2019

12. قضايا معاصرة - العائلة الروحيّة والعقيدة المشوّهة - د. إلياس صافتلي – العدد السادس سنة 2019

العائلة الروحيّة

والعقيدة المشوّهة

د‫. إلياس صافتلي

 

 أضطرّ آباء الكنيسة إلى تحديد العقائد الكنسيّة، وشرحها، وشرح تأثيرها في حياة المؤمنين، بسبب وجود العديد من الهراطقة الذين حاولوا في مراحل عديدة من التاريخ أن يشوّهوا الحقائق الإيمانيّة.

العقائد هي حقائق إلهيّة يعيشها المؤمنون في حياتهم لأجل خلاصهم، وتاليًا فإنّ أيّ تشويه يطرأ على هذه العقائد يؤثّر في حياة المؤمنين الروحيّة وفي خلاصهم. لذلك، تجاسر الآباء على الغوص في الحقائق الإلهيّة، وتفسيرها على قدر ما اعتلن لهم بالنعمة (والنعمة هي حضور اللَّه في حياتنا)، فدحضوا البدع التي شوّهت الإيمان من أجل خلاصنا.

بحسب آباء الكنيسة الأرثوذكسيّة، هدف حياة الإنسان، العضو في الكنيسة، جسد المسيح، هو التألّه، أي الاتّحاد الكلّيّ باللَّه. فيصبح الإنسان عندها سكنى للروح القدس. وهذا ما يؤكّده القدّيس سيرافيم ساروفسكي بقوله: «غاية الحياة هي اقتناء الروح القدس». ففي هذه المرحـلة، التألّه، يعاين فيها الإنسان اللَّه. هي ليست مرحلة نظريّة بل تجربة حيّة عاشها العديد من الآباء والقدّيسين في الكنيسة. هي خلاصة التقليد الأرثوذكسيّ الذي ينتقل من جيلٍ إلى جيل. فإذا شُوّهت عقيدة كعقيدة الثالوث مثلاً، ماذا يؤثّر ذلك في مسيرة الإنسان نحو غايته في اقتناء الروح القدس، وفي تبعاته من تقديس للنفس وتألّه؟ 

لنشرح أوّلًا من هو الثالوث القدّوس، اللَّه الآب، اللَّه الابن، اللَّه الروح القدس، الإله الواحد الذي نؤمن به.

تألُّه الإنسان، دشّنه وقدّمه لنا المسيح عندما صعد بالجسد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، أي اتّحد بالآب، سامحًا بذلك للجنس البشريّ بالاتّحاد باللَّه. التألّه يعني الاتّحـاد باللَّه، من دون الاقـتراب من جوهره. فينبغي أن نميّز بين جوهر اللَّه وأفعاله أو قواه الإلهيّة، غير المنفصلة عن جوهره. اللَّه نعرفه من أفعاله الإلهيّة الّتي يحضر بها في حياة الإنسان، ويلمس فيها قلبه، ويقدّسه، ويؤلّهه، فيدرك الإنسان أنّ اللَّه هو كائن حيّ موجود، أمّا جوهره فلا يدنى منه، ويبقى سرًّا.

 يشبّه الآباء هذا التمييز بين جوهر اللَّه وقواه بالشمس الّتي لا يمكننا النظر إليها عن قرب، ولا إدراكها عن قرب، ولكنّنا ننعم بدفئها ونورها عبر أشعّتها. هذه الأشعّة، غير المنفصلة عن الشمس، تمثّل الأفعال أو القوى الإلهيّة. بالقوى الإلهيّة يتقدّس الإنسان، ويتألّه من دون أن يدرك جوهر اللَّه. بل يلبس طبيعته الإلهيّة، مثل الحديد المحمّى بالنار، الذي يبقى حديدًا وتظهر عليه هالة حمراء، ولكنّه بجوهره يبقى حديدًا.

اللَّه مثلّث الأقانيم، اللَّه الآب، اللَّه الابن واللَّه الروح القدس. هم ثلاثة، وهم واحد، واحد في الجوهر أي في الطبيعة الإلهيّة، واحد في الإرادة والسلطان والعمل، وهم لا يتميّزون عن بعضهم البعض سوى من ناحية الخاصّيّة الأقنوميّة لكلّ منهم، أي بطريقة كينونتهم. فالآب هو مصدر الألوهة. الابن هو مولود منه منذ الأزل، وقبل كلّ الدهور. والروح القدس منبثق منه منذ الأزل، وبالتزامن مع الولادة، من دون أن تتمكّن محدوديّة معرفتنا من إدراك الفرق بين الولادة والانبثاق.

لا يوجد تقدّم في الكرامة من الآب على الابن والروح، هم واحد في المرتبة والكرامة. وعملهم أيضًا واحد، ولكن كلّ يشترك فيه على طريقته. الآب يشاء والابن يعمل والروح يكمّل. مثلًا: اللَّه الآب شاء أن يتجسّد الابن لخلاص البشر، اللَّه الابن تجسّد ومات وقام، وصعد إلى السماء، واللَّه الروح القدس أتى في العنصرة ليكمّل الكنيسة ويصونها. هناك محبّة كاملة، نقيّة، خالية من الشوائب، بين الأقانيم (الأشخاص) في الثالوث، وهم واحد في المحبّة (المحبّة هي الجوهر الإلهيّ). هذه المحبّة هي مثال للمؤمنين حتّى يحتذوا بها، ويعيـشوها ويـدركوها ويقتنوها حتّى يتألّهوا بالنعمة. وإذا تشوّهت هذه المحبّة، تختلّ عندئذ الحياة الروحيّة عنـد المؤمنين. بمعنى آخر، إذا تقدّم مثلًا الآب على الابن وعلى الروح القدس، أو تقدّم الآب والابن على الروح القـدس، تصبح محبّتهم ناقصـة، غير كاملة، فيختلّ مثال المحبّة، وتتشوّه الحياة الروحيّة عند المؤمنين. وتاليًا مسيرة الإنسان في غايته في اقتناء الروح القدس.

  العقائد أي الحقائق الإلهيّة ليست مجرّد أفكار نظريّة، بل هي وقائع ملموسة تنعكس مباشرة على حياتنا، لأنّ اللَّه هو كائن حيّ، نعيش فيه ويسكن فينا ونتلمّسه بالنعمة. إذًا العقائد ينبغي أن تكون حيّة فينا، وعيشها يكون عبر اعتمادنا الجهاد الروحيّ، الذي يؤدّي إلى معرفة اللَّه، بكياننا وقلبنا، فنقتني بذلك الخبرة الإلهيّة.

اللَّه، وحقائقه الإلهيّة، أي العقائد، ليس نظريّة نقاربها بالعقل وبالمعرفة، فاللَّه حيّ يلمس حياتنا وقلوبنا بأفعاله الإلهيّة وقواه. وهنا تصبح وظيفة العقل هي فقط ترجمة هذه الخبرة الإلهيّة، وليس ترجمة اللَّه من دون العيش معه. وأيّ تشويه للعقائد، لا يمسي عندها فقط تشويهًا لنظريّة علميّة، بل تشويهًا لخلاص البشريّة.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search