العائلة الأرثوذكسيّة
تعريب الأب سيرافيم داوود
تكرم الكنيسة الأرثوذكسيّة العائلة، وغالبًا ما تتميّز الكنيسة بصور يستمدّها الآباء من العائلة. في العائلة كما في الكنيسة، تتشكّل القيم الأساسيّة وتتكوّن الروح وتتأسّس، كما يُحدّد طريق الخلاص. العائلة هي ذاك المكان الدافئ حيث تنمو خميرة الإيمان وفيه نبدأ أوّلًا بالارتقاء إلى حياة كاملة في المسيح. ولهذا السبب، يذكر كلّ أسقف وكلّ كاهن وكلّ راهب وكلّ العلمانيّين الورعين، أمّهاتهم وآباءهم في صلواتهم اليوميّة كي تطول أيّامهم على الأرض. ولهذا السبب أيضًا، وحتّى بعد الرقاد نذكر آباءنا وأمّهاتنا وأفراد عائلتنا، نصلّي من أجلهم بحرارة، وفي صلاتنا نصل عبر هوّة الموت لنكون معهم حتّى في الحياة الأخرى، في العالم الروحيّ. وللعائلة ميزة خاصّة جدًّا، إذ نذكر فيها أيضًا الذين ينغمسون في الخطيئة والهرطقة والبدع، أكثر من أولئك المستقيمين الذين لا يتزعزعون في الإيمان. هذا هو عجب العائلة.
مع ذلك تُفهم العائلة الأرثوذكسيّة عبر سياقها الروحيّ. إنّها وحدة روحيّة. العائلة الأنانيّة والاجتماعيّة التي تعلّي حقوق ربط الدم وتتمسّك بامتيازاتها ليست عائلة حقيقيّة بالنسبة إلينا نحن الأرثوذكس. كذلك الوحدة الاقتصاديّة التي تستخدم العلاقات العائليّة للحصول على الممتلكات الدنيويّة أو الثروة، والوحدة الاجتماعيّة التي انقلبت على نفسها جاعلةً العائلة مسؤولة عن نفسها فقط، وتلك التي تعتبر نفسها «إلهًا» والوحيدة الأكثر أهمّيّة في الحياة التي تستحقّ القتال في سبيلها، هذه ليست عائلات بالنسبة إلى المؤمنين الأرثوذكس. ومهما كانت العائلة مكرّمة ومقدّسة، فإنّ ولاءنا الأوّل كمسيحيّين حقيقيّين هو للَّه. أي شيء يأتي قبل المسيح لإعادة صوغ الكتاب المقدّس لا يستحقّ المسيح. أيّ شخص يضع أولويّات العائلة قبل الكنيسة والوصايا هو مجرّد عضو في طائفة يخون الكنيسة والعائلة الأصليّة. العائلة الحقيقيّة ليست دنيويّة، إنّما العائلة الحقيقيّة هي أيقونة الكنيسة ورباط الأخوّة بين البشريّة جمعاء. لا تحصر العائلة الحقيقيّة حبّها في من هم داخل نطاقها، ولكنّها تمتدّ إلى جيرانها (وحتّى إلى أعدائها) بالحبّ الذي ينمو ويُصقل داخل العائلة.
في أميركا المعاصرة أصبحت العائلة الاجتماعيّة، التي تنشأ من دون أهداف روحيّة، قبيحة. على سبيل المثال، في عيد الميلاد وفي أيّام العطلة، نجتمع في منازلنا ونتجاهل الفقراء ونكره إقحام الأصدقاء والمعارف في احتفالاتنا المليئة بالطعام والشراب، ونشيد بالمسيح أو بموضوع العطلة في الاحتفالات المتمركزة حول أنشطة العائلة فقط، هذا إذا تذكّرنا المسيح. تخلّينا إلى حدٍّ كبير عن عادة زيارة العجزة والمحتاجين في أيّام العطلة. وبدلًا من ذلك تحوّلنا إلى أنانيّة اجتماعيّة تمتدّ من هذه الأعياد إلى العام بأكمله وهي تسمّم المجتمع وتقتله، وهذا ما يجعل الناس باردين، غرباء وغير حسّاسين إزاء مشاكل الآخرين، حتّى العائلة نفسها تعاني هذه المأساة. يحتضن أفراد العائلة بعضهم البعض ويتواصلون عبر تبادل كلمات فارغة وغير مألوفة، وغالبًا ما تخفي حاجتهم إلى الحبّ الحقيقيّ والمودّة المعروفة فقط في حضن العائلة الروحيّة، تلك العائلة التي تمتدّ إلى ما وراء نفسها. وهكذا العائلة الأميركيّة النموذجيّة تصدمنا نحن كمسيحيّين، ومع ذلك تهيمن على المجتمع من حولنا، إنّها عائلة تعاني من جرّاء تعاطي المخدرات والكحول والثروة المدمّرة والمكاسب المادّيّة والطلاق وحتّى الانتحار.
