2019

2. مسيحانيّات - المسيح والأمثال - الأب ميخائيل (الدبس) – العدد السادس سنة 2019

المسيح والأمثال

الأب ميخائيل الدبس

 

 παραβολαί المقصود بعبارة الأمثال

الروايات المعروفة التي ألقاها المسيح، والتي تعرض لنا، عبر صورة ما أو مثل أو قصّة مقتضبة أو مسهبة، تعليم يسوع حول سرّ ملكوت اللَّه المكشوف في شخصه وأفعاله. لم يقدّم يسوع عبرها لسامعيه فلسفة خاصّة به أو قضيّة ذات طابع عامّ ولم يعط بواسطتها مجرّد دروس مناقبيّة.

أعطى أوريجانيس تعريفًا موفّقًا للأمثال. قال: «المثل هو كلام حول أمر وكأنّه حاصل. هو، من جهة، غير حاصل كما ورد في كلمات المثل، ومن جهة أخرى ممكن ٌحصوله. لكنّه رمزيًّا يشير إلى أمور ندركها عبر ما قيل في المثل» (PG 13,20).

إنّ ما سلّمتنا الأناجيل الإزائيّة (متّى- مرقس- لوقا) من أمثال مرتبط على نحو مباشر بشخص قائلها وبتعاليمه، فهو يكشف بها بعض مزايا اللَّه وملكوته المستور. لذا تُعتبر هذه الأمثال قطاعًا مهمًّا يمكننا عبره التعرّف إلى قلب بشارته ومزايا شخصه وتاليًا إلى ملكوت للَّه.

غاية هذه المقالة أن نتلمّس:

1- ضرورة الكشف في قراءتنا للأمثال عن الحقائق التي أراد المسيح كشفها لسامعيه في زمانه ومكانه، من طريق وضع إطار عامّ لهذه القراءة، ونهج تفسيريّ لن ندّعي جِدّته أو حصريّته بل نعيد التذكير به.

2- ضرورة السعي إلى تأوين هذه الحقائق وملاءمتها مع زمننا الحاضر. بهذا نجعل من الحقيقة، خواصّ المثل، بشرى لإنسان عصرنا ومكاننا.

3- صورةً لشخص قائلها وبعض مزاياه فهو المبتغى الأوّل والأخير. كلّ قراءة للأمثال تنحصرفي بعدها المسلكيّ والمناقبيّ تبقى قراءة مبتورة، إن لم أقل مشوّهة، إذا لم تقدنا إلى شخص المسيح وحقائق ملكوته.

الفرق بين المثل والرمز.

في الرواية الرمزيّة Alligorique، كلّ تفصيل يخفي معنى ما يشير إلى الأمر المبتغى من وراء هذا التفصيل. أمّا الرواية المَثَليّة parabolique فتضمّن فكرة رئيسة تسود مجمل الرواية. أمّا تفاصيلها فتهدف إلى إكمال مجمل الفكرة التي يبغي المثل إبرازها. أي أنّ الأهمّ في الرمز هو التفاصيل والصور والرموز والمعاني المقابلة لكلّ رمز بغضّ النظر عن مقدار خدمة المعاني والصور التفصيليّة لفكرة ما رئيسة. أمّا في المثل فالغاية هي الفكرة الرئيسة والتفاصيل هي في خدمة هذه الأخيرة، إضافة إلى أنّ الصورة والمعنى المستور فيها لا يُكشفان، أحيانًا، بالكامل.

تبيان الفرق بين الرواية المَثَليّة والرواية الرمزيّة ضروريّ حتّى لا نقع في سوء تفسير للأولى واستنتاجات تفسيريّة لها لا يحتملها نصّ المثل، تقودنا إلى الابتعاد عن المضمون الحقيقيّ الذي أراد المسيح إيصاله إلى سامعيه عبر هذا المثل أو ذاك. كما يساعد على تحديد النهج التفسيريّ الأكثر ملاءمة لمضامين كلّ منهما. فتطبيق نهج تفسيريّ رمزيّ على رواية رمزيّة هو الطريق الأسلم لبلوغ حقائق هذه الرواية. أمّا تطبيقه على رواية مَثَليّة ربّما يبعدك عن الحقيقة المبتغاة منها.

