2019

9. حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة - حول العمل الحركيّ في حاضره ومرتقبه، في حقيقته وتجاربه - ألبير لحّام – العدد السادس سنة 2019

 

 

حول العمل الحركيّ

في حاضره ومرتقبه، في حقيقته وتجاربه

إلبير لحّام

 

 

لماذا نعمل في الحركة؟ إذا  ما رجع كلّ عضوّ حركيّ إلى ضميره وطرح على نفسه هذا

السؤال، لتعدّدت الأجوبة. فمن قائل إنّني في الحركة لأنّني أجد فيها أصدقاء وأقوم بأعمال خيّرة تملأ فراغي، ومن قائل غير طوائف عندها نشاطات نهضويّة للشباب فيجب أن نقوم بمثلها في الحركة، وآخر يقول أنا في الحركة لإتمام رسالة المسيح التي ألتزمها بالمعموديّة. وهذا الجواب الأخير هو الصحيح. وعلى كلّ حركيّ أن يصل إلى اكتشاف هذه الدعوة الإلهيّة ليكون صورة لمحبّة المسيح في مجتمعه.

ومن أراد أن يكون حركيًّا ناجحًا يجب أن يلتزم حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة، والأرثوذكسيّة ليست بعقائدها فقط التي تحدّد الإيمان وتفصل بين ما هو أرثوذكسيّ وهرطوكيّ، فالعقائد تشبه الحدود لأنّ من يخرج منها يخرج عن المسيحيّة، ولذا فالأرثوذكسيّة ليست الحدود بل ما هو داخل هذه الحدود، كما أنّ لبنان ليس حدوده، بل ما هو داخل هذه الحدود من أرض وثروات طبيعيّة وإنسانيّة من فكريّة وروحيّة. لذا فالأرثوذكسيّة ليست فقط تحديدات المجامع بل ما هو داخل هذه الحدود من حياة روحيّة وتراث مشترك، فهي الكنز الروحيّ الذي انبثق من المسيح وصار تيارًا من القداسة والمحبّة والخدمة الإنسانيّة، تيارًا من الكمال في التواضع وبذل النفس والتضحية على غرار القدّيسين الذين من أوّل مجيء المسيح إلى اليوم لم ينقطع خطّهم بنعمة الروح القدس، وأنّنا بإذن اللَّه داخلون بهذا الخطّ. لذا فنحن مدعوّون كحركيّين أن نكون رسلاً للربّ يسوع ولنحمل في شخصنا صور محبّة الربّ يسوع في هذا العالم.

يمكننا تحقيق ذلك إذا تقرّبنا من الربّ يومًا بعد يوم بمطالعة الكتاب المقدّس ليس فقط في الحركة مرّة أو مرّتين في الأسبوع، بل في بيتنا، وبالمواظبة على الاشتراك في حياة الكنيسة الطقسيّة من صلوات وأصوام والاقتراب من الأسرار المحيية والقيام بمطالعات روحيّة كثيرة وخدمات متنوّعة، بدافع المحبّة الصادقة باسم يسوع لأنّ القضيّة لا تتعلّق بدافع النزعة الطائفيّة. والقضيّة الحركيّة لا تخصّ رئيس المركز أو رئيس الفرقة، وعلى كلّ واحد أن يعتقد بأنّ القضيّة لا شخص غيري، بل شخصي أنا، شخص حياتي، شخص طريقة إيماني وجدّيّة معموديّتي التي التزمتها في المسيح.

ثمّ ليس من أحد كامل في الحركة. بل العمل الحركيّ هو شركة الجميع معًا، الكبار والصغار، الرؤساء والأعضاء العاديّين، لأنّ الرئيس ليس كذلك لأنّه أحسن من غيره، بل لأنّه يقوم بوظيفة تجعله مسؤؤلاً أوّلاً وخادمًا للجميع فالرئاسة خدمة وليست تسلّطًا. فلذلك العمل الحركيّ ليس فيه كبير وصغير. والصغير عندما يجد انحرافًا عند الكبير يمكنه أن يعترض، والكبير عليه أن يفحص ضميره كلّ يوم، وعندما يرى أنّ الانتقاد الموجّه إليه على شيء من الصحّة يجب أن يعيد النظر في موقفه. فلسنا ملتزمين بخطّة معيّنة، بل ملتزمين فقط لنكون أمناء للربّ يسوع وإلى رسالته ومحبّته في هذا العالم.

