2019

5. دراسة كتابيّة - قراءة كتابيّة في وجه المسيح(٦) «مسيح الربّ» - نقولا أبو مراد – العدد السادس سنة 2019

قراءة كتابيّة في وجه المسيح

«مسيح الربّ»

 

نقولا أبو مراد

 

يُخفق الملوك الذين شاءهم الناس في إجراء الحقّ والعدل وإتمام البرّ. هذا ما كان قد حذّر الربّ

منه لمـّا قبِل أن يجعل على إسرائيل ملكًا (1صموئيل 8)، إذ طلب من صموئيل أن يعرض على مسامع الشعب «قضاء» ظلم الملك الذي طلبوه (1صموئيل 8: 10– 22). تسرد أسفار صموئيل والملوك قصص ملوك إسرائيل ويهوذا على نحو يبيّن أنّهم خالفوا وصيّة الربّ كآدم، وقتلوا كقايين، واستكبروا مثل لامِك، فكثر الشرّ في الأرض. وكما محا اللَّه عن وجه الأرض فاعلي الشرّ بالطوفان، هكذا أيضًا تنتهي مملكتا إسرائيل ويهوذا، بحسب الرواية الكتابيّة، بسقوط الملكيّة والمملكة. إنّها النتيجة الحتميّة لاختيار الشعب مملكةً وملكًا عليها كسائر الشعوب. نسوا أنّ تلك الشعوب اجتمعت لتبني بابل وبرجًا لها رأسه في السماء لتتمرّد على الربّ، وأنّ أباهم إبراهيم أخذه الربّ من غوغاء الأمم المستكبرة والحروب والعداوات إلى مطارح يكون الربّ فيها سيّدًا وحيدًا، ويعطيه من بركاته إلى منتهى الدهور، مقيمًا من عقمه وعجزه نسلاً تتبارك الأرض به، وذلك بأنّه لا يشبه من عرفته الأرض وستعرفه من شعوب مارقة، لا ترى إلاّ في الاحتراب تتويجًا لوجودها وتاريخها.

يستعيد سفر إشعياء المسارّ التاريخيّ الذي أراده الشعب، والذي أثبت فشله، لينطلق منه نحو ما ينبغي أن يكون. يختصر، في بداءته، المشهد الذي آلت إليه المملكة، «بلادكم خربة، مدنكم محرقة بالنار، أرضكم تأكلها غرباء قدّامكم، خربة كانقلاب الغرباء» (إشعياء 1: 7). أن تسير في فكر الشعوب يأخذك لا محالة إلى هذا الوضع. لم يعرف التاريخ أيّ استثناء، ولن يعرف. هذه حال مدن الناس حين تخلو، كما يقول إشعياء (إشعياء 1: 21) من الحقّ والعدل، ويسكنها القاتلون وأصحاب الأيادي الملآنة دمًا (إشعياء 1: 15). لا قوام لمدينة إلاّ بالعدل والحقّ والبرّ (إشعياء 1: 26– 27)، أي بالتوبة إلى اللَّه، إلى الدعوة الأولى، ذلك بأنّ العدل هو عدل اللَّه والحقّ كلمته، والبرّ إنّما هو أن يسير الناس في ما كان أوصاه لآدم، وحذّر منه قايين، أي السير في طريق الخير والحسن.

ولذلك يبدأ إشعياء سِفره، بعد أن أوجز في بعض آيات حال الناس في تعرّجات تاريخهم. يبدأ بالكلام على سيادة اللَّه على الأرض والأمم «في آخر الأيّام» (إشعياء 2: 2 وما يليها). لا تُفهَم هذه العبارة بكونها تشير إلى لحظة أخيرة في الزمن الذي يحتسبه الناس. بل معناها مزدوج: تفيد من جهة أنّ للأيّام نهاية، وأنّ سيادة اللَّه، من جهةٍ ثانية، باقية لا تنتهي عندما تأفل أزمنة البشر. يقول إشعياء إنّ ممالك الأمم ستنتهي، أمّا مملكة اللَّه فثابتة مرتفعة. إليها تسير الشعوب لكي تأتي إلى الربّ وتتعلّم طرقه. ليست مملكة الربّ كممالك الناس، ليست جيوشًا وحروبًا وقتلاً واستبدادًا وطغيانًا، بل هي كلمة الربّ وشريعته، التي هي وحدها قادرةٌ على أن تقيم العدل بين الأمم والإنصاف، فتنتهي الحرب، «فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمّة على أمّة سيفًا ولا يتعلّمون الحرب في ما بعد» (إشعياء 2: 3– 4).