لسنا هنا بموقع إدانة نهج أو تبرير آخر بالمطلق. انتُهِجَت في الأدب الكنسيّ التفسيريّ، على مرّ القرون، مناهج تفسيريّة عدّة للكتاب المقدّس بعامّة وللأمثال بخاصّة. لم يرفض الضمير الكنسيّ أو يتبنّى، رسميًّا وحصريًّا أيًّا منها طالما أنّ النهج المتّبع لا يمسّ حقائق الإيمان، ولا يقود إلى سلوك مناقبيّ مناقض للسلوك المسيحيّ المؤسَّس على شخص يسوع المسيح المصلوب والناهض من بين الأموات، وطالما أنّه يخدم هدفًا رعائيًّا تقديسيًّا ارتأى المفسّر أن يبلغه في تفسيره أيّ مثل. ما أراه غير محبّذ أن يكون التفسير على حساب الحقيقة المركزيّة التي يتضمّنها المثل أو أن يغيّب التفسير هذه الحقيقة. هنالك، والحالة هذه، خسارة لحقيقة ملكوتيّة ولأبعادها الخلاصيّة في حياة المؤمنين.

الأمثال قبل يسوع المسيح.

لا بدّ من الإشارة، بدءّا، إلى أنّ الأمثال لم تكن أدبًا من ابتكار يسوع أو محصورًا بنهج تعليمه وبشارته، بل كانت معروفة في الأدب الهلّينيّ الكلاسيكيّ عند أفلاطون وبلوتارخيس وأرسطو. مع التأكيد على عدم وجود أيّ تشابه أو تقارب بين أمثال هذا الأدب والأمثال عند يسوع. لكنّ التشابه والتقارب يبدوان أكثر وضوحًا بين أمثال يسوع والأمثال meshalim الواردة في العهد القديم (الكتب التاريخيّة القديمة– الأنبياء– الكتب الشعريّة– الأدب الرؤيويّ). كما نصادف تشابهًا أوضح وأكبر بين أمثال يسوع وتلك الواردة في الأدب الربّانيّ rabbinique يكمن سبب هذا التشابه الأخير في أنّ كليهما يستخدم الصور والتشابيه عينها المستقاة من الحياة المعيشيّة اليوميّة لسكّان فلسطين، ومن البيئة الجغرافيّة والمهنيّة السائدة في تلك الحقبة الزمنيّة عينها. مع التأكيد على أنّ التشابه الكبير يبقى تشابهًا صوريًّا خارجيًّا ولغويًّا ولا يطال الجوهر والمضمون المختلفين كلّيًّا في ما بينهما.

لماذا تكلّم يسوع بالأمثال؟

من غير المستغرب أن يستخدم المسيح هذه الوسيلة التعليميّة السائدة في زمنه على أن يعطيها مضمونًا جديدًا. ومن الطبيعيّ أن يعتبر الأمثال المفعمة بصور من حياة سامعيه الوسيلة الأكثر فاعليّة والأكثر تأثيرًا ووضوحًا في إبلاغ كرازته لعامّة الناس. ولكنّ المستغرب ألّا يتمكّن سامعوه من فهم هذه الأمثال بسهولة والتعليمِ المبتغى منها وأن نرى «الاثني عشر ومن حولهم»، تحديدًا بعد سماعهم أوّل مثل الزارع (مرقس 4، 3- 9. متّى 13، 3- 9. لوقا 8، 5- 8)، غير فاهمين (مرقس ٤: ١٠) وسائلين عن معناه. ويجيب يسوع، بحسب مرقس، «أمّا انتم فقد أُعطي لكم سرّ ملكوت اللَّه. أمّا أولئك فكلّ شيء يُلقى إليهم بالأمثال» (مرقس ٤: ٩). يبدو من هذا القول أنّ المثل يُلقى عليهم ليحجب عنهم سرّ ملكوت اللَّه لا ليوضحه، وهذا ما نتلمّسه بوضوح في قول الربّ لتلاميذه: «قلت لكم هذه الأمور بالأمثال وتأتي ساعة لا أحدّثكم فيها بالأمثال» (يوحنّا 16: 25). وفي قول التلاميذ له: «إنّك الآن تتكلّم كلامًا واضحًا ولا تضرب مثلًا» (يوحنّا 16: 29). وعن سبب حجبه سرّ الملكوت عن «أولئك» يستعين يسوع بأشعياء النبيّ (أشعياء ٦: ٩-١٠). ويقول: «لكي ينظروا ناظرين ولا يبصرون ويسمعوا سامعين ولا يفهمون، وربّما μήποτε يرجعون (يتوبون) فيُغفر لهم» (مرقس ٤: ١٢).

