صرخات الصغار وآفات الكبار
بيرج طرابلسي
مقدّمة
تعود مسألة التحرّش الجنسيّ بالقاصرين (ما دون الـ18 سنة) في الكنيسة الكاثوليكيّة إلى عقود خلت، طالت إكليريكيّين ومكرَّسين حول العالم تبوّأوا مناصب عدّة في الكنيسة، وكان آخرهم كاردينال نيويورك السابق ثيوذور ماكريك الذي جُرّد من الحالة الكهنوتيّة في كانون الثاني 2019، وكاردينال ميلبورن جورج بيل الذي حُكم بالسجن لمدّة ستّ سنوات، في آذار 2019. إلاّ أنّ ظهور مسألة التحرّش الجنسيّ بشكل واسع إلى العلن بدأ يأخذ مجراه ابتداء من ثمانينيّات القرن الماضي، بعد صدور تقارير في كندا دفعت بمجلس الأساقفة الكاثوليك هناك إلى وضع قواعد إرشاديّة حول هذه الآفة. وأُعِدَّت التقارير لاحقًا من قبل العديد من مجالس الأساقفة الكاثوليك حول العالم أينما برزت ظواهر اعتداءات جنسيّة على قاصرين. حاول كلّ من البابا يوحنّا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر والبابا فرنسيس الأوّل وضع حدّ لهذه الآفة-الجريمة في الكنيسة عبر رسائل ومبادرات، إلاّ أنّ تفاقم الأمور وتداعياتها، والحاجة إلى جمع المبادرات في الكنائس المحلّيّة والاستفادة منها ضمن منظومة الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة، دفعت بالبابا الحاليّ إلى التحضير للقاء موسّع في الفاتيكان، بين 21 و24 شباط 2019، للبحث بهذا الموضوع الخطير وإيجاد حلول عمليّة له، بطريقة مجمعيَّة ومسؤولة وصادقة وشفّافة وعميقة، تهدف إلى تهيئة الظروف المؤاتية لتعود الكنيسة مكانًا آمنًا للجميع، وبالأخصّ للأطفال والقاصرين والضعفاء. فالكنيسة الكاثوليكيّة باتت بحاجة إلى نقلة نوعيّة تتعلّق بطرائق تفكيرها في زمننا المعاصر وبكيفيّة التعاطي مع مسائل أخلاقيّة حسّاسة يقوم علاجها على مبادئ المسؤوليّة والمساءلة والشفافيّة، بهدف كسر الإنكار والصمت والخوف وما يرافقها من ممارسات مخزية بعيدة عن روح الإنجيل.
أ. المسار نحو اللقاء
وضعت بين ١٩٩٦ و٢٠٠٦ تقارير عدّة من قبل مجالس الكنائس الكاثوليكيّة المحلّيّة في إيرلندا وفرنسا والولايات المتّحدة حول الاعتداء الجنسيّ على القاصرين. وكان البابا يوحنّا بولس الثاني أوّل الباباوات الذين تلقّفوا هذه التقارير بجدّيّة بالغة، إذ أصدر « الإرادة الرسوليّة بعنوان «حماية الأسرار المقدّسة»، والتي شدّدت على دور مجمع عقيدة الإيمان وتطبيق قوانينه المتعلّقة بمسائل إيمانيّة وأخلاقيّة ومنها الاعتداء الجنسيّ على القاصرين من قبل أيّ شمّاس وكاهن أو أسقف واعتبار هذا الاعتداء من أخطر الجنح (المادّة ٦). كما وطلب البابا بنيديكتوس السادس عشر في كلمته الموجّه إلى أساقفة إيرلندا (٢٠٠٦) «بأن يعملوا إلى إظهار الحقيقة حول ما جرى في الماضي، وأن يأخذوا الخطوات اللازمة لعدم تكراره، وأن يشدّدوا على احترام مبادئ العدالة، وأن يقدّموا الشفاء لكلّ المتضرّرين من هذه الجرائم الفظيعة».
