العائلة: رأي مسيحيّ
غسان الحاج عبيد
العائلة، في الاصطلاح الدهريّ، خليّة اجتماعيّة قوامها والدان وأولادٌ يتعهّدهم الوالدان تربيةً
وتنشئة، أو، في حال غياب الأولاد، أي في حال عدم الإنجاب، هي زوج وزوجة يتعهّد أحدهما الآخر ويتقاسمان معًا تكاليف الحياة. ولو أردنا أن نتصوّر ما يمكن أن تكون عليه هيئة هذه العائلة لَبدَت لنا أشبه بحلقة مستديرة يتماسك أفرادها بحيث يلتفت بعضهم إلى بعض بحركة تعاضديّة أَقرَب ما تكون إلى التعاقُد، لكون العلاقة المتبادلة بين أفراد هذه العائلة مُحدَّدةً بما يشبه العقد الاجتماعيّ ومحكومةً، تاليًا، بمعادلة الحقوق والواجبات؛ ما يعني أنّ إخلال أيّ فرد من أفراد هذه العائلة بواجبه تُجاه الآخر يُعدّ إخلالًا بالعقد الاجتماعيّ المُبرَم بينهم، ما قد ينجم عنه اهتزاز في كيان العائلة يؤدّي- إذا طال- إلى انفراط عقدها. تاليًا، ليس لهذه العائلة أيُّ بُعد تتجاوز فيه ذاتها ولا أيُّ أفق. إنّها كيانٌ مجتمعيٌّ متمحورحول ذاته.
بالمقابل، ليس في الكتاب المقدّس، قديمه وجديده، تنظيرٌ في العائلة، فهذا بحثٌ سوسيولوجيّ ليس هنا مقامه. غير أنّ الكتاب يحوي توصيفًا لشعب اللَّه- كما في العهد القديم- السالك دُروبَ ربّه التماسًا للانعتاق والحرّيّة (عبور الشعب العبرانيّ البحر الأحمر بقيادة موسى)، والذي تكوّنه طاعته المطلقة لمشيئة ربّه وسعيه الدؤوب إلى إتمام قصده، وذلك في معيّة للّه دائمة يحقّق بها كينونته: «بل إنّما أوصَيتُهم بهذا الأمر قائلًا: «اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون لي شعبًا، وسيروا في كلّ الطريق الذي أَوصيتُكم به ليُحسَنَ إليكم» (إرميا 7: 23)، أو–كما في العهد الجديد– توصيفًا للجماعة المؤمنة التي يكوّنها تطلُّعها الدائم والثابت إلى الحمل الإلهيّ الرافع خطايا العالم وتَحلُّقها حوله في سرّ الشكر- سرّ الجماعة– وربطُها مسيرَتها بمشيئته، ولنا في نمط عيش الجماعة المسيحيّة الأولى خيرُ مثال، إذ «كانوا يواظبون على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات...» (أعمال 42:2).
لكن، ولَئِن كان الكتاب المقدّس لا يحوي تنظيرًا في العائلة، إلّا أنّه يطالعنا بنماذج (بيوت أو ثنائيّات زوجيّة) تساعدنا قراءتها على تكوين تصوّر لما ينبغي للعائلة المسيحيّة أن تكون عليه. فإبراهيم وسارة، وإسحق ورفقة، وزكريّا وأليصابات و... (من العهد القديم)، مُضافًا إليهم، من العهد الجديد، نمفاس والكنيسة التي في بيته، وأقيلا وبرِسقة والكنيسة التي في دارهما، ولعازر وأُختاه مريم ومرتا، هؤلاء كلّهم ، وكثيرون غيرهم، أمثلة حيّة نستطيع أن ننسج على منوالها تصوّرًا للعائلة المسيحية أي للعائلة-الكنيسة. ففي الاصطلاح الدهريّ المحض رأينا العائلة كيانًا متمحورًا حول ذاته، أمّا في الرؤية الكنسيّة فيختلف الوضع وتختلِف معه الصورة. في الكنيسة أفراد العائلة يشكّلون سلسلةً متماسكةً حلقاتُها تمامًا كما هم في الدنيا لكن، بدلًا من أن تراهم ناظرين بعضُهم إلى بعض، تراهم شاخصين معًا إلى اللّه، وكأنّ كلّ فرد منهم يقول: «إنّ معونتي لا تأتيني، حصرًا، من الآخر الذي هو بجانبي ويَعضُدني، لكنّها تأتيني، أوّلًا وآخرًا، من عند الربّ الذي صنع السماء والأرض» (مزمور 2:121).
