قراءة كتابيّة في وجه المسيح(3)
إبراهيم وملكيصادق
نقولا أبو مراد
رفعت يديّ إلى الربّ العليّ ملك السماوات والأرض
(تكوين ١٤: ٢٢)
تبدأ قصّة إبراهيم بخروج. يخرج من أور الكلدانيّين، من حضارة بناها الإنسان ليكون له فيها أمن واستقرار. غير أنّ الكتاب، كما أشرنا سابقًا، يأخذ على مدن الناس أنّها ظالمة وأنّ بُناتها قتلة، ذلك لا سلام في مدينة أو مملكة إلاّ ووجهه الآخر الحرب والقتل. ورأينا نموذج هذا في قايين المتملّك يقتل أخاه المتنقّل مع غنمه في براري الأرض التي خلقها اللَّه. ولعلّ قارئي قد أدرك أنّ هذا إنّما هو صورة أو استعارة لجأ إليها كاتب التكوين لينقل إلى سامع قصّته أنّ الذين حكموا الأرض ويحكمونها في كلّ آن وزمان كقايين قتلة، أكلوا كآدم ثمرة الشجرة الممنوعة، أي جعلوا أنفسهم أسيادًا على الأرض من دون اللَّه.
يخرج إبراهيم إذًا، لا بل يخرجه اللَّه من ذلك المسرى التاريخيّ الذي عرفه البشر، ليسير معه. فكانت قصّة إبراهيم قصّة تنقّله من مكان إلى آخر، بما يشبه، إلى حدّ بعيد، ما أراد الكاتب أن يوحي به عندما قال عن أخنوخ، البارّ الأوحد في أجيال الإنسان حسب «كتاب مواليد آدم» (تكوين 5: 21– 24)، إنّه «سار» مع اللَّه، أي تبع اللَّه أنّى مضى، كما تتبع الخراف الراعي. كان إبراهيم للَّه رعيّةً، وكان هو بدوره راعيًا وكذا كان ابنه إسحق وحفيده يعقوب وأبناؤه. يسير إبراهيم وراء اللَّه كما تسير الأغنام وراء راعيها، لأنّ الكتاب يقول عنه إنّه أطاع صوت اللَّه القائل له، «اذهب إلى الأرض التي أريك» (تكوين 12: 1). وما كانت تلك الأرض مكانًا محدّدًا، كما نحدّد اليوم الأراضي والأماكن، إنّما كانت بالحريّ وضعًا لإبراهيم أراد الكاتب أن يشدّد عليه، وهو، بالضبط، أنّه لم يكن لإبراهيم مكان سوى كلمة اللَّه التي كان يطيعها، وآمن إبراهيم بالربّ المتكلّم إليه، حتّى عندما بدا كلامه مستحيلاً، كأن يجعل لإبراهيم العجوز وامرأته العاقر، نسلاً يفوق عدده الرمل الذي على شاطئ البحر (تكوين 15: 1– 11).
لا يستقرّ إبراهيم في مكان. بل ينتقل إلى حيث يدعوه ربّه. لتكون قصّته تنقّلاً مستمرًّا. ولئن قال عنه الكتاب إنّه غلب خمس ممالك ظالمة قاهرة، إلاّ أنّ إبراهيم يرفض أن يرثها كعادة الشعوب حين يغلب بعضها بعضًا في حرب، فلا يأخذ غنيمةً، ولا يقيم له عاصمة في أيّ من مدائن تلك الممالك، بل يخضع نفسه للَّه الذي تعلّم عنه من ملكيصادق (ملك البرّ) مباركه، أنّه هو ملك السماوات والأرض، مختارًا أن يستمرّ في السير وراءه مرعيًّا وراعيًا (تكوين 14).
ما يميّز اللقاء بين إبراهيم وملكيصادق أنّ هذه هي المرّة الأولى التي يُذكر فيها ملك في الكتاب ملتصق باللَّه. لا يذكر عنه الكاتب شيئًا سوى اسمه واسم مملكته، وأنّه «كان كاهنًا للَّه العليّ» (تكوين 14: 18 – 19). لا ذكر لنسب له أو نسل، كعادة الملوك. اسمه واسم مملكته محمّلان معنًى: هو ملك البرّ، ومملكته اسمها «السلام» (شاليم). وظيفته أنّه كاهن للَّه العليّ، أي رافع له التقدمات، وتقدماته، خبز وخمر، من نتاج ثمر الأرض، ولا تقدمات حيوانيّة فيها. أمّا ما يعلّمه هذا الكاهن فهو أنّ اللَّه هو ملك السماوات والأرض. مع أنّ الكلام على ملكيصادق لا يأتي إلاّ في آيتين فقط، ولن يذكر ثانية إلاّ في مزمور 110، وفي الرسالة إلى العبرانيّين (7: 1 وما يليها)، حيث يشير بولس إلى خصوصيّة الكلام عليه في التكوين، مبيّنًا أنّ القصد من الطريقة التي يذكر فيها التشديد على أنّه كاهن للَّه إلى الأبد، يفوق كهنوت هارون، ولم يجعل اللَّه أحدًا على رتبته إلاّ يسوع الذي كمّل بآلامه الذبيحة المقدّمة عن الناس في قدس أقداس الربّ (عبرانيّين 5: 1- 11).
