المسيح والعجائب
الأب ميخائيل الدبس
العجائب ظاهرة أخرى لا بدّ من أن نقف عندها لنكتشف وجه المسيح الحقيقيّ. قراءتنا الصحيحة لها تبعد عنّا صنمًا ربّما صنعناه لنرتاح له: المسيح الساحر.
العجائب بين العهد القديم والعهد الجديد
في العهد القديم كانت العجائب علامة لحضور اللَّه بين شعبه ولرعايته له في مجمل نواحي حياته، وبالأخصّ في إخراجهم من مصر العبوديّة ورعايتهم في برّيّة سيناء.كما كانت علامةً لعظمته وقدرته تجاه آلهة الأمم (حادثة عصا موسى خروج 7: 10-13- ذبيحة إيليّا مقابل ذبيحة كهنة البعل، 3ملوك 18: 23- 39)، وعلامةً فارقة محفورة في ذاكرة الشعب ليعلموا أنّه هو الإله القادر الذي أنقذهم بعجائب (الخروج من أرض مصر).
وما هو واضح في العهد القديم حصريّة صنع العجائب بإله يعقوب: «الصانع العجائب وحده» (مزمور135: 4)، وأنّ لا معجزة تقوم إلّا باسمه (ذبيحة إيليّا – انفلاق مياه نهر الأردنّ على يد أليشاع (4ملوك ١٣:٢- 14).
في العهد الجديد هناك تطابق مع عجائب العهد القديم من جهة، وتباين عنها من جهة أخرى. تكمن أوجه التطابق في أنّ العجائب هي علامة لحضور اللَّه بين شعبه ورعايته له ولبدء العصر المسّيانيّ (سؤال تلامذة المعمدان ليسوع متّى 11: 1- 5)، وفي أنّ اللَّه وحده، في العهد الجديد عبر الابن المتجسّد يسوع المسيح، هو الصانع العجائب وحده. أمّا أوجه التباين فتتمثّل في غياب العجائب كعلامةٍ لعظمة اللَّه وقدرته تجاه آلهة الأمم، وغيابها كعلامة تفوّق وكوسيلة انتقام من أعدائه وأعداء شعبه وكتعبير غضب. يطغى على ظاهرة العجائب في العهد الجديد طابع المحبّة والرأفة والحنان والفرح، إضافة الى طابعٍ لم نشهده في عجائب العهد القديم، ألا وهو طابع التخفّي والانسحاب الذي رافق أغلبيّة عجائب المسيح. أضف إلى ذلك طابع التخلّي عن اجتراح العجائب (يسوع في بستان الزيتون متّى 26: 25، ويسوع على الصليب متّى 27: 39– 44). وفي هذا دلالة مهمّة على تفوّق شخص المسيح وكشفه في العهد الجديد على كلّ أشخاص العهد القديم وأنبيائه وصورهم الكشفيّة الضبابيّة (الرسالة إلى العبرانيّين). وهنا أقول تفوّق، أو بالحريّ تخطّي، لا إلغاء. فالعهد القديم هو كتاب كشف إلهيّ لكنّه يبقى ناقصًا ومن وراء برقع. لذا لا يُقرأ العهد القديم إلّا بمنظار العهد الجديد، ولا تأخذ عجائب العهد القديم معناها ومنظورها الحقيقيّ إلّا على ضوء عجائب المسيح في العهد الجديد.
دوافع العجائب وغاياتها
العجائب عند المسيح لم تكن غايةً بل وسيلة من وسائل أخرى لكشف صورة اللَّه الحقيقيّ المتباينة عن الصور التي ينحتها البشر عنه. لذا كان لها طابع بنّاء أكثر ممّا لها طابع انتقاميّ تدميريّ غضبيّ. والغريب أنّ البعض، حتّى يومنا هذا، يحنّ إلى هذا الطابع الأخير ويطالب اللَّه به وغالبًا ما يُلصِقُه به زورًا. لأنّه لا يريد أن يرى من اللَّه ألّا النزعة القايينيّة (نسبة إلى قايين) المعشّشة فيه، والتي تجعل من اللَّه أداة قتل وإلغاء لمن لا يرون فيهم إلّا الشرّ ويغضّون النظر عن الشرّ الذي فيهم.