العائلة المسيحيّة هي عائلة اللَّه، وتتكوّن بإخلاص أفرادها بعضهم لبعض وإخلاصهم جميعًا للَّه. هذا صحيح. على أنّ ما يجب التنبُّه إليه هو أنّه ولِئَن كان أفراد هذه العائلة يتبادلون الإخلاص إلّا أنّهم لا يتبادلون الولاء، لأنّ ولاءَهم لواحد أحد هو الربّ يسوع المسيح. على هذا النحو، تغدو العائلة «كنيسة صغيرة» حسب توصيف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم إيّاها في تعليقه على رسالة بولس إلى أهل أفسس، ويكون «أنّ إعلان المجد الذي قام به السيّد في عُرس قانا الجليل يرفعها (أي العائلة) إلى رتبة الكنيسة، بمعنى أنّه يجعلها خليّة من خلايا الكنيسة فيها يتمّ مجد المسيح»(١). وكان سبق للقدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ أن قدّم هذا الدليل إذ قال: «حيث يوجد المسيح هناك تكون الكنيسة»(٢)، ما يعني، برأيه، أنّ حضور المسيح، حقيقةً، في العائلة يجعل منها كنيسة. ثمّ إنّ الكنيسة تعتبر الاتّحاد الذي يربط الرجل بامرأته في الحبّ «سرًّا عظيمًا هو سرّ المسيح والكنيسة»، (أفسس ٥: ٣٢)، وتهمّها العائلة التي تنشأ من هذا الحبّ باعتبارها الضمانة الوحيدة لإنجاب الأولاد وتربيتهم بمقتَضى التدبير الإلهيّ.
ولكي أختم أسجّل، استطرادًا، ولكن دائمًا في الجوّ العامّ عينه، النقاط التالية:
1- لعلّ من الخطوات الجيّدة التي قامت بها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أنّها وَعَت، ولسنوات خَلَت، أهمّيّة العائلة في أوساطنا الكنسيّة وأهمّيّة دورها، فاستحدثت، في هيكليّاتها الأسريّة، أسرة العائلات. عملت هذه الأسرة طويلًا، وما زالت تعمل، على تثبيت أساسات بيوتنا على صخرة العبادة، عبادة الربّ ومحبّته في البيت وفي الجماعة، وذلك بربطها عائلاتنا الصغرى بالعائلة الكبرى التي هي الكنيسة، مع ما يتّصل بالكنيسة من قضايا وشؤون.
2- لستُ على بيّنة ممّا يُعطى للمقبلين على الزواج في مكاتب الإرشاد الزوجيّ التابعة للأبرشيّات. لكنّي آمل ألّا يكون موضوع العائلة المسيحيّة وحُسن تكوينها غائبًا عمّا يُعطى من إرشادات، نظرًا إلى مركزيّة هذه العائلة في كنيسة المسيح.
3- ينعقد المجمع الأنطاكيّ المقدّس في دورته العاديّة المقبلة وعلى جدول أعماله، كما هو مُتوَقَّع وكما نُمِيَ إلينا، موضوع العائلة. فنرجو ألّا يغيب عن الآباء أعضاء المجمع أنّ أوّل ما ينبغي الاشتغال عليه في هذا الصدد هو كيفيّةُ حماية عائلاتنا من كلّ ما يشرذمها، وتبريكُها، وحفظُها في حظيرة المسيح، تحديدًا في كنيستها الأرثوذكسيّة. علمًا أنّ هذا المسعى المبارك لا يتمّ إلّا باثنين: الافتقاد والرعاية.
أخيرًا، لسنوات خَلَت كانت الإذاعة اللبنانيّة الرسميّة تطلع علينا، كلّ صباح، ببرنامج عائليّ قصير، لم يَخلُ من المتعة، شعاره «أعطني بيتًا سعيدًا وخذ وطنًا سعيدًا». أقتبس من هذا الشعار فكرته لأقول، في هذا المقام: «أَعطني عائلة مسيحيّة وخُذ كنيسة حيّة». n