ابتعدت العائلة الأميركيّة حتّى الآن عن الصورة الروحيّة، التي تقول إنّه إذا أراد شابّ وفتاة اليوم أن يدخلا الحياة الرهبانيّة، ويكرّسا نفسهما للصلاة وللعائلة وللآخرين، فهذه الخطوة مدعاة للعار والإحراج. وقد تنفجر الوحدة العائليّة حقدًا، وتشجب الانفصال الشخصيّ الذي قد تنطوي عليه هذه الحياة. الحبّ العميق، هذا الحبّ الذي ينجو من الانفصال (وحتّى الموت) يختفي من عائلاتنا. نحن سعداء بسبب أولئك الذين ينجحون في فراغ الحياة المادّيّة ويعملون على تجريد أولئك الذين يسعون إلى الحياة الروحيّة من امتيازات العائلة. كم ابتعدنا عن العائلة المسيحيّة التقليديّة، التي عرفناها في الماضي بخاصّة في المجتمعات الأرثوذكسيّة المبنيّة على القيم الروحيّة، التي كانت فيها الدعوة الرهبانيّة أو الكهنوتيّة سببًا للابتهاج والفرح. تمثّل الدعوة الرهبانية أو الكهنوتية تحقيقًا تامًّا لأهداف العائلة وإدراكًا للحياة المسيحيّة وتوحيدًا للمثل المسيحيّة. إذا فكّرنا في التناقض بين العائلة الحقيقيّة وعائلة الوحدة الاجتماعيّة التي يتمّ إنشاؤها في المجتمع المادّيّ الحديث، يمكننا عندها التعرّف بدقّة إلى ماهيّة العائلة الأرثوذكسيّة الحقيقيّة.
مثلما يُدرّب الجيش الجنود على محاربة العدوّ من أجل الوطن، فإنّ العائلة الحقيقيّة، العائلة الأرثوذكسيّة تمنح أطفالها الدروع الروحيّة التي تمكّنهم عبرها من التغلّب على الإغراء، ومحاربة الخطيئة وأن يعيشوا حياة نموذجيّة وأخلاقيّة، ويتّحدوا مع اللَّه هنا على الأرض، ويحقّقوا الطاقة الإلهيّة داخل الإنسان، وينتقلوا إلى الحياة العتيدة مزوّدين بقوّة روحيّة تمكّنهم من الصلاة من أجل أفراد العائلة. تقوم العائلة الأرثوذكسيّة الحقيقيّة بتعليم أعضائها الحبّ، هذا الحبّ البديهيّ والعفويّ الطبيعيّ في علاقات الدم، وتشجّعهم على الخروج إلى العالم لتبادل هذا الحبّ مع الآخرين، وإتقانه إلى أقصى درجة ممكنة. العائلة الحقيقيّة تتحرّك خارج جدرانها. إذا كان على أفراد العائلة أن يكتسبوا ثروة أو شُهرة فهذه أمور ثانويّة. لا يتمّ قياس هذه الإنجازات إلّا عبر المساهمة الأساسيّة التي تُقدّم للكنيسة والمجتمع بشكل عامّ، وعبر تحقيق المُثُل المسيحيّة. وإذا كان ينبغي لأحد أفراد العائلة أن يعتنق الرهبنة فإنّ هذا الفرد هو الذي يحظى بالثناء الأكبر: لمن يستطيع، من دون تقوية الربط العائليّة ومن دون الشعور بالعاطفة الزوجيّة، أن يُظهر الحبّ ويمنحه من دون أنانيّة، لمن يستطيع أن يعيش في فقر ينتج ثراءً في روحه وقلبه؛ لمن يستطيع مواجهة سخرية العالم واحتقاره ويحافظ على الكرامة الداخليّة؛ لمن يستطيع رغم انفصاله عن عائلته، إظهار المزيد من الحبّ الحقيقيّ، في صلاته ومثاله، أكثر من غيره.
رغم أنّ جزءًا فقط من عائلتي ينتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة، فإنّ تجربتي الخاصّة في دخول الحياة الرهبانيّة لم تكن صعبة كما تخيّلت، لكنّي رأيت حالات فظيعة من سوء المعاملة التي تضرّر بسببها الرهبان بشدّة، بسبب مواقف عائلاتهم بخاصّة في حالة المهتدين الذين يدخلون الرهبنة من العائلات غير الأرثوذكسيّة. بعض العائلات التي تفتقر إلى مفهوم العائلة الروحيّ تعتبر من يدخل الحياة الرهبانيّة منبوذًا خان العائلة ودمّر وحدتها. ويُعزى كلّ دافع كريه ومُبتذل إلى الرهبنة. وتتولّد الكراهية والاستياء بين أفراد عائلة إزاء الراهب الجديد. يجب أن نفكّر في هذه الحالات برصانة، لكونها تعكس موقفًا يغزو حتّى الآن العائلة الأرثوذكسيّة في الغرب، وفي بعض الأحيان في الشرق. أين هؤلاء الأمّهات والأخوات والإخوة الذين يفرحون في تقديم أحد أفراد العائلة لخدمة اللَّه، وهي خدمة يُرفع فيها الحبّ العائليّ المحدود إلى حبّ روحيّ واسع؟ أين هؤلاء الذين سيتنازلون عن الأفضل والأقوى حبًّا بحياة الطهارة؟
لا يمكن أن يكون هناك شيء أكثر نقاءً من العائلة الأرثوذكسيّة الحقيقيّة. إنّها في نهاية المطاف البوتقة التي تتشكّل فيها عناصر الأشخاص الكاملين، يجب أن نكرّم هذه العائلة ونصلّي لكي يجعلنا اللَّه مستحقّين لتأسيس مثل هذه العائلات وقيادتها في مسيرتها نحو اللَّه. في الوقت عينه يجب أن نحرص على عدم قبول أيّ عائلة زائفة على أنّها عائلة حقيقيّة . يجب أن نحذر من مجرّد الآراء الاجتماعيّة حول مفهوم العائلة. وبالنسبة إلى تلك العائلات التي تشكّلت بشكل خاطئ وتعمل بشكل خاطئ، فينبغي لنا أن ندعو لها بحبّ صادق كي تتمثّل بصورة العائلة المسيحيّة، التي نراها في حياة المسيح ووالدة الإله والرسل والشهداء والقدّيسين. n