2019

5. قضايا معاصرة - البتوليّة كالزواج، سبيلان إلى القداسة - شفيق حيدر – العدد السابع سنة 2019

البتوليّة كالزواج، سبيلان إلى القداسة

شفيق حيدر

 

شطط الإدانة

تسود كنيستَنا الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة موجةٌ من التكفير، هذا يكفّر ذاك بسبب ملبسٍ أو مظهرٍ أو نمط حياة أو ممارسةٍ صلاتيّة أو لحية أو قصّ شعر. تحوّل كثيرون إلى ديّانين يطلقون الأحكام ويقفلون باب الجنّة، ويفرضون على سواهم ما يرونه مناسبًا. يحتكرون استقامة الرأي، وينسبون أعمالهم إلى اللَّه تعالى وإلهامات روحه القدّوس. وبذلك يعطّلون فعل التوبة! ويرون، في قرارة نفسهم، أنّهم قدّيسون ومَنْ يخالفهم أبالسة. هذا السائد شطط مؤذٍ غريبٌ عن الأرثوذكسيّة وروحها، بينما الكلّ عندنا مدعوٌ إلى الجهاد من أجل التقديس.

الكنيسة جماعة قدّيسين

في سرّ المعموديّة المقدّسة يصبح الإنسان عضوًا في الكنيسة إذ يموت مع المسيح ليقوم معه. المعموديّة موت وقيامة، موت آدم العتيق ليقوم فينا أدم الجديد، المسيح المخلّص. «فقد دُفنّا معه بالمعموديّة للموت. حتّى إنّنا كما قام المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضًا في حياة جديدة. لأنّا إذا كنّا قد غُرِسْنا معه على شبه موته فنكون على شبه قيامته أيضًا...» (رومية6: 4و5). فالمعمّدون كلّهم قدّيسون بالقوّة، مدعوّون إلى أن يصيروا بالفعل لـمّا يحيون في المسيح محبّين وتائبين. وفي الصلاة على الموعوظ، قبل خدمة المعموديّة المقدّسة، نسأل السيّد الربّ ونطلب إليه ونقول: «أدعُ عبدك هذا (المعمَّد)... إلى نورك المقدّس...وانزع عنه العتاقة وجدّده للحياة الأبديّة... كيلا يكون في ما بعد ابنًا للجسد بل ابن لملكوتك...». فلمجرّد الانتماء إلى الجماعة المؤمنة يبدأ مشوار القداسة.

وفي خدمة سرّ المسحة بالميرون المقدّس، الذي يجري حالًا بعد المعموديّة، رتّبت الكنيسة الصلاة التالية وفيها الإشارة واضحة إلى القداسة المدعوّ إليها المعمّد. «أنت أيّها السيّد ملك الكلّ امنحه أيضًا ختمَ موهبة روحك القدّوس القادر على كلّ شيء والمسجود له، وتناولَ جسدِ مسيحك المقدّس ودمِه الكريم. واحفظه في قداستك. وثبّته في الإيمان المستقيم الرأي... حتّى إذا أرضاك في كلّ عمل وقول صار ابنًا لملكوتك السماويّ ووارثًا له...».

وفي الكتاب المقدّس يُدعى المؤمنون قدّيسين. فها بولس الرسول يخاطب المؤمنين في الكنائس ويدعوهم «قدّيسين» ويرد هذا في مستهلّ أكثر الرسائل التي وجّهها. يكتب رسول الأمم يقول:

+ «إلى جميع مَن برومية من أحبّاء اللَّه المدعوّين ليكونوا قدّيسين» (رومية1: 7).

+ ويتوجّه إلى الكورنثوسيّين في رسالتيه لهم (1كورنثوس١: ٢) و(2كورنثوس1: 1). «من بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة اللَّه ومن تيموثاوس الأخ إلى كنيسة اللَّه التي في كورنثوس مع جميع القدّيسين في أكائية كلّها».

+ ونجد ما يشبه الذي أوردنا في مطلع الرسالة إلى أفسس، إلى فيليبّي، إلى كولوسّي.        

