2019

4. شؤون كنسيّة - الكنيسة على مفترق طرق - جورج ن. نحّاس – العدد السابع سنة 2019

الكنيسة على مفترق طرق

 

جورج نحّاس

 

من الطبيعيّ أن تواجه الكنيسة في حياتها الداخليّة مصاعب جمّة. تفترض الواقعيّة فينا أن نعترف بذلك. لكن لا بدّ لنا من أن نقبل أنّ تخطّي هذا الواقع لا يكون إلّا بالصلاة والتوبة، فتتمكّن الكنيسة من القيام بخدمتها الخلاصيّة في العالم حيث تشهد. لذلك، نحن نهتمّ بدراسة تاريخ الكنيسة كي نستفيد من الدروس التي نأخذها منه حتّى نتغلّب على خطايانا وضعفاتنا في سعينا للنموّ في المسيح. نحن ندرس تاريخ الكنيسة ونتعمّق به، بتواضع، عملاً بقول الربّ: «تعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب» (متّى ١١: ٢٩)، وبفكر نقديّ على الخلفيّة الصحيحة الوحيدة ألا وهي خدمة الكنيسة في العالم، لكونها جسده.

الكنيسة والواقع التاريخيّ

باختصار يمكن القول إنّ ثلاثة أحداث مفصليّة أثّرت في تاريخ الكنيسة في الشرق (سأدعوها الكنيسة في ما يلي)، وهي: تنصّر قسطنطين والأمبراطوريّة معه، سقوط الأمبراطوريّة البيزنطيّة، سقوط الأمبراطوريّة العثمانيّة. نتج من الحدث الأوّل انتهاء زمن شهادة كثيفة للكنيسة تجاه العالم وبدء زمن تدخّل الأباطرة في الشؤون الكنسيّة بسبب مركزيّة القرار في القسطنطينيّة.

أنهى الحدث الثاني، وبشكل مفاجئ وسريع، ما يدعوه البعض «زمن السمفونيّة بين السلطتين»، وأدخل الكنيسة في الشرق في عهد اضطهاد، وهجرة، وانصياع لسلطة الأمبراطوريّة الجديدة المدنيّة. فمنح تنظيمُ الملل الذي وضعه العثمانيّون سلطة متزايدة لبطريرك القسطنطينيّة على حساب باقي البطاركة في الشرق. لا بدّ هنا من لفت النظر إلى خصوصيّة مهمّة برزت في هذه الفترة، ألا وهي خصوصيّة الكنيسة الروسيّة التي عاشت خبرة مختلفة تمامًا، وذلك بأنّها لم تكن تحت سلطة الأمبراطوريّة العثمانيّة، فلم تقع تحت تأثير الكرسيّ القسطنطينيّ المباشر.

  أنهى الحدث الثالث زمن مركزيّة القرار الذي ساد لقرون لمصلحة العثمانيّين، ففتح المجال لظهور كنائس مستقلّة جديدة في أوروبّا الشرقيّة، وأدّى إلى هجرة متزايدة للأرثوذكس نحو أوروبّا الغربيّة، وأوستراليا والأميركتين، وتنظّمت هذه الهجرة عمومًا وفق انتماء إثنيّ. لم يؤدِّ هذا الوجود المستحدث إلى آفاق جديدة بل، على العكس، إلى تفاقم في المشاكل داخل الكنيسة.

هذه القراءة التاريخيّة مختصرةٌ للغاية لأنّ المرحلة الزمنيّة التي تفصل بين الحدثين الأوّل والثاني (وهي أطول بكثير من فترتيِ التباعد الأخريَين أي قبل الحدث الأوّل وبين الحدثين الثاني والثالث) تمتدّ على عشرة قرون وكانت حافلة بقرارات وتنظيمات أثرها باقٍ حتّى اليوم. لذلك، نسأل عن أهمّيّة استمراريّة هذه الترتيبات القانونيّة عندما لا تطال الأبعاد العقيديّة. بمعنًى آخر، لماذا يتحتّم على الكنيسة، اليوم، أن تلتزم بقرارات وامتيازات ما عاد لوجودها مبرّر؟ أليس من واجبنا، وليس من حقّنا فقط، كمؤمنين وكأعضاء كاملين في جسد المسيح، أن نرفض هذا الواقع، ونطالب بتغييره على ضوء قراءة مستجدّة للتقليد الشريف؟