هناك من يعتقد أنّ من أراد أن يتبع الرسالة المسيحيّة بحذافيرها يصبح كأنّه خارج عن العالم الحاضر، عالم العلم والتكنولوجيا، وأنّ المسيحيّة ما عادت على الموضة. والحقيقة أن المسيحيّة كانت دائمًا خارجة عن موضة عصرها. وفي عصر العلم اليوم ليست الشرور أقلّ ممّا كانت عليه في أيّام المسيح والعهود الوثنيّة. فنرى اليوم الركض وراء المادّة والشهوات كما تكثر اليوم الحروب والتعدّيات والجرائم، والعدالة الاجتماعيّة لم تكتمل، فيحصل أيضًا استثمار الإنسان لأخيه الإنسان «ولا يعطى العامل أجرًا كافيًا بينما أرباب العمل ينعمون بكلّ ما فاض من الأرباح. كما ينتشر الفقر والبؤس بنوعيه الروحيّ والمادّيّ في أنحاء كثيرة من العالم. لذلك أيّام هذا العصر الحاضر عصر الصواريخ والعلم والحياة الاجتماعيّة الصاخبة، عصر المادّة والركض وراء الشهوات، نأتي ونقول لا، إنّنا نؤمن بأن خلاص الإنسان وسعادته لا يأتيان من هذه التكنولوجيا ولا من هذا الانغماس في الشهوات ولكنّهما يأتيان بالمحبّة التي يعطينا إيّاها يسوع المسيح. وإذا قرأنا رسائل بولس الرسول نرى أنّه كان يدعو المسيحيّين إلى ألاّ يشتركوا في هذه الأعمال كلّها، لا في غرور الجسد وشهواته، ولا في السعي وراء المادّة بصورة عمياء تجعل الإنسان يستبيح كلّ الأمور كي يحصل على الثروة، ويقول لهم لا تشتركوا في هذه الحياة، فأنتم لستم من هذا العالم. عيشوا كأنّكم مفديّون بدم المسيح وعيشوا على أنّكم تخلّيتم عن روح العالم هذا، وعلى أنّكم عائشون بحسب روح المسيح بحسب روح الحكمة وروح الفهم وروح الطهارة وروح المحبّة، في وسطهم تعيشون ولكن ليس مثلهم. ولا تكونوا مختلفين عنهم حتّى تتباهوا أنّكم أحسن منهم ولكن قدّموا لهم مثالاً كيف يجب أن يكونوا.

ولكن من المؤسف بينما كان المسيحيّون في الماضي ينفصلون عن الوثنيّة بطريقة عيشتهم، أصبحنا اليوم مضطّرين إلى أن نتميّز عن الوثنيّة التي يعيشها من يحملون اسم المسيح، فكأنّنا ننفصل عن المسيحيّة ونجري فيها انقسامًا بطريقة عيشنا. كما أنّ من ينظر إلى المسيحيّة من الخارج، من غير المسيحيّين من شعوب آسيا وإفريقيا كالبوذيّين والإسلام وحتّى الشيوعيّين الملحدين، فإنّهم إذا ما نظروا إلى أوروبّا وأميركا وما تقوم به دولها ذات الأكثريّة المسيحيّة من أعمال الاستعمار، وتسلّط الإنسان على أخيه الإنسان والحروب وكلّ أنواع الاستغلال، فلا يحصل العامل على عشر حقّه من الأجر بينما معظم الأغنياء لهم كلّ الأرباح ولا يهتمّون بالفقراء، فإنّهم يتصوّرون أنّ المسيحيّة هي المدينة الغريبة بكلّ ما فيها من مساوئ، فينسبون إلى المسيحيّة كلّ هذه الرذائل وكلّ هذا الفساد. أمّا نحن فنعرف أنّ المسيحيّة ليست تلك البيئة الأوروبّيّة أو الأميركيّة. ولذلك انطلاقنا في عملنا الحركيّ يبتدئ من هنا بالضبط، من أنّ يتوضّح في ذهننا الفرق بين حياة المسيح وحياة العالم الحاضر. ونحن مدعوّون بحركة إيماننا وبحركة المعرفة الروحيّة ليس فقط إى أن نعيش حسب حياة المسيح من دون أن ننغمس في شهوات العالم، إنّما لكي ننطلق رسلاً إلى هذ العالم سواء أكان وثنيًّا أم حاملاً اسم المسيح زورًا وصورة.