هناك إشكاليّة في النصّ الكتابيّ الذي استشهد به يسوع. فما ورد في مرقس 4: 12 لا يتطابق مع قول أشعياء الوارد في أشعياء 6: 9- 10، لا في نصّه العبريّ ولا في مثيـله الهـلّينيّ (السـبعـينيّ). نقرأ في الأخير: «فقال انطلق وقل لهؤلاء الشعب، اسمعوا سماعًا ولا تفهموا وانظروا ناظرين ولا تعرفوا. غلُظ قلب هذا الشعب وثقُلت أذناه وأغمض عينيه، وربّما μήποτε ينظرون بعيونهم ويسمعون بآذانهم ويفهمون بقلوبهم ويرجعون فأشفيهم». يسوع لم يستشهد حرفيًّا بنصّ العهد القديم العبريّ بل بنصّ تفسيريّ آراميّ يسمّى targum (٢).

من جهة أخرى، عبارة μήποτε الواردة في أشعياء 6 10 ومرقس ٤: ١٢ والتي نُقلت في بعض الترجمات بكلمة «لئلّا»، تحمل معنى ربّما أو إلّا إذا ، وهي، تاليًا، لا تحمل معنى التهديد والحكم المسبق على أولئك بعدم الإصغاء وعدم البصر، بل معنى التمنّي بعودة هؤلاء اللامبالين إلى الإصغاء لبشرى المسيح. حينها سينالون الغفران والشفاء. هذا ما اتّفق عليه الكثيرون من المفسّرين القدماء والمعاصرين، ومنهم ثيوفيلاكتوس والذهبيّ الفم. ويقول الأخير: «في قوله هذا كان يجذبهم ويثيرهم فيشير إلى أنّهم إذا رجعوا فسيشفيهم لا لمجده هو بل لخلاصهم هم، ولو كان لا يبغي أن يُسمعهم أو يخلّصهم لصمت وما كلّمهم بالأمثال. لكنّه الآن وبهذا النهج يثيرهم بقوله الأمور لهم مظلّلة» (PG 58-473).

نستخلص ممّا قيل أنّ للأمثال دورين متباينين ومتكاملين في آن معًا. الأوّل كشفيّ باتجاه التلاميذ، يحتاج إلى تفسير من طرف يسوع (مثل الزارع) والثاني سرّيّ باتّجاه من هم خارج حلقة التلاميذ. ما معناه أنّ يسوع اتّخذ موقفًا تربويًّا متحفّظًا تجاه سامعيه. ففي حين كان يكشف بالتدرّج، عبر الأمثال، أسرار الملكوت، كان في حين آخر يسترها عبرها حتّى يتجنّب سوء تفسيرها من طرف الجمهور، الذي كانت لديه أفكار مشوّهة عن مسيّا وملكوته، ومن طرف الرومان الذين كانوا يفهمون كلمة ملكوت βασιλεία بشكل مغاير للمفهوم المسّيانيّ الأصيل الذي بشّر به المسيح. شبّه تريمبيلاس في تفسيره هذين الوجهين أو الدورين للأمثال بعمود الغمامة المرافقة للشعب العبريّ، والتي كانت من جهة المصريّين ظلامًا، ومن جهة العبرانيّين نورًا. ويقول الذهبيّ الفم بهذا الشأن: «لأنّ المثل يقسم سامعيه إلى مستحقّ وغير مستحقّ. المستحقّ يسعى إلى البحث عن معناه، أمّا غير المستحقّ فيتغاضى عنه... لكنّ يسوع، متكلّمًا بالأمثال، يثيره للبحث عنه حين يقدّمه له محجوبًا. يحفّز رغبتهم ويثيرها بالإصغاء رغم غفلتهم وكسلهم، فهم والحالة هذه، لم يبلغوا المعنى المقصود. أمّا التلاميذ فكانت لديهم الرغبة والنشاط لبلوغه، لذا كان يوضح لهم الأمثال على انفراد». (PG 55, 225 -226)

الأمثال وشخص المسيح.