كنيسة في العالم أم كنيسة من العالم

من الطبيعيّ أن تحيا الكنيسة في العالم، وأن تشهد فيه، وأن يكون لحضورها أثرٌ بالغ. فقد طلب منّا السيّد هذا الحضور بوضوح شرط ألّا نذوب في العالم. يكمن التحدّي في أن تكون الكنيسة في العالم من دون أن تكون كنيسة من العالم. الفرق بين الاثنين ليس نظريًّا، أو شكليًّا، أو تجريديًّا، لكنّه متأصّل في واقع الحياة، من جهة، وفي طريقة تقبّل الناس «للمؤسّسة الكنسيّة»، من جهة أخرى. المهمّ ليس ما يقوله أهل الكنيسة عن أنفسهم أو عن المؤسّسة، لكن المهمّ، في النهاية، هو كيف يقبل الآخرون الإعلانات التي تصدر عن الأعمال التي تقوم بها الكنيسة أو تدافع عنها كنابعة من هويّتها. خدمة الكنيسة وشهادتها (بالكلام وبخاصّة بالأفعال)، متى كانتا موافقتين لإرادة السيّد، هما ركيزتا حضورها في العالم، وتشكّلان فحوى الإعلان الذي ينتظره منها هذا الأخير، لكونهما «الخبر السارّ» الذي أتى به التجسّد الإلهيّ.

يعطينا تاريخ الكنيسة أمثلة رائعة، إن في الشهادة، أو الخدمة، أو الحضور الموافق لقلب اللَّه. لكنّ هذا التاريخ مليء أيضًا بضعفات لا يمكن الدفاع عنها، ونأسف لها، ولم يعلن العالم الأرثوذكسيّ يومًا عدم رضاه عنها. بل، على العكس، بخاصّة في أيّامنا هذه، نحن نلجأ إلى حجج نظريّة، تنتمي إلى زمن غابر، للدفاع عن: حقوق موروثة عن عالم زال، أو غياب غير مبرّر عن إشكاليّات وجوديّة حقيقيّة تواجه العالم المعاصر، أو تنظيمات مدعوّة لتتغيّر وتتطوّر من أجل خدمة وشهادة بشكل أفضل. تدلّ على ذلك الأوراق التي صدرت عن اجتماع جزيرة كريت السنة ٢٠١٦؛ أوراقٌ لا تخاطب عالم اليوم لكنّها تشهد لانقسام العالم الأرثوذكسيّ، ولعدم قدرته على تخطّي حساسيّات داخليّة موروثة، بينما هو مدعوّ ليصغي «لما يقوله الروح للكنائس» اليوم.

إنّ عالم اليوم يُسائلنا، وهذا العالم هو الواقع الحقيقيّ الذي نحن مدعوّون إلى أن نخدم. هو مطرح شهادتنا الحيّة، وهذا لا يكون إلّا إذا دخلنا في حوار معه وتواصل. لن نخدم الكنيسة بلَعْنِنا ما هو مختلفَ عنّا وبرفضنا المبدئيّ له. العالم، اليوم، لا يهتمّ لمسائل الأوّليّة بين الكنائس، أو استقلالها، أو التنظيمات القانونيّة العائدة لها. ونحن، باهتمامنا بهذه الأمور نكون عمليًّا «كنيسة من العالم» لأنّنا نركّز على أنفسنا وعلى الشؤون الداخليّة والتنظيميّة التي تخصّنا. زد على ذلك أنّ هذه الأمور وأمثالها تنتمي إلى فترة تاريخيّة لا نريد أن نتخطّاها مع أنّها غريبة عن واقعنا. لكن، نكون فعلاً «كنيسة في العالم» متى أظهرنا للعالم كيف يحبّه السيّد وإلى أيّ حدّ؛ وهذا لا يكون إلّا بجهد تواضعيّ كبير نبذله ونقد ذاتيّ شفّاف نقوم به لنكون على استعداد لننصت إلى الآخر. تتميّز الكنيسة الأرثوذكسيّة باحترامها حرّيّةَ التفكير في الجماعة كما في العالم، «حرّية أبناء اللَّه» (رومية ٢١:٨) التي وحدها تشدّد طاقات حضور الكنيسة في عالم اليوم. متى فقد المؤمنون حرّيّة التفكير، والعمل، والتعبير، لن تكون الكنيسة الملح الذي يعطي زمن اليوم طعمه.

