2019

3. قضايا معاصرة - العائلة: وجهة نظر مسيحيّة أرثوذكسيّة - تعريب الأب سيرافيم (داود) – العدد السابع سنة 2019

العائلة‫: وجهة نظر مسيحيّة أرثوذكسيّة

 

الأب سيرافيم داود

 

 تأسّس الزواج واعتبر سرًّا في وقت متأخّر نسبيًّا في الكنيسة المسيحيّة، ولكن يبدو أنّ أهمّيّة هذه المؤسّسة على صعيد الخلاص soteriological، يمكننا تتبّعها منذ تاريخ خلق الذكر والأنثى، كما هو واضح في رواية التكوين. بمعنى آخر، هذا يعني، أنّ التمييز بين الذكر والأنثى لا يدلّ على ظاهرة عرضيّة أو ثانويّة في تطوّر أنواع البشر بيولوجيًّا. ولكن على العكس من ذلك، فهو يعكس إرادة اللَّه الحرّة التي يكمن سببها في جوهر اللَّه. إنّ تعريف جوهر اللَّه كحبّ (كمحبّة) يوحنّا ٤: ٨، هو حجر الأساس لكلّ اللاهوت المسيحيّ. يجد مبرّره الكامل في التمييز بين الذكر والأنثى في تاج الخلق كلّه، أي الإنسان.

    المساواة الأساس بين الذكر والأنثى التي فُرضت في عمليّة الخلق الأصليّة، عبر حقيقة اختلافهما، تسهّل تجربة أعمق لأشكال الحبّ كإثراء (إغناء) متبادل في التواصل المكمّل. وفقًا لكلّ ما سبق، ينبغي للمرء أن يقول إنّ أهمّيّة الزواج كسرّ، يُعطى في حالة الشراكة بين الرجل والمرأة. هذا هو الافتراض المُسبَق المثاليّ للتوسّع في شكل العائلة حيث يتقاسم المزيد من الأشخاص بركات الشركة والاحترام المتبادل، بمعنى آخر إنّ قداسة الزواج والعائلة لا تكمن في المقام الأوّل في إنجاب الأطفال أو استمرار الجنس البشريّ بل في نوعيّة الشركة. وهكذا تهدف العائلة المسيحيّة إلى التضحية المتبادلة وتقديس الزوجَين في وحدة إلهيّة على غرار سرّ الثالوث القدّوس (أي وحدة الأشخاص الثلاثة في جوهر واحد). ولا تزال بشكل ملموس وتجريبيّ على وحدة الطبيعتَين - البشريّة والإلهيّة – في شخص ربّنا يسوع المسيح. في عقيدتَي الكنيسة أعني الثالوث والخريستولوجيا، التوازن بين تعدّديّة الأشخاص ووحدة الجوهر متوازن بشكل متناغم بفضل التدخّل الإلهيّ والمحبّة.

صاغ المجمع المسكونيّ الرابع المنعقد في خلقيدونية حالتَين أصبحتا أثريّتَين في العصر المسيحيّ باعتبارهما تصفان بطريقة ملائمة أكثر سرّ الوحدة، وفي الوقت عينه سلامة الأشخاص الذين يعيشون في شركة في ما بينهم. هذه الأحوال كما هو معروف غير مشوّشة وغير مُقسّمة رغم هاتين الحالتَين قدّمهما المجمع المذكور من أجل توضيح العلاقة بين الطبيعتَين في شخص واحد من اللَّه المتجسّد، ويمكن تطبيقها لوصف الشركة والتداخل من دون خضوع الأشخاص الثلاثة للثالوث القدّوس.

ليس هناك شكّ في أنّ الحالتَين المذكورتَين تدلّان أيضًا على الظروف المثاليّة التي قد تحقّق بموجبها مؤسّسة العائلة أهدافها الإلهيّة. يتمّ إثراء مستوى العلاقات الشخصيّة بين الزوج والزوجة في العائلة عبر المستوى الثاني من العلاقات بين الآباء والأمّهات والأطفال، وكذلك عبر المستوى الثالث من العلاقات بين الأطفال. مع وجود هذه المستويات المختلفة تُصبح العائلة الوحدة الأكثر ديناميكيّة وفعاليّة لتشكيل الشخصيّة الإنسانيّة، بينما على مستوى التعايش الإنسانيّ يكون الدافع الاجتماعيّ وجوديًّا ومقدَّسًا. هذا هو بالضبط سبب أهمّيّة العائلة والكنيسة في إعداد الفرد كمواطن.

من الناحية العمليّة، هذا كلّه يعني أنّ الشخص الذي عاش في العائلة وفي الكنيسة عايش تنوّع الحبّ على مختلف مستويات العلاقات الشخصيّة، سيكون قادرًا على تقدير الصفات المختلفة للأفراد الآخرين في مجتمع علمانيّ. بعد تجربة الانضباط المطلوب في ما يتعلّق بكلّ شخص وفقًا لمكانته ومهمّته في كامل وحدة العائلة، يكون المرء مُستعدًّا لقبول النظام والانضباط المطبّقين في الهياكل الاجتماعيّة. ومع ذلك من أجل أن يكون قادرًا على الردّ بطريقة إيجابيّة داخل المجتمع ككلّ، ينبغي للمرء أن يشعر بالأمان والإثراء عبر وجود الآخرين في العائلة. من المُتعارف عليه أنّ الإحساس بالعائلة بين سكّان البحر المتوسّط، أي اليونانيّين والإيطاليّين والأتراك وما إلى ذلك، لا يزال قويًّا إلى درجة أنّ أحد أفراد العائلة لا يشعر بالضيق عادةً بسبب تفاهم الآخرين، بالطبع لا يمكن للمرء أن يتجاهل المطالب المتبادلة المتكرّرة والعالية حقًّا بين مختلف الأعضاء، وهي مطالب ليست مجهولة فحسب بل غير مفهومة لعائلة غربيّة حديثة. فإنّ التضحيات الناتجة في كثير من الأحيان من مثل هذه المطالب يتمّ تعويضها أيضًا بدعم حقيقيّ ومتنوّع يتمتّع به الفرد من جميع أفراد العائلة في كلّ صعوبة ممكنة في الحياة. هذا الدعم الرائع في بعض الأحيان يجعل الإنسان يشعر بطاقات أخلاقيّة وجسديّة مضاعفة بواسطة عدد الأشخاص الموجودين في عائلة واحدة.

بالإضافة إلى كلّ ما سبق، يجب على المرء أن يستنتج أنّ العائلة كما هي مؤسّسة في العالم الأرثوذكسيّ ستُصبح ليست فقط نواة جسد الكنيسة الكلّيّ وإنّما الملجأ الأمثل للإيمان. هذا صحيح بشكل خاصّ عندما يجعل الإلحاد والاضطهاد حياة الكنيسة الرسميّة صعبة إن لم تكُن مستحيلة. أفضل الأمثلة على ذلك، هو بقاء الأرثوذكسيّة خلال أربعمائة عام من الاحتلال التركيّ في معظم البلدان الأرثوذكسيّة الشرقيّة ومُؤخّرًا الوضع في الاتّحاد السوفياتيّ. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search