حين يضع كاتب التكوين إبراهيم أمام ملكيصادق هذا ليباركه، في سياق كلامه على حربه ضدّ الملوك الخمسة، فإنّ قصده أن يشير إلى جملة من الأمور، أوّلها التضادّ بينه وبين جميع الملوك المذكورين في الرواية عينها. فمن جهة يذكر الكاتب أنّ تاريخ الملوك التسعة مفعم بالحروب، فهم في قتال دائم، مخضِعين ومخضَعين. لا ينتهي الاحتراب بين الناس. يغلبون بعضهم بعضًا، والغالبون يسحقون، والمغلوبون يتمرّدون، فإمّا يهزمون أو ينهزمون ثانيةً، وفي خضمّ ذلك كلّه، يسقط الأبرياء. إزاء هذا الاحتراب المتواصل، يأتي ملكيصادق ملكًا للسلام. لا يحارب لأنّ لا أرض له يدّعي امتلاكها، ولا حدود يحميها أو يوسّعها، بل يقرّ دومًا وفي كلّ حين بأنّ اللَّه إنّما هو ملك السماوات والأرض، وأنّه لا يملك في الأرض سوى أن يقرّ بهذا. يرفع إلى الربّ خبزًا وخمرًا، من نتاج الأرض التي جعلها اللَّه تنبت وتثمر في تكوين 1، ولم يقدّم للَّه ضحايا حيوانيّة. كان إلى هذا القدر مسالمـًا حتّى إنّه لم يقتل حيوانًا ليقدّمه للَّه، كائنًا بهذا الوحيد في سياق التكوين الذي يأتمر بأمر اللَّه في تكوين 1: 29 – 30، بأن يكون العشب مأكلاً للناس والبهائم معًا. بهذا يرتقي إلى الحسن الذي رآه اللَّه في خليقته، لا بل هو الصورة والمثال، بمعنى أنّه يعكس لإبراهيم أنّ اللَّه هو الملك، وأنّ كلّ شيء له، وألاّ بركة لإبراهيم إلاّ على هذا الأساس. ثلاث مرّات في الآيتين اللتين تتحدّثان عن ملكيصادق يذكر اللَّه بلقبه «العليّ»، بتشديد على أنّ الرفعة التي يصطنعها الناس لذواتهم إذ يغلبون آخرين كما غلب الملوك الخمسة الملوك الأربعة واستولوا على ممتلكاتهم، إنّما هي زائفة، وأنّ المتّكل على الربّ كما اتّكل إبراهيم، والمقرّ بتعاليه، وبأنّ كلّ شيء له، إنّما هو منتصر على ما هو أقوى منه وأعظم. وما الانتصار هنا كانتصار الناس على بعضهم البعض في حروب، بل في المكانة التي يقول الكاتب عبر هذه الرواية إنّ اللَّه يعطيها لخائفيه والمتّكلين عليه.
الأمر الآخر الذي نجده في رواية إبراهيم ولقائه بملكيصادق أنّ ما يعلّمه ذلك الكاهن ينتقل كما هو إلى إبراهيم المتعلّم. ما يقوله ملكيصادق عن اللَّه إنّه عليّ وملك السماوات والأرض (تكوين 14: 19)، يكرّره إبراهيم حرفيًّا في تكوين 14: 22، فيرفض أيّ غنيمة أو تقدمة من الملوك الذين نجّاهم، لينتقل بعد ذلك إلى خيمته، وينتظر من الربّ الرحمة والخلاص.
إبراهيم في لقاء ملكيصادق يمثّل على مستوى الرواية كلّ نسله وكذلك جميع الأمم. هؤلاء يحملهم في صلبه حين يقرّ أمام كاهن اللَّه العليّ بما ينبغي أن يقرّوا به. يضع نفسه ويضع كلّ من سيكون هو أبًا لهم، أمام هذا التحدّي بألاّ يكونوا كالملوك الخمسة أو الأربعة، بل أن يكون لهم في السلام الذي هو ملكه مقرًّا ومسكنًا. ويصحّ هذا، بوجه الخصوص، على مستوى الرواية الكتابيّة على المملكة التي سوف تكون أورشليم (شاليم/ سلام) عاصمتها. وسيبيّن الكتاب أنّ ملوك أورشليم ما كانوا أبرارًا كما كان ملكيصادق، الملك البارّ أو ملك البرّ، وما كانت المدينة المسمّاة مدينة السلام، فعلاً مدينة للسلام، بل حاربت وقتلت وحوربت وهدّمت، شأنها كشأن غيرها من المدائن والممالك. أمام ما سيقوله الكتاب في قصّة أبناء يعقوب بعد عبور نهر الأردنّ، وإلى سقوط المملكة، وعاصمتها أورشليم، وهيكلها، يبقى ملكيصادق هو الوجه الأبرز والأرفع، ويبقى مقياسًا للوعد بالمسيح الآتي، الذي سيجلسه الربّ عن يمينه، ويخضع كلّ أعدائه ويجعلهم موطئًا لقدميه. أقسم الربّ بأنّ مسيحه هذا سيكون «كاهنًا إلى الأبد على رتبة ملكيصادق»، وبأنّه سيكسر الملوك أمامه ويدين الأمم لأجله (مزمور 110: 1– 7). المزمور 110 من المزامير القليلة المؤلّفة من سبع آيات، تعبيرًا عن اكتمال التعليم المقدّم فيه، وعن قوّة هذا التعليم. وسط المزمور الآية الرابعة التي تقول، «أقسم الربّ ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق»، ما يعني أنّ هذه هي الفكرة الأبرز في المزمور، وما يأتي قبلها وبعدها إنّما يوضحها أو يكتمل معناه فيها. وهي الذكر الوحيد في أسفار العهد القديم لملكيصادق خارج تكوين 14. يخاطب المرنّم المسيح الآتي. المسيح الذي لم يكنه أيّ من ملوك الناس ورؤساء الأمم. ذلك ينتظر أن ينتصر له الربّ وأن يجعله عن يمينه. سبق وقال عنه إنّه ابنه الذي ولده (مزمور 2)، وإنّه الإنسان الذي أخضع له كلّ شيء ممّا خلق (تكوين 8).
