2019

6. خاطرة - مكتبتي صليبي - الشمّاس بول (نقولا) – العدد السادس سنة 2019

مكتبتي صليبي

الشمّاس بول نقولا

 

مكتبتي صليبي إذ يُبكّتني كل كتاب فيها وبخاصّة الكتاب المقدّس. فصليبي عبء وفرح، قلق وطمأنينة، تعب وارتياح، إنَّ صليبي لهو شوق فلقاء.

في خفايا مكتبتي خواطري، كلمات مُحبَّرة على ورق، أواعدها، أحادثها، أعانقها، أداعبها، أتذكّرها، أودِّعها إلى حين.

مكتبتي صفحات كَتبَتْ أسطر طفولتي، روايات حَكَتْ نزهة المراهقة، ثقافات تُسيِّر طريق الكهولة، وأحاديث لم أصادفها بعد آمل أن ترسم يومًا سبيل الشيخوخة.

في زواية صليبي أيقونات استمدَّت قداستها من جلجلة القيامة، كُتبت عليها وجوهًا شفعاء، يستيقظون معي، ويأكلون معي، ويرافقونني في عملي، هم قديسون يتبعونني حتّى الفراش فأنام و لا يرتاحون إلى نوم.

مزايا مكتبتي أسرار ليست كالأسرار، وحكايات ليست كالحكايات، وسرد ليس للإخبار وحسب، إنّما لعيش كلمات مصفوفة، مرصوصة، موزونة، قيِّمة.

وهذا هو الصليب، أن يُترجم المرء كنز مكتبته علمًا وعملًا، لا أن يخجل منها، وكم أخجل أنا، كم أخجل حين أنظرها، إن فعلت، وكم يرتابني القلق حين أراها، إن صودف، فبقدر غناها أفتقر إلى الثقافة، وبقدر تواضعها يخنقني الكبرياء، وبقدر طهارتها تفضحني خطيئتي.

مكتبتي صليبي، أي كما بالصليب تُباد الجحيم، كذلك يجب أن تبيد هي جهلي، ولكنّ اقترابي يكشف عمق هذا الجهل.

فإنّنا، إنّما نستطيع أن نشتري الكتب ولكنّنا لا نستطيع شراء الوقت، نستطيع أن نشتري الموسوعات ولكنّنا لا نستطيع شراء النخوة، نستطيع أن نشتري الأيقونات ولكنّنا لا نستطيع شراء السجود والصلاة، نستطيع أن نشتري الشموع ولكنّنا لا نستطيع شراء استنارتنا شموعا ذوّابة في إنارة الآخرين. فصليبي أن أستثمر الوقت وأمتلك النخوة وأجاهد في السجود والصلاة، صليبي أن أستضيّ حقيقة من النور الحقيقيّ.

أن يجاهد الإنسان في بنيان نفسه والآخرين خيرٌ من التبرير والكسل واختراع الحجج، وكم أبرع في اختراعها أنا.

نُبذِّر في الرفاهية والتسلية ساعات وأيامًا وسنين، ولا نسعى إلى التقاط صفحة ثقافة وقطعة صلاة، وحدها قادرة على أن تُحوِّل يأس حياتنا إلى رجاء.

آهٍ، كم أضحَينا للغباء عبيدًا وفي الجهل مرضى، وفي الرخاء مُقعَدين، وفي الكسل معوّقين.

أين الرجولة في اتّخاذ القرارات؟ من يأخذ القرار عنّا، من يُسَيِّرُنا؟ لماذا تغيَّر الزمن أو لماذا نُغيِّرُه.

 أين نحن من زمن جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين معلوف وغيرهم من أدباء.

 أين نحن من يوحنّا الذهبيّ الفم وباسيليوس الكبير ومكسيموس المعترف وغيرهم من قدّيسين؟

 لماذا تبدَّد الإرث الذي أُعطيناه بسخاءٍ رغم عدم استحقاقنا؟ من أين لنا الحقّ في ألّا نحافظ على ما أُعطيناه مجَّانًا، لنورثه لأبنائنا؟ كيف نحفظ الميراث أصلاً إن نسيناه ملقى على رفوف مهترئة، نمرُّ من جنبها مرور الكرام؟

صليبي، مكتبتي، لك أقول قومي. أو ربّما عليَّ أن أقول لضعفي، قم، أنقذ ما تبقَّى من ثروتك الفكريّة.

 لا! بل أقول لك.

 قومي من خلف الغبار، قومي وانتشليني من وطأة الموت إلى فجر القيامة. فخلايا عقلي وفكري وذهني وقلبي كلُّها قد جفَّت، وها هي الآن تتوق إلى أن تبلَّ طرف لسانها من إحدى صفحاتك.

 قومي من وطأة النسيان.

اقتحميني.

 اقتحمي ضعفي، شهواتي، ملذّاتي، اقتحمي تشتّتي وضياعي، اقتحمي رخائي وصراعي.

 قومي لتتربّعي في أوقات فراغي فإنَّها قد كثرت ونسيتُ طريقة استثمارها.

 قومي يا مكتبتي واصنعي بي كما تشائين، إفعلي فعلك وأدِّي تجاهي واجبك، فلم تكوني يومًا للزينة والافتخار، لم تكوني فقط لاحتواء الأغراض الثمينة وترتيبها.

 أتيت بك صديقةً ترافق دربي، تنيرني، تحييني، جعلتك في منزلي لتحوِّلي جلجلتي قيامة، أفلا أستحقّ بعد عناءك، أوَلا أستحقّ بعد أن أدعى لك صديقًا أيا مكتبتي، يا صليبي؟n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search