تكشف لنا الأمثال مزايا مهمّة وفريدة في شخص المسيح: 1- هو معلّم بارع، لا تكمن براعته في طريقة إيصال المعلومة فحسب، عبر المثل إلى سامعه بل في جعل سامعه شريكًا له في الكشف عن المعلومة. يسوع لا يُملي المعلومة ولا على السامع إلّا التلقّي، بل يقدّم المعلومة عبر إشكاليّة، عبر أزمة. والسامع مطالب بأن يكتشفها بعد جهد ومعاناة، بعد تعثّرات وربّما سوء فهم وهو إلى جانبه مرافقًا له، ولذا تتخطّى المعلومة الفكرة المجرّدة لتغدوَ جزءًا من السامع، مجبولة بسعيه وإرادته وليس طبقًا سهل المنال. فما يُنال بالجهد يلتحم بصاحب الجهد ليصبح جزءًا منه، وما يُنال بالهوان يعبر عن صاحب الهوان كالطيف من دون أن يلامس شيئًا فيه. هذا ما رست عليه أسس التربية والتعليم اليوم. من أراد أن يكون مربّيًا عليه أن يقرأ الأمثال ويخوض مغامرة الكشف عن الفكرة– الحياة التي كان يسوع يبغي منحها لنا.

2- لم يهتمّ يسوع بالمعلومة، بالفكرة، بل بالإنسان مجمل الإنسان. من طريق المثل يعبر من الحسّ إلى الكيان. لم يكن موسوعة معلومات بل معطي الحياة. براعته تكمن في اختيارٍ للمحسوس ملائمٍ يلج عبره إلى الإنسان فلا يفرّط في المحسوسات ولا يُحَدّ فيها وفي الوقت عينه لا يهملها، لكونها تشكّل جزءًا مهمًّا من الإنسان لا يُغفَل عنه. أدرك يسوع أنّ درب بلوغه إلى الكيان الإنسانيّ هي عبر همومه ومشاغله الحياتيّة لذا انطلق منها عبر المثل الحسّيّ الذي يطال حياته الماديّة والمعيشيّة ليبلغ عمق كيانه ويبذر فيه الحياة الملكوتيّة.

3- «ها أنذا واقف على الباب أقرعه فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، دخلت إليه لأتعشّى على قرب منه وهو على قرب منّي» (رؤيا 3: 20). الأمثال هي يسوع الواقف على باب عقل كلّ إنسان ومداركه، كلّ إنسان بعيد عن حقيقة الملكوت ورافضِها. هو لا يغتصب عقلك وقناعاتك وترجماتها المسلكيّة. هو يحبّك كما أنت ويتألّم لصدّك وعتاقتك. هو سالك بموازاتك، يرمي عليك، بخفر وحبّ، بذور حقيقته عساك في معارجك وتقلّباتك تفتح له بابًا، ثغرة ضيّقة ليُسقط فيها، على تربة كيانك بذرة حقيقته فتنمو وتثمر مئة ضعف.

الأمثال والتجسّد الإلهيّ.

الأمثال هي المجال الأرحب لإدراك المعنى الحقيقيّ لعقيدة التجسّد وأبعادها الخلاصيّة في مجمل ثنايا حياتنا اليوميّة. عبرها يؤكّد المسيح لنا أنّ حقيقة الملكوت لا يبشَّر بها عبر ترداد ما قيل في القدم، بل عبر صور وكلمات يدركها، أوّلًا، العقل والحسّ عند إنسان يخاطَب بلغة زمانه ومكانه. اللغة متحرّكة ومتبدّلة فإن جمّدتها في حقبة ما حوّلتها إلى أداة تحنيط لا إلى أداة حياة وعربةٍ لها. لك أن تدرك، عبر كلمات الأمثال، حقيقة الملكوت. هذا ما فعله آباؤنا المفسّرون في عصرهم. وفي هذا تعب وبحث وصلاة. ثَمّ عليك أن تنقل هذه الحقيقة إلى إنسان يومك بلغته وبيئته ومعاناته. إن ردّدت تفاسير من سبقوك في الزمن واعتبرتها وحدها الصحيحة، فأنت تخاطب بذلك إنسان عصرهم لا إنسان عصرك وأنت مطروح في الكسل والخوف. مفسّر الأمثال ومعلّمها هو من له القـدرة، بعـد معـاشـرتـه لـهـا، أن يبتـكر بمـوازاة كـلّ مثل مثلًا جديدًا محبوكًا بصور عصره وهمومه ومشاكله ليُبلّغ الحقيقة الملكوتيّة عينها لمريديه. هذا هو التجسّد الإلهيّ ويسوع وأمثاله هم صورته ونهجه وحقيقته. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search