التحدّي الأعظم

التحدّي الأعظم الذي تواجهه الكنيسة الأرثوذكسيّة اليوم هو أن تقبل ألّا تعيش فقط في الماضي، لأنّ مهمّتها تَكمُن في استحضار «اليوم الأخير»، أي تأوينه، كي يتألّق «الإنسان الجديد». خطاب الكنيسة اليوم مليء باسترجاع ماض يهمّشها تجاه الإشكاليّات المعاصرة: كاستعمال تعابير سقطت من منطق الواقع (روما الثانية، أو روما الثالثة...)، أو كإبراز رموز لا تمتّ إلى حياة الكنيسة بصلة (كالنسر ذي الرأسين الخاصّ ببيزنطية)، أو كالرجوع إلى موادّ من القانون الكنسيّ لا تأخذ بالاعتبار التطوّرات التاريخيّة وانعكاساتها على واقع الكنائس. ويلجأ هذا الخطاب، أيضًا، إلى تعابير تتجاهل أصول التواصل الفعّال والبنّاء متجاهلاً ضرورة الوصول إلى حدّ أدنى من الفهم المشترك.

يؤثّر هذا التحدّي، طبعًا، على مختلف أوجه الحياة الكنسيّة، أكان ذلك على صعيد الإحساس بالواقع (فنعيش وكأنّ الأمبراطوريّة البيزنطيّة ما زالت قائمة)، أم على صعيد ممارسة السلطة (كما لو أنّ هناك سلطة في المسيحيّة غير سلطة المحبّة)، أم على صعيد الوحدة (كما لو أنّ هناك وحدة أعظم من وحدة المحبّة في المسيح الذي تؤلّف الكنيسةُ جسدَه). انعكاسات هذا التحدّي حقيقيّة ونلمسها على صعيد الحياة الرعويّة، وحياة الأبرشيّات، وحياة الكنائس المحلّيّة، وصولاً إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة ككلّ. لذلك يجد المؤمن، اليوم، صعوبة كبرى ليشهد في العالم (وهذا واجبه) لحقيقة القيامة الناتجة من فعل التجسّد الإلهيّ.

أجل، يجد المؤمنون أنفسهم اليوم مضطرّين إلى الدفاع عن تضادّ بين الكلمة التي تحمل «الخبر السارّ»، من جهة، وحياتهم في العالم كأفراد أو كمؤسّسات، من جهة أخرى. فيلجأون، في كثير من الأحيان، إلى اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام معتبرين أنّ «عالم الخطيئة» الذي نعيش فيه هو سبب هذا الصراع بين ما نحن عليه وما علينا أن نكون. أحيانًا أخرى نلجأ إلى فكرتَي الصورة والمثال معتبرين أنّنا خُلقنا (والكنيسة أيضًا) على صورة اللَّه، لكنّنا مدعوّون إلى أن نصل إلى المثال في مسيرتنا الحياتيّة. بالضبط هذا ما يسألنا عنه عالم اليوم كأفراد وككنيسة: أين هو مسعى «التوبة» في الكنيسة، الذي يعترف بحضور الصورة فينا، ويخضع بتواضع، لضرورات الوصول إلى المثال؟ وهذه «التوبة» ضروريّة على مستويين: أوّلاً مستوى الانخراط المجتمعيّ للكنيسة، ليس فقط على صعيد الخدمة الاجتماعيّة، بل، أيضًا، على صعيد كلّ المسائل المحقّة التي تواجه الإنسان والإنسانيّة (الفقر، الحروب، الاضطهادات، الحرّيّات العامّة، التعاطي مع منطق رأس المال...)؛ ثانيًا على مستوى الخطاب اللاهوتيّ المدعوّ إلى أن يتكيّف ليكون على مستوى ضرورات الشهادة والخدمة. في كتاب عنوانه «نموّ الكنيسة أو تراجعها» كتب الكاردينال
 Emmanuel Suhard السنة ١٩٤٧:

إنّ أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه المسيحيّون في القرن العشرين، ولن يغفره لهم أبناؤهم، هو أن يتركوا العالم ينمو ويتوحّد من دونهم ومن دون اللَّه... الكنيسة على مفترق: فإمّا أن تخسر كلّ شيء أو تربح كلّ شيء، وذلك بموجب الروحانيّة التي ستقترحها على الإنسانيّة جمعاء.