القداسة دعوة موجّهة إلى أبناء الكنيسة المؤمنين جميعهم. هي ليست وقفًا على الرهابين والمتبتّلين، هي نصيبٌ للمكرّسين، والتكريس حاصلٌ للكلّ في «الأمّة المقدّسة» إذا شاؤوا. من هنا لا بدّ من ملاحظة تربويّة رعائيّة تؤكّد أنّه يجب أن نقدّم القدّيسين للمؤمنين، صغارًا أو كبارًا، كائناتٍ إنسانيّةً عاديّين لهم ضعفاتهم البشريّة ولكنّهم تائبون باستمرار، أرجلهم تطأ هذه البسيطة ولكنّ قلوبهم وألحاظهم تشخص إلى عرش السماء، يستمدّون قوّتهم من اللَّه وبإمكانهم أن يرصفوا أنفسهم مع المختارين. المهمّ أن يرى المؤمنُ القدّيسَ إنسانًا مثله. وحين نركّز فقط، في تعليمنا، على الخوارق والرؤى والتهيّؤات، وعلى المعجزات التي يظهرها اللَّه بواسطة قدّيسيه، نُخطىء تربويًّا إذ نقدّم القدّيسين للرعايا بعيدين عنهم لا يستطيعون مجاراتهم.

ويبقى أخيرًا أن نشير إلى أنّ المعمّدين والمؤمنين، ومنهم الذكور أو الإناث، المتزوّجون أو المتبتّلون، مدعوّون كلّهم إلى القداسة. ولكنّ السائد، خطأً، في الأوساط الرعائيّة هو أنّ المتبتّل أدنى إلى القداسة من المتزوّج. وهذا الشائع يخالفه الكتاب المقدّس والآباء والمجامع، وغير وارد في  حياة الكنيسة  وجمهرة قدّيسيها.

رسل وأساقفة متزوّجون

بطرس الرسول كان متزوّجًا، ولم يحل هذا دون أن يصير أحدَ هامتي الرسل القدّيسين: «وقام يسوع من المجمع ودخل بيت سمعان وكانت حماة سمعان قد أخذتها حمّى شديدة فسألوه لأجلها» (لوقا4: 38). ونقرأ في الكتاب المقدّس أيضًا، في معرض الحديث عن الأساقفة الذين هم، أساسًا، أئمّة المؤمنين في قيادتهم إلى القداسة: «فينبغي أن يكون الأسقف بغير عيب، رجل امرأة واحدة، صاحيًا، عاقلًا، مهذّبًا، مضيفًا للغرباء، قادرًا على التعليم، غير مدمن الخمر، ولا سريع الضرب بل حليمًا غير مخاصم ولا محبّ للمال، يحسن تدبير بيته ويضبط أبناءه في الخضوع بكلّ عفاف. فإنّه إن كان أحد لا يعرف أن يدبّر بيته فكيف يعتني بكنيسة اللَّه؟...» (1تيموثاوس3: 2- 5).

وفي قوانين الآباء والمجامع تأكيد واضح صريح على أنّنا عرفنا، في تاريخ الكنيسة، إكليريكيّين متزوّجين، أساقفة وقسسًا وشمامسة. يرد في كتاب الشرع الكنسيّ للأرشمندريت حنانيّا كسّاب، منشورات النور، 1985: «كلّ من هجر أولادَه ولم يبذل عناية بتغذيتهم وأهمل تربيتهم وتدريبهم في التقوى وحسن العبادة ومخافة اللَّه، بحجّة رغبته في النسك، فليكن مبسلًا». وفي قانون آخر من قوانين الرسل، يرشح أيضًا زواج الأسقف وغيره: «لا يجوز لأسقف أو قسّ أو شمّاس أن يصرف عنه امرأته بحجّة الورع. فإنْ أبعدها فليُقطَع من الشركة وإن أصرّ على غيّه فليسقط».  وكذلك قرر الـ217 أبًا المجتمعون السنة 419 في مجمع قرطاجة لـمّا قالوا في القانون 35: «يجب على الأساقفة وعلى الإكليريكيّين كلّهم ألّا يطلِقوا العنان لأولادهم بسهولة إلّا بعد وثوقهم من متانة أخلاقهم وبلوغهم سنّ الرشد لئلّا يلزمهم اللوم لما يرتكبه أولادهم من الزلّات». «وقوانين الرسل القدّيسين هي إلى حدّ كبير من أصل رسوليّ، وقد ترك الرسل أنفسهم بعضها كتابةً ونقل خلفاؤهم البعضَ الآخر كما سمعوها من أفواه الرسل. جُمِعَت هذه القوانين كلّها معًا في زمن لا يبعد كثيرًا عن عهد المجمع النيقاويّ الأوّل (السنة 325) وربّما قبل انعقاد مجمع أنطاكية المكانيّ (السنة341)، ثمّ جرى فيها بعض التوسّع والتعديل».