ويعبّر إشعياء عن إمساك الربّ بزمام الأمور بعد فشل المملكة، في صورة الربّ جالسًا على العرش في الهيكل، بعد موت الملك (إشعياء 6: 1). موت الملك رمز لسقوط ما طلبه الشعب من صموئيل قبلاً، وتأكيد على أنّ اللَّه كان على حقّ، أي أنّ لا خلاص للناس إلاّ إذا قبلوا كلمته الداعية إلى الحياة، لا إلى الموت. يجلس الربّ على كرسيّه ويتكلّم، وكلمته هي التي تدين وتخلّص في آن. لا يسمعها إلاّ من كان أمينًا للربّ.

في هذه المرحلة يُدخِل إشعياء إلى كلامه وجهًا جديدًا (إشعياء 9: 6– 7). وهذا الوجه هو «ولدٌ يولد لنا وتكون الرئاسة على كتفه». يدعوه إشعياء «عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبّا أبديًّا أمير السلام». هذا يجلس على كرسيّ داود، «ويثبّت المملكة إلى الأبد، بالحقّ والبرّ». يلفت في كلام إشعياء هذا أنّه يستعمل مصطلحات ملكيّة للكلام على هذا الوجه، ولكنّه يعطي هذه المصطلحات معاني جديدة. فهذا الذي سيُعطى المـُلك «قدير/جبّار/محارب». ولئن كانت العبارة المستعملة في الأصل العبريّ (غِبُّور) تعني المحارب، إلاّ أنّ إشعياء يربطها بالسلام، لا بالحرب. وذلك بأنّ قوّته وقدرته هذه لن تتحقّق في الحرب، بل في إقامة السلام والحقّ والبرّ. وفي موضع آخر (إشعياء 11)، يعلّمنا إشعياء أنّ الحقّ والبرّ اللذين سيحقّقهما «مسيح الربّ» سيتجسّدان عدلاً للمساكين، وإنصافًا لبائسي الأرض (إشعياء 11: 4أ). أمّا سلاحه فهو فمه وكلمته وبرّه وأمانته (إشعياء 11: 4ب– 5). هذا يعيد الأرض إلى حالتها الأولى، إلى حسنها الذي كان لها حين خلقها الربّ وجعل كلّ شيء فيها وأسكنها. والسلام الذي كان عليها حين لم يكن من عداوة بين الإنسان والحيوان يعود. فلا يقتل الانسان حيوانًا، ولا يقتل الحيوان إنسانًا، ولا يفترس حيوانٌ حيوانًا (إشعياء 11: 6– 8). وكما في أوّل الخلق، حين كان كلّ شيءٍ حسنًا، يأكل الإنسان والحيوان ما تنبته الأرض. ما هذا إلاّ تعبير عن انتفاء الدماء. الدماء التي أراقها قايين على الأرض التي خلقها اللَّه تتوقّف عن أن تسيل. فتعود الأرض لتعطي الإنسان والحيوان خيرها.

يوضح إشعياء مغزى كلامه هذا حين يكتب «لا يسوؤون ولا يفسدون في كلّ جبل قدسي، لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ كما تغطّي المياه البحر» (إشعياء 11: 9). يعيدنا هذا القول إلى كلّ ما قرأناه قبلاً في سفر التكوين عن أنّ أصل الشرّ هو في كبرياء الإنسان، واستقلاله برأيه عن اللَّه، وشهوة السلطة التي توصله، في نهاية المطاف، إلى قتل الآخر. ولا خلاص من هذه الحالة إلاّ في معرفة الربّ، أي معرفة كلمته. وتتحقّق هذه المعرفة حين يرى الناس أنّ من يستأهل الجلوس على العرش، أي من يستأهل أن تكون له الرئاسة، إنّما هو المحبّ للمساكين والبائسين، والمقيم السلام، والصانع العدل، والسائر في البرّ. وحده هذا يكون راية مرفوعة أمام الشعوب، لتسير في إثره.