لم يقيّد المسيح نفسه بأيّ قواعد أو شروط مسبقة لعجائبه. فحينًا يقوم بالمعجزة بناءً لطلبٍ وحينًا آخر من دون طلب. حينًا يشترط الإيمان وحينًا آخر لا يشترطه. حينًا يقوم بها علانية ويدعو إلى الإخبار عنها وحينًا آخر يقوم بها خفية ويُنهي عن الإخبار عنها. هذا يعني أنً دوافعه كانت تتباين من حالة إلى أخرى. وأنّ وراء كلّ أعجوبة غايةً خلاصيّة محدّدة تخدم تدبيره الخلاصيّ. وليس المجال هنا لتعداد الأعاجيب وغاياتها ودوافعها. خلاصة القول إنّ عجائب المسيح ليست فعلًا استعراضيًّا أو ترفًا مسلكيًّا، بل هي وسيلة تدبيريّة آنيّة يلجأ إليها لبلوغ هدف تبشيريّ خدمةً للخلاص. كلّ تعامل مع الأعجوبة على أنهّا فعلٌ إبهاريّ فحسب يحوّل المسيح إلى ساحرٍ والمعجزات إلى خوارق لا غاية لها ولا تبدّل شيئًا في حياة الإنسان. يجب أن تقترن مطالعتنا أيّ أعجوبة في الكتاب المقدّس بمعرفة دوافعها وغاياتها، حينها فقط يمكننا أن نرتشف منها عصارتها الخلاصيّة.
البعد الكونيّ للأعجوبة
تعدّدت المحاولات التي سعت إلى إعطاء تفسير عقلانيّ للأعاجيب، وأجمعت كلّها على استحالة الوصول إلى مثل هذا التفسير. لأنّ الأعجوبة مسألة لاهوتيّة وليست مسألةً وضعيّةً خاضعة للتحليل والتفسير المنطقيّين. جوهر الأعجوبة قائمٌ على مبدأ تخطّي العقل والقوانين الطبيعيّة والفيزيائيّة. وبقي الخلاف، على الصعيد اللاهوتيّ، في توصيف الأعجوبة على الشكل التالي: في حين الأعجوبة، هل يُلغي المسيح، لحين ما، القوانين الطبيعيّة والفيزيائيّة التي تحكم عالمنا المخلوق أم يتخّطاها؟ الجواب عن هذا التساؤل يكشف معتقدًا لاهوتيًّا كونيًّا (Cosmologique) قائمًا على التساؤل التالي: كيف يتعامل اللَّه مع الكون وقوانينه التي أبدعها بنفسه من العدم؟ وتاليًا كيف على الإنسان، المخلوق على صورة اللَّه، أن يتعامل معها؟ من قال بالإلغاء يجعل عداوةً بين اللَّه وخليقته، إذ يجعل من قوانين الخليقة عائقًا أمام معجزاته وتاليًا أمام تدبيره الخلاصيّ ويناقض الحُسْنَ الذي خلق اللَّه الكون بأجمعه عليه. ومن قال بالتخطّي أقرّ بقدرة اللَّه الإبداعيّة وقدرته على تخطّي ما أبدعه نحو الأفضل خدمةً لخلاص الإنسان. لم ولن تكون لقوانين الخليقة عداوةٌ مع اللَّه ولن يكون لنتاج العقل البشريّ العلميّ أيُّ تناقض مع تدبير اللَّه الخلاصيّ لأنّ اللَّه خلقه (العقل) لغاية العلم والمعرفة، ولن يشكل هذا النتاج خطرًا على اللَّه وعلى كتابه المقدّس، وعلى الحقائق الإلهيّة التي كشفها لنا لنكون في شركة معه. المشكلة ليست في العقل والعلم بل في الاستخدام الشرّير لها.
تتخطّى الأعجوبة القانون الفيزيائيّ من دون أن تلغيه لأنّها فعلّ إلهيّ محبّ لا يُلغي بل يبدع دومًا. المسيح، مثلًا، في سيره على الماء لم يلغ قانون أرخميذيس والدليل أنّ بطرس، في إيمانه، شارك المسيح هذا التخطّي ومشى على الماء، وفي شكّه انفصل عن قدرة المسيح الإبداعيّة وكاد أن يغرق. هذا يعني أنّ مبدأ أرخميذيس كان ساريًا حين الأعجوبة.