إذا كان هذا جوهر الدعوة الحركيّة وجوهر العمل الحركيّ يتّضح لنا كم نحن كثيرًا ما نبتعد عن الهدف ونلتهي بأعمال نعتقد أنّها العمل الأساس. وهنا تظهر التجارب أوالعثرات التي نصادفها في عملنا الحركيّ وسأذكر أربع تجارب فقط. فأوّل تجربة نجدها في عملنا الحركيّ هي:

١- تجربة العمل:

نعتقد أنّنا حركيّون صحيحون لأنّنا نشترك في مدارس الأحد وفي عمل اجتماعيّ أو في حلقة تدريبيّة، ونعتقد أنّنا إذا قمنا بساعة أو ساعتين في الأسبوع ببعض الأعمال الحركيّة نكون قد عملنا كلّ واجبنا ويرتاح ضميرنا من جهة انتمائنا إلى الحركة. وهذه تجربة كبرى لأنّ العمل الحركيّ ليس بعض ساعات أقوم بها بل هو حياة ينبثق عنها إعطاء بعض ساعات. العمل الحركيّ الأساس هو حياتي أنا وكيف أعيشها في العالم، فالأعمال الحركيّة وسيلة لنتقدّم نحو المسيح. وإذا قمنا بهذه الأعمال ولم يتغيّر شيء في حياتنا نكون سببًا للحكم ليس فقط على المسيحيّة من قبل غير المسيحيّين ولكن للحكم على جماعة الحركة التي تدّعي أنّها تحاول أن تعيش المسيحيّة الحقيقيّة، فيتجدّف على اسم المسيح بسببنا. لذلك بولس الرسول برسالته إلى أهل رومية كان يقول لهم: أنت الذي تعلّم الناس على ألاّ يكذبوا، أتكذب؟ أنت الذي يقول للناس ألاّ تزنوا، أتزني؟... لذلك يقول لهم الرسول بسببكم يجدّف على اسم المسيح بين الأمم.

٢- تجربة التعلّق بأشخاص:

عملنا الحركيّ ليس مبنيًّا على إيماننا بأشخاص، عملنا مبنيّ على وجود روح اللَّه في قلوبنا وعلى إيماننا بأنّ روح اللَّه هو الذي يقود حياتنا ونضوجنا إليه فلا يكون انتماؤنا إلى الحركة سببه وجود أحد رؤسائها، وإذا رأينا أنّ أحد هؤلاء انهار في المسيح فيجب ألاّ ننهار. طبعًا في الحركة الإيمان ينشئ إخوة وينشئ شركة، وفي هذه الشركة يوجد أناس يقودوننا إلى خير أكثر وإلى محبّة أكثر ولكن يوم ينهار أحدهم يجب ألاّ أنهار، وكلّ واحد منّا يمكنه أن يقوم بدور القيادة إذا سلّم نفسه ليسوع. إذًا العمل الحركيّ ينطلق من تلك الحياة الداخليّة ولا يتأثّر بأحد. لأن ليس أحد بدون خطيئة، ولكن يمكن لكلّ واحد أن يتوب وتكون توبته ظاهرة. فكما أنّ الخطيئة الظاهرة تكون سببًا للشكّ وعثرة للغير كذلك يجب أن تكون التوبة ظاهرة حتّى يتشدّد الآخرون. وكما أنّه عليّ ألاّ أخطئ حتّى لا يضعف غيري كذلك عليّ ألاّ أضعف وأتأثّر إذا أخطأ أحد ولا أقول إنّني مستعدّ أن أعمل في الحركة إذا كان فلان يترك العمل أو إذا فلان يدخل فالشرط غير موجود في الحركة. وإذا كان أحد العسكر ترك المعركة وفرّ فهذا لا يعني أنّ المعركة قد انتهت، وإذا كان أحد القادة قد خان فلا يعني هذا أنّه على الجيش أن يستسلم. ولذلك فتجربة أن نبني عملنا الحركيّ على تمسّكنا بأشخاص ما يجعل الحركة من جهة حركة تحزّبات ومن جهة ثانية يفقدنا الشعور بالمسؤوليّة الشخصيّة في العمل الحركيّ.

٣- تجربة العلم:

يعتقد البعض بأنّ على الإنسان أن يكون متعلّمًا حتّى يستطيع أن يمثّل الحركة. فالعلم والعقل شيء، ومعرفة المسيح شيء آخر. طبعًا معرفة المسيح تفترض نوعًا من العلم، فتتطلّب قراءة الكتاب المقدّس وفهمه والاشتراك في الأسرار وحياة المحبّة ومعرفة تاريخ الكنيسة وعقائدها الرئيسة وإمكانيّة التعبير عن هذه المعرفة. ولكن هذه المعرفة هي روحيّة أكثر ممّا هي عقليّة لأنّّها حياتيّة. فالعلم الروحيّ يأتي من الخبرة الروحيّة، من الممارسة الروحيّة، من شركة القدّيسين والصلاة والاعتماد على الروح القدس وقيادته لحياتنا. مثل هذا الإنسان يمكنه أن يكون قائدًا روحيًّا، وغيره مهما كان ماهرًا في محاربة شهود يهوه ومحاججة المعمدانيّين والسبتيّين والبروتستانت من كلّ الشيع، أو محاججة أتباع الأديان غير المسيحيّة، ومهما كان ماهرًا في علم العقل والمحاججة، إذا كان عمليًّا في حياته غير مسيحيّ لا يقدر على أن يكون قائدًا في الحركة. فالقيادة الحركيّة متلازمة فقط مع العلم الروحيّ الذي ينطلق من الحياة في الكنيسة ودراسة الكتاب والنموّ في شركة الأسرار وشركة القدّيسين.