نعلم من مزامير أخرى ومن الأنبياء أنّ السيّد هذا، أُخضعت له جميع الشعوب، ليس بالقوّة التي بها تخضع الشعوب بعضها بعضًا، بل بقوّة أخرى هي قوّة كلمة الربّ الداعية إلى الاتّكال عليه، وإلى الرحمة والرأفة بالمسكين والفقير واليتيم والأرملة ومهمّشي الأرض.
إذا أخذنا هذا كلّه في الاعتبار ندرك أهمّيّة وقوف إبراهيم أمام ملكيصادق. بإبراهيم يقف الناس أجمعون أمام صورة اللَّه ومثاله، يسمعون منه أنّ للَّه الأرض وكلّ ما فيها، مدعوّين إلى أن يستغنوا عن كلّ شيء إلاّ عن التوكّل عليه، وانتظار خلاصه. إبراهيم سمع فأطاع، ويبقى أن يطيع من سيأتون منه. بكلام آخر، وكما يقول الرسول بولس في غلاطية، لن يكون إبراهيم المطيع أبًا إلاّ للذين يطيعون مثله، ويقرّون بأنّ اللَّه وليس هم هو سيّد العالم، وأنّ كلمته هي العليّة، تلك الكلمة الداعية إلى المحبّة، والقاتلة كلّ شرّ وظلم في الناس.
بعد هذا اللقاء يعود إبراهيم إلى ترحاله. ينتقل من مكان إلى آخر، إلى حيث يدعوه الربّ. وفي إسحق المولود في خضمّ هذا الترحال يتحقّق النسل الذي حمله إبراهيم في صلبه، حين كان واقفًا أمام ملكيصادق يتقبّل منه البركة. إسحق لا يحارب. لا يخرج من ترحاله ولا يفرّ إلى مدينة. لا يأتي من مدينة كأبيه، ولا يمضي إلى مدينة كابنه. بل يولد ويموت في رحم البرّيّة، برّيّة اللَّه. لا يحارب، ولا يقاتل حتّى حين يخرّب آخرون الآبار التي كان يحفرها (تكوين 26). جلّ قصّته عن حفر الآبار، وحين كانت تخرب له بئر كان يمضي ويحفر أخرى، إلى أن وصل إلى السابعة، فجعلها علامة على السلام الذي أقامه مع من خاصموه، فعاشوا معًا في أرض واحدة يرعون أغنامهم، والأرض لا أرضه ولا أرضهم بل أرض اللَّه الواهبها عطيّة للناس للحياة لا للموت.
إبراهيم الواقف أمام ملكيصادق، وإسحق المحقّق لهذه الوقفة، مثال سيبقى مرفوعًا أمام كلّ الروايات التالية، يكمّلها يوسف الذي سيكون بدوره أيقونةً للمسيح إلى حين تجلّيه في كلام الأنبياء تجلّيًّا بالفعل قبل أن يظهر في وجه يسوع المتألّم على الصليب. في إبراهيم وإسحق نقرأ هابيل وأخنوخ، وترحالهم سيرًا وراء الربّ، وفيهما أيضًا نقرأ سقوط قايين ولامك وبُناة بابل والملوك الخمسة، والملوك الأربعة، ومملكتي إسرائيل ويهوذا، وسائر ممالك الدنيا وطغاتها إلى أن ينقضي التاريخ. ننتظر فيهما، كما انتظرا، وجه المسيح الربّ الذي سيجلس عن يمين اللَّه، والذي قال عنه الرسول بولس إنّه سيقوم عن يمين القدرة لأنّه انسحق بقوّة الناس، والمحبّة التي انسحق لأجلها هي كلمة اللَّه القويّة التي ستسحق شرّ الأمم وظلمها. n