بعد هذا، تأتي في سفر إشعياء مقاطع طويلة هي نبوءات ضدّ الأمم (إشعياء 13– 27)، وكلام ويل على المستكبرين والمتمرّدين (إشعياء 28– 34)، تنتهي بعودةٍ إلى موضوع المسيح (إشعياء 35) كما تحدّث عنه في الإصحاح 11 المشار إليه أعلاه، يليه موجز لتاريخ إسرائيل الذي ينتهي بالخراب (إشعياء 36– 39). إنّ الغاية من هذه المقاطع الطويلة أن تعيد التذكير بالتعليم الكتابيّ حول معنى الوجود البشريّ، وبقراءة الكتاب لتاريخ الأمم، وتاريخ إسرائيل نموذجًا. ويُبرِز هذا المقطع العنف المتأتّي عن استكبار البشر واستقوائهم وتعظيمهم لأنفسهم. ويقيم تضادًّا بين السلام الأبديّ الذي يحقّقه مسيح الربّ والحقّ والعدل اللذين يجريهما، والرعب والظلم اللذين يظلمان حياة البشر.

وعلى أساس هذا التعليم والتضادّ المشار إليه، يحدث إشعياء ثورةً حقيقيّة في الفكر المتعلّق بالملكيّة ومدلولاتها، هي، في الحقيقة، ثورة الكتاب المقدّس ذاته. وصلب هذا التعليم الجديد على فكر الناس هو أنّ المسيح الذي سيجلس على الكرسيّ إلى الأبد، بالإضافة إلى برّه وعمله بالحقّ والعدل، هو ضعيفٌ ومسكين ومرذول من الناس. ويأتي هذا الكلام عليه في سياق الوعد بالخلاص الذي سيعطيه الربّ للمملكة الساقطة، لأورشليم التي يعزّيها برحمة الربّ، ويعزّي عبرها جميع المدائن وأمم الأرض (إشعياء 40– 55). في إشعياء 42: 1– 4، يسمّي الربّ من سيجلسه على الكرسيّ عبده ومختاره. بروحه الذي يضعه عليه، سيُعلّم الأمم جميعها الحقّ. والحقّ الذي سينقله إلى الأمم، لن يكون حقّه هو، بل حقّ اللَّه، والشريعة التي سيأتي بها إلى الأرض كلّها هي شريعة اللَّه. هذا الكلام في غاية الأهمّيّة، وذلك بأنّ هذا الشخص الذي أسميته مسيحًا، سيفعل بالتمام عكس ما فعله آدم. فإذا كان آدم قد أكل من شجرة معرفة الخير والشرّ لكي يكون له حقّه هو وقضاؤه هو وشريعته هو، فإنّ مسيح الربّ الجديد، يأبى أن يخالف الوصيّة، ولن يأكل من شجرة المعرفة، لأنّه يستمدّ من اللَّه وحده، قاضي الأرض، المعرفة الحقّ، وسيسمع منه شريعته، أي ما هو خيرٌ وما هو شرّ، وسيحمل هذه الشريعة إلى الأمم حتّى أقاصي الأرض.

أمّا الأمر الثاني في هذا المقطع الإشعيائيّ فهو حديث النبيّ عن مسالمة مسيح الربّ، «لا يصيح، ولا يرفع، ولا يُسمَع في الشارع صوته، قصبةً مرضوضةً لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ» (إشعياء 42: 2– 3). إنّ الصياح والصراخ، عدا عن كونِهما يعبّران عن الغضب، فهما أيضًا عنصران أساسيّان من عناصر الحرب، وذلك بأنّ الصراخ كانت لو وظيفة في المعركة وهي إخافة الخصم. أمّا فعل «يرفع» المستعمل بصيغة اللازم، فيشير في هذا السياق إلى رفع السيف والسلاح في وجه العدوّ، أو إلى رفع الذات استكبارًا. إذا صحّ تفسيرنا هذا، فإنّ المعنى المتضمّن في هذه الآية هو أنّ مسيح الربّ لا يُحارِب، ولا معرفة له بفنون القتال. وتؤكّد الآية التالية هذه القراءة، حيث يقول النبيّ إنّه لا يقصف حتّى قصبة يابسة، ولا يطفئ فتيلاً خامدًا. صورتان عن الضعف تفيدان بأنّ مسيح الربّ الجديد لن يقوى حتّى على الضعفاء من خصومه. ولكنْ، رغم مسالمته، سيفتح الأرض كلّها حتّى أقاصيها. لن ينكسر أمام أحدٍ، ولن يغلبه أحد. وذلك بأنّ سلاحه هو كلمته، وعضده هو الربّ. لن يغلب الأرض ليبسط سلطانه كما ملوك مصر وأشور وبابل وغيرها من قوى هذا العالم، بل ليبسط معرفة اللَّه بالسلام والعدل.

