2019

1. الافتتاحيّة - كلمة ووجوه - الأب إيليّا (متري) – العدد السابع سنة 2019

كلمة ووجوه

الأب إيليا متري

 

من شؤون المسيحيّ الذي يحيا للَّه أنّه يراجع نفسه، ويقوّمها، ليرمي عنه كلّ ما اختبر أنّه، خطأً، يضرّ به وبأترابه، ويقبل الجديد الذي يراه يبنيه وسواه، ويحتفظ به، ويشجّع عليه.

هذا، من دون أن أستبعد ما نختبره في الحياة الدنيا، أريد منه ما يجري معنا في الحياة الكنسيّة. وإن كنّا نعلم أنّ اللَّه لا يشرّع لنا أن تحضّنا خطايا الناس على أن نستسلم إلى بطالة مهلكة، فيبقى لي، من تأمّلي، أن أدعو نفسي إلى أن أزداد وعيًا أنّ شأني، أبدًا، «أن أختبر كلّ شيء، وأتمسّك بما هو حسن».

«أختبر كلّ شيء»، لا تعني أن أتعاطى حياتي وقناعاتي تعاطيًا فرديًّا. فالرسول، في هذا القول الذي وضعه في صيغة الجمع (1تسالونيكي 5: 21)، كان له فيه قصد كنسيّ. فأنا، عضوًا في كنيسة اللَّه الحيّ، أختبر أموري وفقًا لقناعة كنيستي. وفي الكنيسة، ثمّة عمارة فكريّة هائلة. وفي الكنيسة، إخوة كثيرون تجمعهم محبّة واحدة. وهذا عليَّ أن أراه قائمًا في كلام الرسول، حرفًا حرفًا. عليَّ أن أراه يحثّني على أن أبيّن اقتناعًا كاملاً بأنّ ما هو حسن قائمٌ في التزام إخوتي الذين جعلتهم كلمة اللَّه «وجوهًا من نور». هل يمكن أن يكون إخوتي، في هذا الأمر أو ذاك، واقعين جميعهم في وهد هاوية تبدو لا مخرج لها؟ أجل، يمكن. ولكنّ إمكان أن تكون المجموعة كلّها على خطأ هو أقلّ، بأكثر من كثير، من أن يكون الفرد على خطأ.

أحبّ أن أذكر أنّني، منذ التزامي، أُخذت باعتقاد أنّ حياتنا في المسيح لا تستقيم حقًّا إن لم نلتزم الكلمة والإخوة في آنٍ. هل هذا من أنّ أمّي وأبي لم يأتيا بي إلى التزام كنيستي؟ لا أقلّل من دور أيّ والدَين إن قلت إنّني، الآن، لن أهتمّ بضوء هذا الدور المحوريّ، بل بأن تضاء قلوبنا بوعي أنّنا، إن فصلنا بين الإخوة والكلمة، نوقع أنفسنا في جبّ مظلم. فالكلمة والإخوة لا يُفصل بينهما. فإن التزمنا الكلمة من دون الإخوة مثلاً، فالمرجّح أن نواجه خطر أن نفهمها على هوانا. وإن التزمنا الإخوة من دون الكلمة، فسنغدو، حكمًا، تجمهرًا إن طُلب منه الوقوف، يقف، وإن القعود والتصفيق، يقعد ويصفّق!

أمّا أعلى ما علينا ملاحظته في القول: «أختبر كلّ شيء، وأتمسّك بما هو حسن»، فهو أنّ الرسول فيه لم يخضع لسلطان الزمان. وهذا يجب أن يعني لي أنّه يريدني أن أسعى، ما دام قلبي ينبض، إلى أن أزداد خبرةً في وعيي أنّ الكلمة وإخوتي حاجتي الدائمة إلى خلاصي. فأنا، لا نفع لي إن أبعدت نفسي، لحظةً، عن إخوتي وما تقلّدوه إرثًا. ربّما أحسب أنّني أقدر على أن أحيا مسيحيّتي وحدي منفردًا. ربّما ورثت هذا الحسبان. ربّما اقتربت من الجماعة، ثمّ دفعتني بعض ضعفات، رأيتها، إلى أن أبتعد. هذا من جهة. أمّا من جهة أخرى، فربّما تعوّدت أن أرى نفسي أفضل من الآخرين جميعًا. أو ربّما ارتضيت أن أغرق في حياتي العائليّة أو العمليّة... لكنّني لا أفهم شيئًا، في هذه الحياة، إن لم أفحص ذاتي، في غير تحرّك يخالجني، على ضوء الجماعة التي وُلدت فيها. وهذا يعني، أيضًا وأيضًا، أنّ الرسول، فيما يريدني قادرًا على صدّ أيّ إغراء يفصلني عن إخوتي، يريدني أن أحدّد مصادر خبرتي، وأن أتمسّك بما يوافق نموّي باللَّه فحسب.