اقترح مجمع الكرادلة على البابا فرنسيس، في كانون الأوّل 2013، فكرة إنشاء لجنة استشاريّة مؤلّفة من شرائح كنسيّة متنوّعة من حول العالم. أقرّ البابا في 21 نيسان 2015 وضعيّة اللجنة البابويّة التي من أهدافها المباشرة مساعدته على حماية القاصرين وتعزيز روح المسؤوليّة في الكنائس المعنيّة وتوحيد الجهود ضمن مجمع عقيدة الإيمان. وضعت هذه اللجنة نصب عينيها مبدأ العلاج والاهتمام الرعويّ عبر اللقاء بالضحايا وذويهم وكنائسهم، والاستماع إليهم، والتعلّم منهم حول كيفيّة الحؤول دون وقوع حوادث مشابهة، والمساعدة على تنفيذ مضمون الرسالة البابويّة الموزّعة على الكنائس الكاثوليكيّة في العالم (3 أيّار 2011)، والتي تدعو إلى حماية ضحايا الاستغلال الجنسيّ، وتقديم العون النفسيّ والروحيّ، وتدريب المرشّحين للكهنوت، ومتابعة المشرطَنين حديثًا وتوعيتهم على مسؤوليّاتهم القانونيّة، المدنيّة والكنسيّة، وضرورة التعاون مع السلطات المدنيّة بشكل وثيق يضمن حقوق الأطراف كافّة. كما على هذه اللجنة المساهمة في تربية الإكليريكيّين وتنشئتهم أكان في كليّات اللاهوت والإكليريكيّات أم عبر ورش عمل ذات الصلة. وأصدر البابا فرنسيس «إرادة رسوليّة» بعنوان «كأم مُحِبّة» في حزيران 2016 أكّد عبرها التزام الكنيسة حماية القاصرين ضحايا التعدّيات الجنسيّة، مشدّدًا على أنّه يحقّ للمجامع المتخصّصة في الكوريا الرومانيّة فتح تحقيق جادّ وإقالة أيّ أسقف أو رئيس عامّ من منصبه تعامل باستهتار مع قضايا التعدّيات الجنسيّة على الأطفال، والمصنّفة من بين «الأسباب الخطيرة»، لكون الحقّ القانونيّ يلحظ هذا الأمر، بعد موافقة البابا.
انتشرت فضائح الاستغلال الجنسيّ بشكل سريع وغير مسبوق في زمن حبريّة البابا فرنسيس، وهذا يعود إلى أسباب عدّة من أبرزها صدور تقريري المدّعيين العامّين في ولايتي بنسلفانيا وإلينوي في أميركا (2018)، وتفاقُم التداعيات المادّيّة والمعنويّة الناتجة من تلك الفضائح، وتأثير وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ على المجتمعات والأفراد حول العالم، ما دفع بالبابا فرنسيس إلى توجيه رسالة إلى الأساقفة الكاثوليك كافّة، في ذكرى الأطفال الأبرياء الشهداء في 28 كانون الأوّل 2015، طالبًا منهم «إيجاد الجرأة الكافية لأخذ الاجراءات كافّة ولحماية حياة أطفالنا بالسبل كافّة، كيلا تتكرّر هذه الجرائم. وعليه، دعونا نلتزم، بوضوح وإخلاص، بسياسة «صفر تسامح» (zero tolerance)». إلاّ أنّ المحاولات جميعها وما رافقها من اعترافات مأساويّة للضحايا وإجراءات عمليّة للمسؤولين الكنسيّين حول العالم، بقيت مشتّتة في الكنيسة الكاثوليكيّة التي وجدت نفسها مؤخّرًا أمام ثلاثة تحدّيات، التحدّي الأوّل يتعلّق بتوحيد المفاهيم والاجراءات في الكنيسة، والتحدّي الثاني يتعلّق بالإصغاء بعمق إلى الضحايا ومعالجة جروحهم، والتحدّي الثالث يتعلّق بخلق بيئة آمنة في الكنيسة وبإعادة الثقة بها على أسس المسؤوليّة والمساءلة والشفافيّة.
ب. فعاليّات اللقاء ومقرّراته(٢)
أبتدأت أعمال لقاء الفاتيكان حول «حماية القاصرين في الكنيسة» في 21 شباط 2019 بحضور 190 شخصيّة كنسيّة من حول العالم، معظمهم من الكرادلة ورؤساء الأساقفة رؤساء مجالس الكنائس المحلّيّة، ومن بعض رؤساء الرهبنيّات. وُزّعت على المشاركين 21 نقطة للتأمّل حول هذا الموضوع بهدف المساعدة على التفكير، انطلاقًا من اقتراحات اللجان والمجالس الأسقفيّة المختلفة. ومن أبرز هذه النقاط، نذكر التالي: (1) «صوغ دليل عمليّ تحدَّد فيه الخطوات التي يجب على السلطات الكنسيّة القيام بها في كلّ اللحظات الأساسيّة في حال ظهور حالات»؛ (5) «إبلاغ السلطات المدنيّة والسلطات الكنسيّة العليا مع احترام القواعد المدنيّة والكنسيّة»؛ (8) «مرافقة الضحايا وحمايتهم ومداواتهم، بتقديم كلّ الدعم اللازم من أجل شفاء كامل»؛ (9) «زيادة الوعي بأسباب الاعتداءات الجنسيّة وتبعاتها، وذلك عبر مبادرات تنشئة دائمة للأساقفة، الرؤساء العامّين، الكهنة والعاملين الرعويّين»؛ (17) «إجراء تقويم نفسيّ للمرشّحين للكهنوت والحياة المكرّسة من قِبل خبراء مؤهّلين ومعتمَدين»؛ (19) «وضع قواعد للتصرّفات إجباريّة لجميع الكهنة والرهبان، والعاملين في الخدمات والمتطوّعين، وذلك لوضع حدود مناسبة للعلاقات الشخصية».