«الهروب إلى الأمام» عبر اللاهوت

هل ما ندعوه اليوم لاهوتًا هو اللاهوت المدعوّ ليرافق «نموّنا في المسيح»؟ هل اللاهوت الذي ندرّس في معاهد اللاهوت، أو الذي نسترجع في خِطَبنا الرسميّة، أو الذي نستشهد به في بعض النصوص التوجيهيّة التي تصدر، من حين إلى آخر، عن الرعاة، يساعد المؤمنين، أو الكنيسة بشكل عامّ، على إعلانهم الربّ يسوع؟

عندما أفكّر مثلاً بنصّ يدّعي اللاهوت كُتِب ليدافع عن أوّليّة بطريرك القسطنطينيّة معتبرًا إيّاه «أوّلاً من غير متساوين» عوضًا من أن يكون «أوّلاً بين متساوين» كما جاء في التقليد، أتساءل جدّيًّا حول كلام كهذا وما جاء في تعاليم السيّد عن خدمة «الأوّل». عندما أقرأ نصوصًا موجّهة إلى مسيحيّين من كنائس أخرى تُعْلن أنّ لا خلاص خارج الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة حصرًا، أتساءل عمّا إذا قرأ مؤلّفو هذه النصوص ما كتبه بولس الرسول عن المحبّة. عندما أقرأ نصوصًا تعتبر نفسها رعويّة، موجّهة إلى العائلات، والشباب، والعالم بشكل عامّ، أتساءل عن هدف هذا الخطاب الخشبيّ، الذي لا يسمح بأيّ تواصل يؤدّي إلى حوار حياة مع الآخر.

أضحى خطابنا اللاهوتيّ «نرجيسيًّا لأّنّنا نتوجّه به إلى أنفسنا، ونرتاح لتردادنا ما أضحى «تعابير سحريّة» تستبعد كلّ ما لا يمتّ إلى هذا النوع من الكلام بصلة واضحة ومباشرة. الشهادة لإيماننا واجب وكذلك التبليغ عنه. الإيمان في جوهره ثابت لكنّ طرائق إيصاله للآخرين مرتبطة بعوامل عديدة ثقافيّة ومجتمعيّة تعود إلى محيطنا الإنسانيّ. لم يخش مفكّرون أرثوذكس كبار من القرن الماضي أن يفتحوا على مصراعيْه باب التفكّر في شؤون تعود إلى ما يدعى «ما بعد العصرنة». لكن، وللأسف، لم تلق مؤلّفاتهم الصدى المطلوب لها في العالم الأرثوذكسيّ، بينما تلقّفهم العالم المسيحيّ وتأثّر بهم. على سبيل المثال لا الحصر أورد هنا ما جاء في محاضرة لدانيال لوسكي بعنوان «تفكّرات في الأرثوذكسيّة الغربيّة – بعض أوجه فكر ليون زاندر في أواخر الخمسينيّات»:

إن كنيسةً مرتاحةً جدًّا لوضعها في المجتمع تصبح غير ضروريّة للعالم، لأنّها تصبح عاجزة عن أن تدلّ على طريق الخلاص باللَّه. يحتّم علينا إذًا هذا العصر أن نغيّر العقليّات العائدة إلى موضعة الكنيسة في المجتمع. يمكن للضيق الماليّ في المؤسّسات الكنسيّة الاجتماعيّة أن يعطيها حرّيّة تحرّك ومصداقيّة أقوى لتقوم، بشكل أفضل، بمهمّتها. في سياق ضيق اجتماعيّ كهذا، علينا أن نفكّر بالكنيسة على أنّها الزرع المدعوّ إلى أن ينتشر في العالم لينمو ويعطي ثماره.

لأنّي عشت في فرنسا بضع سنوات وعرفت شخصيًّا، وعن قرب، عددًا من الأشخاص الذين يذكرهم دانيال لوسكي في محاضرته، ولأنّي نشأت على يدَي المتروبوليت جورج (جبل لبنان، سابقًا) والمثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع (اللذين درسا اللاهوت في معهد القدّيس سرجيوس في باريس)، يمكنني أن أشهد على هذا الاغتناء الذي يتكلّم عليه زاندر والذي قال عنه دانيال لوسكي: «تحتّم علينا الحياة في الكنيسة أن نفكّر بالوقت ونحتسبه على مستوى القرون».