ضمير الكنيسة يكرّم الزواج

الزواج في الكنيسة سرّ مقدَّس ومقدِّس، وتاليًا يستحقّ التكريم المطلق والاحترام الكلّيّ. لذا نلاحظ أنّ القوانين المجمعيّة تمنع احتقار الزواج وازدراءه. فالقانون 51 من قوانين الرسل ينصّ: «أيّ أسقف أو قسّ أو أيّ شخص آخر من السلك الكهنوتيّ يمتنع عن الزيجة واللحم والخمر ليس تنسّكًا بل لأنّه يشمئزّ منها ويعتبرها نجسة وقد نسي أنّ اللَّه قد خلق كلّ الأشياء حسنة جدًّا (1تيموثاوس4: 4) وأنّه خلق الإنسان ذكرًا وأنثى (متّى19: 4). فهو بمسلكه هذا يجدّف على عمل الخليقة، فليصلح أمره أو فليَسقط ويُطرَد من الكنيسة وبمثل ذلك يُعَاقَب العامّيّ أيضًا».

ويشدّد مجمع غنغرة (325-381) في القانونين 1 و14 على القيمة الكبرى التي للزواج ويقول: «إنّ كلّ مَن يطعن في الزواج ويحتقر المرأة المؤمنة التقيّة ويذمّها لأنّها تنام مع زوجها ويزعم أنّها لا تستطيع أن تدخل الملكوت فليكن مبسلًا»، و«إذا تركت امرأة زوجها وصمّمت على أن تبرح سكنه لأنّها تكره الزواج وتحتقره فلتكن مبسلة». وفي القانون 9 من المجمع عينه تُظْهِرُ الكنيسة القيمة الكبرى التي للزواج: «كلّ مَن حفظ البتوليّة لا لجمالها بل لأنّه يكره الزواج ويزدريه فليكن مبسلًا». والقانون 10 يحرّم صراحة احتقار المتزوّجين: «أيّ شخص من حافظي البتوليّة لأجل الربّ ينظر إلى المتزوّجين بعين الاحتقار والكبرياء فليكن مبسلًا».

وأفصح ما أختم به هذه الفقرة خاتمة مجمع غنغرة، المتضمّنة الغاية من التشديد على احترام الزواج والمتزوّجين: «إنّنا نكتب هذه الأشياء لا لنقطع من كنيسة اللَّه الذين يرغبون في أن يسيروا سيرة نقيّة عفيفة حسبما تعلّم الكتب المقدّسة. بل أولئك الذين  يتجاوزون في ادّعائهم النقاوة والزهد إلى حدّ العجرفة الباطلة مترفّعين على العائشين بأوفر بساطة ومحدثين آراء مناقضة للكتب المقدّسة وقوانين الكنيسة...». فإكرام البعض لا يعني احتقار البعض الآخر. المتزوّجون والمتبتّلون يصبون إلى القداسة في كنيسة السيّد المسيح. الفضل لمَن جانب التوبة منهما.

