هو الملك الجالس على العرش. من خلال تكرار ضمير المتكلّم المتّصل في عبارتي «ملكي» و«جبل قدسي»، يؤكّد الكاتب أنّ مسيح الربّ هو الملك الذي يريده الربّ والذي يتمّم مشيئته، ويقيم في «جبل قدس الربّ»، أي في المكان الذي يجعل منه الربّ محورًا ومركزًا لسلطانه. هذه العبارة تمهيد للمسيرة التي سيسلكها مسيح الربّ عبر المزامير اللاحقة وصولاً إلى «جبل الربّ» (مزمور 24 وما يليه).

في آ 7 – 9، يتكلّم المسيح نفسه ويجيب على إعلان الربّ أنّه سبق ونصّبه ملكًا على صهيون، بتكرار الأمر أو المرسوم الإلهيّ، ناقلاً على لسان الربّ العهد الذي قطعه معه. اللافت في هذا المقطع أنّ المسيح حين يتكلّم، يقول ما قاله له الربّ. كلامه نقل مباشر لكلام الربّ. وكلام الربّ إليه هنا يتوافق والقرار الإلهيّ، ألا وهو تنصيبه ملكًا على الأرض كلّها، وذلك بعهد بنوّة يبرز وحدانيّة المسيح بالنسبة إلى الربّ ووحدانيّة الربّ بالنسبة إلى المسيح؛ للربّ مسيحٌ واحد، وللمسيح ربٌّ واحد. المسيحُ يعمل بمشيئة الربّ، والربّ يعطيه السيادة والغلبة على الأمم وأقاصي الأرض. في صيغة «أنت ابني وأنا اليوم ولدتك» استعمال لصورة البنوّة والأبوّة للتأكيد على العلاقة الخاصّة والحصريّة بين الربّ والمسيح، بين اللَّه والملك، تختلف عمّا يدّعيه ملوك الأمم وحكّامها من علاقة بينهم وبين الإله. الحقيقة أنّ هؤلاء أرادوا بتمرّدهم أن يتحرّروا من العلاقة مع اللَّه، بتصميمهم على تحطيمها ناظرين إليها على أنّها “قيود وأغلال”. إنّها علاقة مشوّهة بين الملوك والله بسبب التمرّد والعصيان والكبرياء والظلم، وبسبب رغبة الأمم والملوك بالتخلّص من السيادة الإلهيّة. ليس هذا هو حال المسيح. هو مسيح الربّ، والربّ ربّه. العلاقة بينهما علاقة الأب والابن. لا توتّر فيها، بل الابن لا يقول إلاّ ما يحكم الربّ به. والربّ يعطيه كلّ شيء، يمنح ملكيّته مداها الأقصى. المسيح ملك على الأمم والأرض كلّها، فيما يخسر ملوك الأمم سلطانهم، ولا يمكن لهم أن يوجدوا في ما بعد إلاّ بخضوعهم لسلطان المسيح، الابن الوحيد للربّ، أي الملك الوحيد الذي يمثّل سلطان الربّ.

نرى من خلال هذه القراءة كيف تترابط أجزاء مز 2 مع بعضها البعض، وكيف تنساب أبعادُه النحويّة، فنجد الأمم والملوك تتكلّم بصيغة المتكلّم أحيانًا، والربّ أحيانًا أخرى، وكذلك المسيح، في حوار يحدّد أدوار كلّ منهم. الأمم تعلن تمرّدها، والربّ يعلن أنّ مسيحه هو الملك الوحيد، والمسيح يعلن حكم الربّ ببنوّته له وعلاقته الخاصّة به وتنصيبه ملكًا على الأرض كلّها. وفي نهاية المزمور يدعو الكاتب الأمم والملوك المتمرّدين إلى الخضوع للابن كسبيل واحد ليهربوا من الهلاك المحتّم.

مسيح الربّ الذي يُعلن في مز 2: 7- 9 كلام الربّ إليه عن تنصيبه ملكًا وإخضاع الشعوب له، سيكون المتكلّم الأبرز في المزامير اللاحقة، حيث سيوضح معنى مسيحانيّته وشكلَ الملكيّة التي منحه إيّاه الربّ.

