اللَّه أعظم من قلوبنا
د. جورج معلولي
يسمّي سفر الرؤيا الشيطان «المشتكي» على إخوتنا الذي يشتكي عليهم «نهارًا وليلًا أمام
إلهنا» (رؤيا 12: 10). هو المشتكي أو المقسّم الذي يشتكي عبر أفكارنا من دون توقّف على الإخوة، على الآخرين، على المجتمع والطبيعة واللَّه ساعيًا إلى التشتيت والانقسام. هذه قصّتنا منذ سفر التكوين: دائمًا الآخر هو المذنب: «لست أنا بل المرأة... لست أنا بل الحيّة... لست أنا بل اللَّه...». وتنقلب هذه الأفكار علينا فيظهر المشتكي زارعًا فينا إحساس الذنب، ليس لكي نتوب إلى الحقّ، بل ليسجننا في ذنبنا وفي فشلنا وضعفنا وعدم قدرتنا على الحبّ.
تغيثنا رسالة يوحنّا الأولى على الخروج من هذا السجن: «لأنّه إن لامتنا قلوبنا فاللَّه أعظم من قلوبنا ويعلم كلّ شيء» (1يوحنّا 3 : 20). لست أعرف نفسي حقّ المعرفة فكيف أحكم على نفسي وعلى الآخرين؟ وحده الكائن والذي كان والذي يأتي يعرفني حقّ المعرفة لأنّه مصدر وجودي. مأساة الإنسان اليوم أنّه لا يعرف قاضيًا غير نفسه أو ضميره. يذكّرنا يوحنّا بأنّ حكم الإنسان ناقص دومًا، وإذا حكم فهناك حاكم أعظم يتجاوز فهمنا وعدالتنا. وحده الحبّ سوف يحاكمنا بنظرة تكاد تكون نظرة طفل بريء. هل يتوقّف اللَّه عند أقنعتنا التي مسخت وجوهنا؟ أو هو يخترقها ليرى وجوهنا الحقيقيّة المستترة خلف الكثير من الجروح؟ ألم يظهر لنا على الصليب كمن لا وجه له لنشتهيه كما يصفه أشعياء؟
«أيّها الأحبّاء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو اللَّه. ومهما سألنا ننال منه لأنّنا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه». إذا أردنا ما يريده الحبّ ورغبنا في ما يرغب فيه، هل يمكن ألاّ ننال ما نسأل منه؟ ما نطلب من الحياة هو الحياة ذاتها ومصدرها وليس أشياء خارجة عنها. فالقلب الذي وجد سلامه في حضرة أمير السلام هو قلب وجد حرّيّته الكبيرة وله دالّة أو ثقة أمام اللَّه. «أطلبوا أوّلًا ملكوت السموات وكلّ شيء يزاد لكم» (متّى 6: 33). هذا التوجّه الأساس هو الذي يحرّر قلوبنا ويجعلها خفيفة خفّة الفراشات. ذلك بأنّ مطلب الحبّ الوحيد هو هذا: أن نلتصق بابنه يسوع ونحبّ بعضنا بعضًا كما علّمنا، أي كما ظهر لنا من حضن الآب غير المنظور. فإذا كنّا واحدًا مع ابنه، إذا استقرّ فينا روحه، نثبت فيه وهو فينا.
ألا تعلمون من أيّ روح أنتم؟ سأل يسوع تلاميذه لـمّا طلبوا إليه أن ينزل نارًا على من لا يؤمنون به. أن نكون من روحه وفي روحه، أن نتنشّق روحه، هو أن نرفض تدمير أيّ إنسان، أن نحترم حرّيّته، أن نصون وجوده وأن نجذبه إلى ملء الفرح في المحبّة. تلاميذ الحبّ على صورته لا يقتسرون أحدًا بل يشعّون ويخدمون ويعتنون ويدعون إخوتهم إلى وليمة الختن السرّيّة.
غير أنّ الحبّ ليس له أين يسند رأسه. فالحبّ، كالحكمة أكثر تحرّكًا من كلّ حركة (حكمة 7 : 24) يلج كلّ شيء وينفذ في كلّ شيء. أن نستقرّ في الحبّ يعني أن نسير دومًا من حبّ إلى حبّ أعظم، من بدء إلى بدء نحو بداءات لا نهاية لها كما يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ. هذا قفز من مجد إلى مجد كما يقول كاتب المزامير، تصاعد لا يتوقّف نحو الضباب المنير الذي يظلّل كلّ محبّ حتّى يتشكّل فيه المسيح ويولد منه للعالم. «تهُبُّ الرِّيْحُ حَيْثُ تُحِبُّ. فَأنتَ تَسْمَعُ صَوْتَها، لَكِنَّكَ لا تَعْرِفُ مِنْ أيْنَ تَأْتِي وَلا إلَى أيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذا هُوَ الأمْرُ مَعَ كُلِّ مَنْ يُولَدُ مِنَ الرُّوحِ» (يوحنّا 3 : 8). هكذا خيّال الحبّ مستقرّ دومًا على جواده ومتقدّم دومًا في مسيرة الحبّ.
بهذا نعرف أنّنا من الحقّ ونسكّن قلوبنا قدّامه. ما هو سرّ هذا السكون وهذا السلام؟ سرّه في يقظته وحضوره وصبره واحترامه غير المحدود لكلّ ما يصادف. الآتي من الحقّ هو من استيقظ من كلّ سبات وفتح عينيه على النور. ليس للمحبّ إلّا أن يحبّ، بألف طريقة وطريقة، معروفة وغير معروفة، كما يتطلّب منه الظرف وكما تتفتح أمامه كلّ لحظة ّمعبرًا إلى ملكوت الحبّ، و هو دائم في حضور الحبّ الآتي من العلى. ليس في قدرة الإنسان أن يحبّ بهذا المقدار غير أنّ فيه ما يؤهّله لاستقبال من هو أعظم منه، وهو يمدّه بقواه الإلهيّة الأزليّة القادرة على ألم الحبّ.
«هَذِهِ هِيَ لَحظَةُ انتِصارِ إلَهِنا وَقُوَّتِهِ وَمُلكِهِ، وَها مَسِيحُهُ قَدْ أظهَرَ سَلطانَهُ! لِأنَّ الَّذِي اتَّهَمَ إخْوَتَنا قَدْ سَقَطَ، وَهُوَ الَّذِي كانَ يَتَّهِمُهُمْ أمامَ إلَهِنا لَيلَ نَهارَ. لَكِنَّهُمْ هَزَمُوهُ بِدَمِ الحَمَلِ، وَبِالشَّهادَةِ الَّتِي قَدَّمُوها، إذِ لَمْ يَهتَمُّوا بِحَياتِهِمْ حَتَّى إلَى المَوتِ» (رؤيا 02: 10). من يبذل نفسه يستر البشر بستار المحبّة حتّى لا تصيبهم شكوى المشتكي فيهزموه بدم الحمل. فكلّما عظم الحبّ عظم الألم كما يقول القدّيس سلوان. وهكذا يعبرون معًا من الموت إلى المحبّة. فهذه المحبّة تجعل الحياة حيّة وتنقلنا من عالم الأشياء إلى عالم الحضرة، إلى عالم الوجوه. هذه كثافة فصحيّة وعبور حقّ من الموت إلى الحياة. ليس السؤال فقط أن أكون أو لا أكون بل هو في العمق أن أتلقّى الحبّ من الكائن والذي يكون، أن أتأكّد نفسي محبوبًا قادرًا على فتح المغاليق أمام نهر الحبّ واندفاقه وأن أحبّ.n