هل موضوع الشهادة اليوم يحتلّ حيّزًا على جدول اهتمامات المسؤولين الإكليريكيّين في كنائسنا اليوم؟ لو كان هذا حاصلاً هل كنّا كتبنا ما كتبناه حول استقلال الكنيسة في أوكرانيا؟ لا تهمّ هنا المقولات التي تدافع عن هذا الموقف أو ذاك؛ لكنّ اللغة المستعملة في هذه الإعلانات خالية من همّ الوحدة في المسيح، ومن المحبّة، ومن اللطف. هذا خطاب حقوقيّ، عليه مِسحة لاهوتيّة خارجيّة، يستند إلى أمور تاريخيّة ولا يهتمّ ليكون له فكر المسيح (ا كورنثوس ١٦:٢). هل تُحْكَم كنيسة المسيح بقرارات إداريّة تتّخذها حصريًّا مجالس أساقفة؟

زمن القرارات

لماذا الكنيسة اليوم على مفترق طرق؟ لأن كلّ المعطيات في محيطنا، على الصعيد البيئيّ، أو العلميّ ، أو الإنسانيّ، قد تغيّرت. تُسائل مختلفُ مقوّمات الحضارة التي نعيش في ظلّها مسلّماتِنا الفلسفيّة والوجوديّة كافّة. مسلّماتنا جميعها مدعوّة إلى إعادة نظر جذريّة ليس فقط بسبب التطوّر التقانيّ وانعكاساته، بل أيضًا بسبب المقاربات الجديدة التي يعتمدها اليوم فكرٌ لا يخشى أن يضع على المحكّ مُحَرَّماتنا وأحكامنا القيميّة. يذكّر بذلك أيضًا دانيال لوسكي قائلاً:

«يعتبر التقليد الأرثوذكسيّ نفسه أنّه يحمل بشارة يسوع المسيح إلى العالم: فهو يتوجّه إذًا إلى كلّ إنسان من دون استثناء (يوحنّا ٩: ١). لذلك يمكن إقامة الفرق بين جوهر البشارة السارّة التي تعلنها الكنيسة الأرثوذكسيّة، والطرائق المختلفة لعيشها وتبليغها. يرتبط هذا التنوّع بالخصوصيّات السياقيّة لحياة المؤمنين أو للمجموعات هدف البشارة، أكان هذا على الصعيد التاريخيّ، أم الجغرافيّ، أم الثقافيّ، أم اللغويّ، أم الإثنيّ. وعى الرسل تمامًا هذا الفرق بين سرّ الإيمان وطرائق الشهادة له في ظلّ ظروف ومناخات مختلفة، وذلك بسبب عيشهم أساسًا في مجتمع متعدّد.

يمكن للمسؤولين الكنسيّين أن يتجاهلوا، هذه التساؤلات أو يتنكّروا لها، أو، حتّى، أن يزدروها. لكن الحقيقة هي أنّهم في هذه الحال، لا يفعلون ذلك باسم الكنيسة بل باسمهم الشخصيّ. لا أدري كيف يمكننا أن نتجاهل جرأة بولس الرسول وهو يتوجّه إلى أهل أثينا! إذا كان بعض المفكّرين الأرثوذكس، منذ القرن الرابع، اعتمدوا طريق التعصّب والأصوليّة، هذا لا يعني أنّهم كانوا على صواب. حان الوقت كي نعلن أنّنا بحاجة ملحّة إلى خطاب جديد متأصّل في التقليد الشريف القائم على المحبّة، والخدمة، والشهادة الحقّ. خطابٌ كهذا ليس حكرًا في تقليدنا المشرقيّ على الأوساط الإكليريكيّة. كلّ منا له مواهبه ومنها أن يعلّم إرادة اللَّه وأن يعلنها.

هذه دعوة (وربّما صرخة) حتّى يكتشف كلّ مؤمن حقيقيّ دوره «كحامل للمسيح» ويعلن جهارًا استعداده ونيّته ليساهم في الجهد الرامي لإعطاء حضور الكنيسة في العالم طعمًا جديدًا في خدمة الكلمة. يجب أن يكون بالإمكان فتح باب نقاش حرّ ومسؤول حول إشكاليّات عصرنا، فنقاربها بجدّيّة مستندين إلى التعاليم الأساسيّة، وذلك على ضوء التقليد المقدّس. خطابنا مدعوّ ليس إلى أن يكون ترداديًّا، بل تجديديًّا، إذ برفضنا أن نكون فاترين، نساهم في عمل الذي «يصنع كلّ شيء جديدًا» (رؤيا ٥: ٢١).n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search