لا يتجلّى الوجه الإبداعيّ للأعجوبة فقط في تخطّي القوانين الطبيعيّة، بل في قدرة المسيح الخلّاقة من العدم (شفاء الأعمى منذ مولده – تكثير الخبز والسمك وغيرها). فالأعجوبة هي أيضّا كشف لوجه اللَّه الخالق سرمدًا وأبدًا.
البعد الأخرويّ للأعجوبة
هنا يتبدّى لنا بعدٌ آخر للعجائب، فهي مطلٌّ على الآخرة، تحقيق مسبقٌ لها، لكلٍّ منها بعدٌ أخرويّ (Eschatologique)، من دونه لا يمكننا أن نفهم الرسالة التي أرادها المسيح من عجائبه. فالأخرويّات هي عالم العجائب لأنّ كلّ شيء فيها سيكون جديدًا. لن يكون للأخرويّات بعدٌ زواليّ بل بعدٌ تجديديّ. الجديد لا يُزيل القديم بل يلغي ما زرعه الإنسان فيه من شرّ ويعبره إلى ما هو أبعد منه. في الأخرويّات لن تزول المخلوقات وقوانينها، بل تزول قيودها ومحدوديّتها وستبقى في خدمة اللَّه لخيرنا وحياتنا الأبديّة معه في آخر الآزمنة.
العجائب اليوم
هناك بعضٌ يرفض ظاهرة العجائب كلّيًّا. ربّما ولدت هذه القناعة بسبب مفاهيم للعجائب غير سليمة، أو بسبب ممارسات تقويّة غير أصيلة تجاهها لا بدّ من العمل لتقويمها. هناك من يرفضها انطلاقًا من قناعات عقائديّة وإيمانيّة.
بالنسبة إلى إيماننا الأرثوذكسيّ، من يرفض، بالمبدأ، واقعة العجائب يرفض حضور اللَّه وروحه القدّوس في البشر، «عجيب اللَّه في قدّيسيه». ولكنّ هذا لا ينفي سيادة مفاهيم خاطئة وخطرة حول العجائب بين المسيحيّين، ووجود «مسحاء دجّالين وأنبياء كذّابين، يأتون بآيات عظيمة وأعاجيب لو استطاعت لأضلّت المختارين أنفسهم» (متّى 24: 24). وحده من قرأ عجائب المسيح بدوافعها وغاياتها سيتمكّن من التمييز.
انحراف سائد نقع به في حديثنا عن العجائب، هو القول «إنّ القدّيس فلان صنع أعجوبة». ما هو واضح في الكتاب أنّ اللَّه هو «الصانع العجائب وحده». في تقليدنا لا نسمّي القدّيس «صانعًا للعجائب» بل «عجائبيًّا» بمعنى أنّ اللَّه يجترح العجائب عبره. وتأكيدًا لهذا القول أقف عند حادثة شقّ أليشاع مياه نهر الأردنّ في 4ملوك 2:1- 14. ورد في هذا النصّ:
«ورفع (أليشاع) رداء إيليّا الذي سقط عنه ورجع ووقف على شاطىء الأردنّ. وأخذ رداء إيليّا الذي سقط عنه وضرب المياه فلم تنفلق. ثمّ قال أين الربّ إله إيليّا الآن أيضًا وضرب المياه فانفلقت إلى هنا وهناك وعبر أليشاع» (12-13).
نلحظ أنّ عبارة «رداء إيليّا الذي سقط عنه» تتردّد مرتين، وذلك لتأكيد أنّ أليشاع ظنّ أنّ رداء إيليّا هو المحور الأساس، وهو الذي سيفلق مياه الأردنّ، وأنّ حضور شخص إيليّا طغى عند أليشاع على حضور اللَّه. كما نلحظ أنّ انفلاق نهر الأردنّ لم يتمّ إلّا بقول أليشاع: «أين الربّ إله إيليّا الآن أيضًا».
فحذار الوقوع في الانخداع كوقوع أليشاع فيه n