في المقطع الأخير (آ 10- 12)، يدعو الكاتبُ الملوكَ وقضاة الأرض المتآمرين على الربّ ومسيحه والساعين إلى التمرّد عليهما، أن يعودوا إلى عبادة الربّ ويهتفوا له. إنّ العبارات المستعملة في هذا المقطع، وخصوصًا في آ 10 لافتة جدًّا؛ يدعو الكاتب «ملوك الأرض» إلى التعقّل، أي إلى اكتساب الحكمة، والقضاة إلى «التعلّم». استعمال هاتين العبارتين في صلةٍ مع الملوك والقضاة مهمّ جدًّا، على قدر ما للحكمة من علاقة بالملوك وما للتأديب من علاقة بالقضاة. فالحكمة أساس وظيفة الملك، والقاضي وظيفته أن يؤدّب الناس ويرشدهم إلى الاستقامة في العمل. غير أنّ الكاتب، رغم ذلك، يدعو الملوك والقضاة إلى اكتساب الحكمة والمعرفة الحقيقيّتين، اللتين يفسرّهما بالتوازي الذي يقيمه بين آ 10 وآ 11. في الآية 11 يدعوهم إلى عبادة الربّ والابتهال إليه، ما يعني ألّا حكمة للملوك إلاّ في عبادة الربّ، ولا معرفة للقضاة إلاّ في الابتهال إليه. من خلال هذا يعرضُ كاتبُ سفر المزامير على القارئ نوعًا جديدًا من الحكمة والمعرفة، وتاليًا شكلاً جديدًا للملكيّة والرئاسة والقضاء، ألاّ وهي عبادة الربّ ومعرفة شريعته، بدلَ القوّة والتآمر والعداء المتأتّية من كبرياء البشر وادّعائهم الألوهة والعظمة. وبما أنّ الكلامَ عن الأمم والشعوب في المقطع الأوّل يأتي في صيغة الوصف، والمقطع الأخير في صيغة الأمر، فإنّ الكاتب هنا يدعو إلى تغيير في الذهنيّة، إلى انتقال من واقع ينمّ عن رفض للربّ إلى خضوع له وعبادة حقيقيّين، لكي تستقيم الملكيّة والرئاسة، ومن خلالها عبادة الشعوب للربّ.

هذا الخضوع الذي يدعو كاتب المزمور الملوك والقضاة إلى إظهاره، يوضحه في آ 12. تبدأ هذه الآية بعبارة «قبّلوا الابن» تفيد أنّه على الملوك والقضاة أن يكتسبوا الحكمة والمعرفة والتأديب وذلك بخضوعهم للذي اختاره الربّ، وإذا لم يخضعوا له فسوف يبادون بسبب غضب الربّ، كما يبادُ طريق الأشرار في مزمور 1: 6. مرّة أخرى يبرز الناظم التوازي بين مزمور 1 ومزمور 2، عبر استعماله في الآية الأخيرة من مزمور 2، عبارتين تردان في الآية الأخيرة من مزمور 1، وهما «طريق» وفعل «يُباد» مجتمعين.

يوضح هذا المزمور إذًا كلّ الطريق التي سيسلكها مسيح الربّ في المزامير، من الألم والاضطهاد، إلى انتصار الربّ له، وإلى أن يصير منارة للحكمة يدعو الناس إلى أن تتعلّم منه، من مسيرته وبرّه وأمانته للربّ بمعنى أن يتملّك الإنسان في الأرض. وبهذا يفتتح المزمور الثاني سلسلة من المزامير يشكّل كلّ منها حجرًا في بناء متكامل، يمكن القول إنّه ذاك العالم الجديد الذي يبنيه الربّ، حيث يتّخذ هو الموقع الأوسط وإلى يمينه مسيحه الداعي إلى الحكمة الحقيقيّة، وحولهما كلّ ما في الأرض والسماء، تسمع منهما الكلمة الحقّ، والكلمة الحقّ هي أنّ السيّد في الدنيا، ليس مَن قتل ودمّر وتملّك واغتصب، بل من سحقه ظلم الظالمين وسجنه في الصمت والألم. هذا يختاره الربّ مسيحًا له إلى الأبد، وسيّدًا على الكون كلّه. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search