٤- تجربة الاعتقاد بأنّنا أحسن من غيرنا:

أو أنّ كلّ من ليس في الحركة هو غير صالح. وتاليًا هذا يقودنا إلى أن نجعل الحركة نوعًا من الحزب الفرّيسيّ.

فالفرّيسيّ وقف أمام الهيكل وقال: أشكرك يا ربّ لأنّني لست مثل هذا العشّار، أنا أصوم وأصلّي وأعرف الشريعة، وأعطي الفقراء... فيقول لنا الربّ إنّ هذا الفرّيسيّ الذي كان عن صحيح يتمّم الشريعة، خرج غير مبرّر، بخلاف العشّار الذي كان راكعًا ويعترف بخطيئته. فتجربة كبرى أن نعتبر أنفسنا أفضل من غيرنا. لأنّه كلّما تقدّمنا في حياة المسيح كلّما وجدنا مقدار النقص الباقي في حياتنا الشخصيّة. وإليكم هذا المثل: إذا دخل أحدنا إلى غرفة مظلمة وهو يلبس بذة بيضاء ملطّخة بالحبر الأسود لا يرى هذه اللطخات، ولكنّّ إذا خرج إلى نور الشمس فعند ذلك يرى مقدار سواد اللطخات. الشيء ذاته يحصل للذي يبتعد عن ظلمة هذه العالم ويعيش مع المسيح.

والعمل الحركيّ هو عمل تواضع، هو عمل لا نعتبر أنّه لنا فيه فضلٌ، مثلما قال المسيح: هل أنتم اخترتموني أم أنا اخترتكم؟ ومهما فعلتم قولوا إنّكم عبيد بطّالون. نحن حقًّا بطّالون لأنّنا لا نزال بعيدين، ولأنّنا إذا كانت محبّتنا صادقة فلا ندين الآخرين ولكن نساعدهم ونفكّر كيف نخدمهم.

فمثلاً نفكّر في إحدى القرى بأنّ الخوري لا يعمل شيئًا، لذلك يستوجب أن نهمله، ومن لا يعمل معنا نقاطعه وإذا تكلّم علينا سوءًا نردّ عليه بالمثل. فبالعكس من ذلك، إذا كان الخوري لا يعمل شيئًا، فعلينا أن نفكّر كيف يمكننا أن نساعده حتّى يعمل، فندعوه ولو ليباركنا حتّى يشعر أنّّنا نحن بالفعل أبناء الكنيسة وأنّنا بالفعل نحترمه كأبينا. وإذا تكلّم غيرنا علينا فعلينا أن نفكّر جدّيًّا لماذا، فنجرّب أن نصلح أنفسنا. فنسعى لا إلى أن نكون أحسن من غيرنا بل جماعة يطبّقون حياة المسيح. وإذا قيل فلان حركيّ، لا يعني ذلك أنّه داخل في حزب الحركة، ولكنّه رجلٌ متواضع، إذا طلبه أحد يلبّيه، إذا قال له سرّ معي ميلاً يمشي ميلين، إذا طلب منه الجاكيت يعطيه أيضًا الصدريّة، وإذا وجد خلافًا بين اثنين يسعى إلى المصالحة، بهذه الطريقة يعرف الناس أنّكم أبناء الربّ وأنّكم حركيّون.

ونحن في الحركة لسنا في الطائفة حتّى يخدمنا الغير أو يوصلنا إلى مركز أعلى حتّى يصير البعض منّا مطارنة أو مدراء مدارس أو أعضاء جمعيّات خيريّة،  ولا لكي يكرّمونا ويقولوا عنّا إنّنا نحسن الوعظ ونقوم بأعمال حسنة، ولكن لنكن متواضعين، وصورة عن المسيح الذي كان خادمًا للكلّ. وكما قال بولس الرسول عن يسوع في (٢كورنثوس) لم يكن عند المسيح نعم ولا بل كان كلّه نعم، أي لم يكن يرفض أحدًا. فهذه الكلمة الجميلة تعلّمنا أن نتجنّب ملّ ما هو سلبيّ في حياتنا وتساعدنا على أن نتجنّب أكبر تجربة في عملنا الحركيّ.

ومجمل القول، الحركة حياة في الربّ يسوع حياة قويمة كما تعني كلمة أرثوذكسيّة وتمجيد قويم للربّ.n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search