إذًا، ما من حياة صحيحةً بعيدًا من حياة كنيستي. إن كان معظم الناس أبعدوا أنفسهم عن شركة كنيستهم، فهذا لا يعني أنّهم على حقّ. فالبعيدون، أيًّا كان عددهم، لا يدرون ما الذي يخسرونه. لا يهمّ ما يقوله الناس بعيدين أو كسالى، لا يهمّ ما يقولونه، تبريرًا، عن بعدهم وكسلهم. المهمّ، بل الأهمّ من المهمّ أن أذكر، دائمًا، أنّني كائن جماعيّ (أن أذكر، وأذكّر). البعد، أيًّا كان التعبير عنه، بربرة لا معنى لها. وهذا، بالضبط، ما دعوت نفسي في مطلع هذه السطور إلى أن أراجعه، لأسترجع صحّة حياتي في المسيح. أخطر ما في الحياة، أو ما هو أكثر خطرًا على استقامة الحياة، أن أكتفي بما أقوله أنا نفسي عن نفسي. بلى، يمكنني أن أعرف أنّ الإنسان لا يأتي دائمًا ممّا يتحرّك في نفسه فحسب، بل ممّا يتحرّك في مجتمعه أيضًا. وأعرف أنّ الخروج من سدوم، أيِّ سدوم جديدة، في ظلّ واقع عنيد، يفترض أعجوبة!

أجل، لست، بما أقوله، أرفّع الملتزمين، وأهمل غير الملتزمين. فهذا عيب يخالف اللَّه وحقّه. ما أقوله، هو أنّني أدعو إلى أن نرفّع حقّ الالتزام في سعينا إلى أن نذكّر كلّ أخ مهمل بأنّه أخ لنا، ابن للَّه أبينا جميعًا. وكيف نفعل؟ بأن نكون، ملتزمين، صورةً عن حياة كنيستنا. إن سألتني: ماذا تعتقد أنّ اللَّه ينتظر من جماعته اليوم؟، لأجبتك من فوري أن يصدم التزامُ المؤمنين كلَّ أخ، يحيا بيننا، لا يدري أنّه أخ (أو عاد لا يدري). ثمّة في العالم أسس لحياة الناس. أمّا دعوتي الوحيدة، فأن أجعل خلاص إخوتي أساسَ كلِّ أساس؟ إن كنت لمّا أدرك أنّ اللَّه يريد أن يطلق كنيسته في الأرض (فيَّ)، أكون أحيا على جوانب المسيحيّة. لا يكفيني مسيحيًّا أن أربّت ضميري ببعض مقتضيات الالتزام. فهذه عينها تفترض أن أركض في إثر كلّ أخ للسماء لهفتها أن تقول عنه أيضًا: «ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاًّ فوجد» (لوقا 15: 24)! أعلى ما يدفعني إلى الناس أنّني أعرف (أو هذا ما يُنتظَر) أنّ اللَّه أحيانا بتبنّيه إيّانا بنعمته المخلّصة.

إن لم أعتقد أنّ بلاغة خبرتي تصنعها كلمة ووجوه، فالتزامي لا يكون التزامًا حقًّا. أمّا الوجوه، فلا أعني بها الإخوة الملتزمين فقط، بل، أيضًا، الذين أعطاهم روح اللَّه، في جهد الإخوة، موعدًا مع الالتزام. هذا، الذي التزامه يعني أنّني حيّ، هو الذي يؤهّلني لأن أفهم، أكثر فأكثر، معنى أنّني حيّ!n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search