قدّيسون متزوّجون   

إذا استعرضنا كتاب الميناون، وهو المتضمّن الصلوات اليوميّة على مدار السنة الطقسيّة، نعثر على عدد وافر من القدّيسين المتزوّجين. وهذا دليل حيّ على أنّ المؤمنين في الكنيسة سواسيّة. وعلى سبيل المثال فقط أذكّر بأنّنا في 20 أيلول نعيّد لإفسطاثيوس وعائلته ومن الصلوات التي نتلو في هذا اليوم: «لقد حزتَ المجد الأبديّ والحياة الخالدة، إذ تركتَ ملاذّ العالم مع ولدَيكَ المتألّهَي العزم، وزوجتك الكلّيّة السعادة. لذلك نعيّد بشوق لتذكارك الإلهيّ الكلّيّ الشرف». وفي مقطع آخر نخاطب القدّيس  إفسطاثيوس بقولنا: «... ولم تتذمّر لفقدان زوجتك وأولادك». وفي 28 تشرين الأوّل نصلّي للقدّيسين الشهيدين تيرنتيوس وزوجته نيونيلا وأولادهما مرتّلين: «بما أنّكما يا تيرنتيوس ونيونيلا، كشمس كلّيّة الضياء مقترنة بالقمر، فقد ولدتما مصفّ كواكب سبعة أعني الشهداء الذين تدبّجوا بدمائهم...». ونعيّد في 26 آب للقدّيسين الشهيدين أدريانوس ونطاليا اللذين نخاطبهما: «يا لكما من زوجين نزيهَين ومختارَين للربّ، ويا لكما من محبوبَين وصفيَّين للمسيح، ويا لكما من قرينَين فاضلَين ومغبوطَين، فمَن ذا الذي لا ينذهل عند سماعه بأفعالهما التي تفوق الإنسان، كيف تشجّعت الأنثى، بإزاء المغتصب العاتي، وشدّدت بعلها على ألّا يجزع من التعذيبات، بل أن يفضّل الموت على الحياة من أجل الإيمان...».

زواج الأسقف في العصر الحديث

إنّ هذا الموضوع الذي رأيناه أمرًا طبيعيًّا في تاريخ الكنيسة وضميرها، على مرّ العصور، وأوردنا الشواهد والنصوص إثباتات مؤيِّدة، طرحه أيضًا على ضمير المؤمنين الأنطاكيّين البطريرك القدّيس إلياس الرابع (معوّض) (1914-1979) للتأمّل والدرس، وذلك إثر قرار اتّخذه المجمع المقدّس برئاسته في عهد بطريركيّته 1970-1979. وقبل الناس الفكرة وبدأ المؤمنون بالتداول بها. ولكنّ الموت عاجل غبطته فغادر دنيانا ولم يتسنَ له أن يتابع المشروع الذي آمن به نافعًا لأنطاكية ونهضتها، علمًا بأنّه هو الراهب المكرّس للَّه وخدمة حملانه منذ مطلع شبابه. آمن إلياس الرابع بأنّ العائلة مدرسة التضحية والتواضع، وهي شافية من الأحديّة والتسلّط والطغيان، ومدرّبة على المعيّة والطاعة الفعليّة، وفيها نبرأ من انتفاخ الأنا، ونتخلّص من لظى صحراء الوحدة القتّالة.  

إصلاح الواقع الراهن

إنّ القوانين الوضعيّة يسنّها الإنسان لمعالجة واقعٍ يحياه. فالازدراء بالزواج، وإدانة المتزوّجين كانا واردين في زمن تشريع ما ذُكِر من القوانين أعلاه. رأت الكنيسة المقدّسة أنّ من مهمّاتها أن تتصدّى لخطأ شاع. وتمّ ذلك إثر مجامع حافظت فيها على التعليم الصحيح، ودافعت عنه إزاء الخلل الطارئ. والواقعُ الكنسيّ اليوم لا يختلف عن الماضي. التاريخ يعيد نفسه، فما أشبه اليوم بالأمس. من هنا كان لا بدّ من أن تنزّه الإدارة الكنسيّة والجماعة المؤمنة المواقف من الزغل والزيغان. ولا نبلغ إلى ذلك إلّا بالعودة إلى الينابيع، والتمسّك بالأمانة التي تسلّمناها من الرسل والآباء القدّيسين، تاركين الأهواء، ومعرضين عن المصالح.n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search