في إشعياء 49: 1– 7، يتكلّم مسيح الربّ، ويجيبه اللَّه. يتحدّث إلى «الأمم والجزائر» (آ1)، أي إلى القريبين والبعيدين. يقول لهم إنّ الربّ أوجده ليتكلّم بحقّه. فمه هو سلاح الربّ الذي به سيقضي على المتمرّدين. جبله الربّ لكي يعيد إليه إسرائيل. يتوقّف المسيح عن الكلام هنا، ليجيبه الربّ إنّه لن يكون فقط فمًا للَّه لمخاطبة إسرائيل، بل دعوة جميع الأمم التي على الأرض إلى التوبة. يسمّيه «نور الأمم» (آ6). لعلّه كالنور الذي قال له اللَّه في التكوين كن فكان وفضح الظلمة التي كانت تلفّ الكون؟ إنّ أفعال إسرائيل والأمم البعيدة عن مشيئة اللَّه هي الظلمة التي جعلت الأرض خربة خالية (إرميا 4: 23– 31)، وها المسيح الجديد يأتي ليكون هو النور الذي يزيلها. يسمّيه أيضًا «خلاصًا» لجميع الناس، أي حاملاً لهم نموذج الحياة الحقيقيّة. وفي هذه المرحلة يتحدّث إشعياء عن ألمه فيقول عنه، «إنّه مهان النفس، مكروه من الأمّة، عبد المتسلّطين» (آ 7). وسيكون هذا القول مقدّمة للنصّ الأطول اللاحق الذي سيتحدّث فيه عن آلام عبده المسيح المختار (إشعياء 52:13– 53: 12)، لتكتمل الصورة التي يريد إشعياء أن يعرضها على القارئ: إنّ آلام مسيح الربّ ومظلوميّته ورذل الناس له واعتداءهم عليه هي التعبير الأكمل عن منتهى ملكيّته، وتاليًا، عن مضمون كلامه.

في موضعين يقول إشعياء ما لا يُعقَل في تاريخ الناس. في 49: 7ب نقرأ، «ينظر ملوك فيقومون، رؤساء فيسجدون»، وفي 52: 15، «من أجله يسدّ ملوك أفواههم». الصورة التي يستعملها إشعياء هنا، هي صورة ملك عظيم قويّ يفتح الممالك بقوّته، وتخضع له الملوك، وتبايعه سيّدًا لها، وتقدّم له طاعتها. غير أنّ هذين القولين يأتيان هنا في سياق الكلام على مسيح الربّ متألّمًا ومرذولاً ومسحوقًا. ما يريد إشعياء أن يقوله هو أنّ هذا المسيح سيتغلّب على الملوك والأقوياء والرؤساء لا بقوّته وجبروته، بل بانسحاقه، بآلامه، وأخيرًا، بموته. وفي آخر المطاف «ما لم يسمعوا به يفهمونه» (إشعياء 52: 15ب). يفهم الناس وأقوياؤهم أنّ العظمة الحقيقيّة التي أرادها اللَّه للناس هي في الحق والعدل والسلام إلى المنتهى، هي في أن تكسر الشرّ بالانسحاق، والعنف بالسلام، والغضب باللين، والظلم بالرحمة.

بهذه، يقول إشعياء، يخلق اللَّه أرضًا جديدة وسماء جديدة (إشعياء 65: 71– 25). يعود إشعياء بهذا إلى تكوين 1، إلى أرض اللَّه وسمائه الجديدتين، إلى حيث الإنسان صورة اللَّه ومثاله، أيّ متغلّب على البهيميّة التي فيه، يتسلّط على كلّ شيء بالسلام والحقّ. عندئذٍ تعود الأمم إلى اللَّه. تعود إلى آدميّتها الحقّ وتنبذ العنف والقتل. أمّا القاتلون فسينتهون إلى الهلاك لأنّم شاؤوا أن يكون لهم وجود في تاريخ زائل. ويملك مسيح الربّ الصامت وغير المتكلّم بآلامه واتّضاعه إلى الأبد. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search