قوموا ننطلق…
د. جان يازجي
في موسم القيامة نُبرز واقع الانتقال من حال إلى حال، أي التغيّر، وتحديدًا تغيّر علاقتنا مع الموت، ومعلوم أنّ واقع التغيّر صفة ملازمة لكلّ مخلوق لأن ليست فيه حياة من ذاته.
فانطلاقًا من مخلوقيّة الإنسان تبدو سيرورة التغيّر أمرًا ملازمًا له، والتغيّر لا يكون عشوائيًّا أبدًا، فهو إمّا تطوّر في الحياة أو تدهور نحو موت ويبقى التفاوت مقترنًا بعاملي السرعة والتوقيت.
والقيامة هي تطوّر في الحياة، هي انتقال من موت إلى حياة أوّلاً، وهذا أمر واقع منذ أن أعلن الربّ غلبته على الموت وصار بكر الراقدين. ثمّ انتقل من مجد إلى مجد، وهذه حال من التصقوا باللَّه حتّى المنتهى فأسبغ عليهم أن يدخلوا معه إلى العرس...
هو حال تعيشه الكنيسة الظافرة بقدّيسيها حول الخروف الذبيح، وتتذوّق عرابينه الكنيسة المجاهدة في العالم شاهدةً للخروف، الذي يمدّها من لحمه ودمه وروحه بما يعينها على العيش في انتصاره.
وإذا كانت الحياة انتقالاً من حال إلى حال أفضل (يوحنّا 10: 10)، فالثبات في حال لا يتغيّر هو من الموت. وقد يكون موتًا ما له مظهر الحياة من دون أن يكون أفضل، وهذه كانت دينونة الفرّيسيّين. فالإنسان قادر على تقليد الحياة، لكنّ مصدر الحياة واحد هو الحياة نفسه.
والقوالب والصناديق والأطر هي من لوازم الحياة، لكنّها ليست الحياة، نحتاج إليها للتقدّم والتغيّر من حال إلى حال، لكنّها قابلة للتحوّل إلى «رمسٍ» «تابوتٍ» يئد الحياة، وهذا جاء يسوع ليحطّمه. وما أرمي إليه هنا هو روح الاتّكال على الإطار وليس الإطار في ذاته.
توضيحًا أدعوكم إلى أخذ مثالٍ هو الجدل الحديث حول أهمّيّة الأعمال في خلاص الإنسان، لا شكّ في أنّ المشكلة ليست في الأعمال كما أنّها ليست في الخلاص، لأنّ الخلاص نعمة مجّانيّة يمنحها اللَّه، ومن يسعى إليه جدّيًّا تتساوق أعماله مع رجائه، وهذا أمر بدهيّ. لكنّ المشكلة هي في روحٍ تحاول استخدام الأعمال والخلاص في مناحٍ محدّدة لاستنتاج قواعد لم يُردها السيّد له المجد. وهذا ما عبّر عنه الرسول بولس بقوله : لماذا تجرّبون اللَّه بوضع نيرٍ على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله؟ بالطبع بولس لم يتهاون قطّ مع طبيعة عملنا وأهدافه، ورسائله حافلة بالتوجيهات والطلبات وصولاً إلى نواهٍ في حالات عديدة، موضحًا شدّته على نفسه أوّلاً (1كورنثوس 9: 27) فالرسـول قاوم روح تأطير الإيمان في شكل محدّد.
واليوم، في عالم شعاره التغيّر والتبدّل، نجد أنفسنا كنيسةً ملتزمةً بالمحافظة على حوار دائم مع هذا العالم، وهذا من طبيعة الكنيسة الساعية أبدًا إلى تقديس العالم. وفي هذا الحوار تطرأ تبدّلات وتغيّرات، وعلى الكنيسة أن تستوعب ما يتبدّل وتنفخ فيه روح الحياة ليصير جزءًا من شهادتها في العالم.
وفي أنطاكية يبدو المشهد على صعيد المظهر طموحًا، فالتغيّرات كثيرة: في المباني والتجهيزات و«الفعاليّات»... وهذا أمر إيجابيّ، فالمظهر هو سفيرنا إلى العالم، ولنجاح سفارته لا بدّ من أن يكون منتميًا إلى مظهر العالم غير متنافر معـه. وهذه التغييرات تطرح نماذج علاقات جديدة ومفاهيم ليست جديدة بالضرورة كما قد تكون غير مناسبة أيضًا.
فالمظهر أساسًا هو إطار، وهو يطرح أسئلة على الأطر الأسبق: هل يحلّ محلّها؟ هل يتعايش معها؟ هل يمكن لكلّ الأطر أن تتعايش معًا مع محافظتها على المضمون؟
قد تبدو الأسئلة للبعض ترفًا فكريًّا، ولآخرين إسفافًا لا طائل من ورائه، لكن إن أدرجناها في سياق الرعاية تصبح أرقًا متّصلاً. فمعلوم أنّ لبّ الرعاية هو أنّنا جميعًا جسد يسـوع المسيح، وفينا المدبّرون الذين يرعون رعيّة اللَّه نظارًا بالاختـيار، بنـشاط، صـائرين أمثـلةً للرعية (1بطرس 5: 2- 3).
ترى كيف نختار اليوم المظهر الأمثل لهذا المضمون؟ كيف يحدّد اليوم الإطار الأمثل للقيام بهذه الخدمة؟
يحاول واقعنا اليوم التأقلم مع أطر عديدة منها: 1- العالم وما يحويه. 2- الراعي المحلّيّ. 3- الأب الروحيّ. 4- الدير «المرجع». أميل كثيرًا إلى إضافة مفردة «مؤسّّسة» للتعبير عن الأطر المدرجة أعلاه، لأنّها الكلمة الأقدر على نقل الألم الذي أحاول التعبير عنه. فمؤسّسة الرعيّة المحلّيّة تبدو «الحلقة الأضعف» في مواجهة مؤسّسة «الأبوّة الروحيّة» ومؤسّّسة «الدير المرجع». وفي التجمّعات الكبيرة تبـدو لـنا أيضًا إشكـاليّة الرعيّة المحلّيّة ضمن الرعيّة المحلّيّة، وهي حال نعيشها في دمشق مثلاً فضمن رعيّة دمشـق هنـاك رعـايـا الكنـائـس، وفي الكنائس الكبيرة يتقاسم كهنة الكنيسة الواحدة الرعيّة، فيصبح هناك نوع من الشبـكة الـرعائيّة صعـودًا نحو راعي الأبرشيّة، وهو هنا غبـطة البطريرك، ما يُدخلنا حتمًا في نوع جديد من المأسسة.
الرعيّة والأبوّة الروحيّة والدير، هي أطر استخدمتها الكنيسة بإرشاد الروح القدس، للعمل والشهادة في العالم، لكن هل هي متوافقة في ما بينها؟ هل هي متعايشة؟ هل هي في حالة اتّفاقٍ على عدم التدخّل؟ مع ما يرافق ذلك من كتمٍ للسلبيّات، أو تعالٍ عنها، أو بالعكس الإشادة بها في سياقات جزئيّة وكأنّها من «الجهاد الروحيّ» و«تلافي العثرات» أو ببساطة تجاهلها أو تجاهل خطرها...
كيف تتحاور هذه المؤسّّسات في ما بينها؟ وكيف تتحدّد مرجعيّاتها؟ لا يتسرّعن أحدٌ لتكفيري وإدانتي، فما هدفي إلاّ أن أفهم.
لماذا يصبح معيار الإيمان و«الخلاص» هو أن تعيش في العالم وكأنّك في الدير؟ رغم أنّ التراث الآبائيّ يميّز بوضوح بين هذا وذاك. أم هل تلك هي الترجمة الوحيدة لـ«لستم من العالم» (يوحنّا 15 :19)، لماذا تتمّ هذه المماهاة بين المؤمن في العالم والراهب؟ من المسؤول عن النَفَس المانويّ الذي يجعل الترهّب أعلى منزلة من الزواج؟
لماذا صار الدير «رعيّة» غير محدودة بجغرافيا؟ محكومة بشركة الولاء لرئيسه بدلاً من شركة العيش؟ (تكمن خطورة هذا التبديل في فرز من لا يطابق هذا الولاء أو ينتمي إليه)، كيف يصير الراعي مثالاً لرعيّته؟ وهل يرفعه ذلك أعلى منهم في «القداسة»؟
هل من المسموح السكوت عن ضعف يستشري ويقسم الكنيسة إلى طبقيّة: إكليروس، رهبان، علمانيّين... وطبقة رابعة مكتومة هي القدّيسون!!!! نعم فبعض الناس يتمّ التعامل معهم بنوع من العصمة والتعظيم ليس من المسيحيّة في شيء. ومجرّد قبول مثل هذا الفكر هو مجد باطل وفرّيسيّة على الرعاة والرهبان محاربته وهم أدرى بذلك!!!
أين منّا دينونةٌ أنذر بها يسوع من يكون عثرةً للصغار والضعفاء من أخوته؟ أم أنّ بولس كان «مبتدعًا» إذ قال: «إن كان طعام يُعثِر أخي فلن آكل لحمًا إلى الأبد لئلاّ أعثر أخي» (1كورنثوس 8 : 13).
ما هو الدور الذي يقوم به العلمانيّون «الشعب» في الكنيسة؟ هل لهم دور؟ من الذي يقرّره وإلامَ يستند؟ وعلى قياس من؟ وكيف يُحدّد دور الكنيسة في ضوء المتغيّرات الوطنيّة؟ أسئلة صار من الواجب النهوض للإجابة عنها بلغة واضحة ومقبولة في عالم الألفيّة الثالثة. فهذه هي، ولا شيء غيرها، فرادة شهادتنا المسيحيّة في العالم. والأسئلة هي للتوضيح والتعليم والترتيب. وما نسكت عنه سيكون دينونتنا أمام من يَشْرُدُ من أخوتنا وراء هذا وذاك، عندما نقف وإيّاهم أمام منبر الربّ. قال بولس الرسول «حسنٌ أن لا تأكلَ لحمًا و لا تشربَ خمرًا ولا شيئًا يصطدم به أخوك أو يعثر أو يضعف» (رومية 14: 21).
أعلم أنّ الأسئلة موجعة، لأنّها أوجعتني، وتوجعني وكثيرين معي، لكن لا بدّ من طرحها لتكون بوّابةً نعبر منها إلى قيامةٍ، تابعين السيّد إذ قال : «قوموا ننطلق ...»،
المسيح قام حقًّا قام n