بعد الصلاة الافتتاحيّة، استُهلّ اللقاء بعرض شهادات حيّة مسجّلة لضحايا من أميركا اللاتينيّة وإفريقيا وأوروبّا الشرقيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة وآسيا، عكست آلامهم الجسديّة والنفسيّة وعمق المشكلة في الكنيسة. الشهادة الأولى كانت لرجل من تشيلي تمّ التعاطي معه على أنّه «كاذب» وأنّه مع الآخرين «أعداء الكنيسة»، متوجّهًا إلى أولئك الذين بدلاً من أن يكونوا أطبّاء النفوس، تحوّلوا إلى قتلة الروح والإيمان. شبّه هذه الأزمة بمرض السرطان بحيث استئصال الورم لا يقدّم الشفاء الكامل إذ لا بدّ من وجود علاج للمرض عينه. وتمنّى هذا الرجل أن يغادر المتستّرون الكنيسة، تاركين الساحة لكلّ من يريد تجديد الكنيسة وجعلها خالية من أيّ إستغلال جنسيّ. الشهادة الثانية كانت لسيّدة إفريقيّة تعرّضت منذ أن كان عمرها 15 سنة لاغتصاب كاهن وتعنيفه وأجبارها على الإجهاض ثلاث مرّات. تحدّثت هذه السيّدة عن الثقة التي وضعتها في الكاهن، وعن اعتمادها الماليّ الكلّيّ عليه ما جعلها تتحمّل كلّ الإذلال تجاهها. الشهادة الثالثة كانت لكاهن من أوروبّا الشرقيّة الذي تعرّض في صغره للاستغلال الجنسيّ من قبل كاهن، وهو ما زال يحمل جروح الإساءة الجنسيّة ورفض السلطات الكنسيّة الإصغاء إليه، متمنّيًا على الأساقفة أن يصغوا إلى الشعب وأولئك الذين يريدون التعبير عن مشاكلهم، وأن يعلم الجميع من هو ذاك الكاهن-الجاني وماذا فعل. الشهادة الرابعة كانت لضحيّة من الولايات المتّحدة الأميركيّة والذي أخبر الحاضرين كيف أنّه فقد براءته منذ الصغر وكيف أثّر هذا الأمر عليه لاحقًا، إذ ما زال وعائلته يحملون الألم الذي تسبّب به كاهن رعيّته، ذاك الخائن والمتلاعب، معتبرًا أنّ الكنيسة بحاجة إلى قادة جدد ذوي رؤية وشجاعة لمحاربة تلك البلوى. الشهادة الخامسة والأخيرة كانت لرجل آسيويّ استُغِلّ جنسيًّا أكثر من 100 مرّة، وهو ما زال يحمل جروح تلك الإساءات التي كانت سبب اضطراب حياته الشخصيّة والاجتماعيّة. أجمع هؤلاء الشهود على ضرورة أن يصغي المسؤولون الكنسيّون إلى الضحايا وأن يُصدِّقوهم وأن يتعاونوا مع السلطات المدنيّة بهدف تقديم الإكليريكيّين الجناة إلى العدالة ومحاسبتهم وألاّ يتستّروا على هذه الآفة. من جهة أخرى، شدّد البابا فرنسيس في كلمته الافتتاحيّة على أنّه لا بدّ من الإصغاء معًا إلى الروح القدس وطاعة إرشاده «فنسمع صرخات الصغار الذين يطلبون العدالة». لذا، يجب التسلّح بالإيمان «وبأقصى حدّ من روح الشفافيّة، والشجاعة والواقعيّة»، طالبًا إلى الروح القدس أن يساعد المؤتمِرين «في تحويل هذا الشرّ» «الذي يؤلم الكنيسة والإنسانيّة»، «إلى فرصة للاستيعاب والتنقية».
توزّعت المداخلات الرئيسة وما تلاها من فترات محدّدة للأسئلة ووِرش العمل والخلاصات حول ثلاثة عناوين أساسيّة وهي المسؤوليّة (اليوم الأوّل)، والمساءلة (اليوم الثاني)، والشفافيّة (اليوم الثالث). ففي قراءة سريعة لتلك الكلمات، يمكننا عرض الخلاصات التالية:
- المسؤوليّة: ركّز كاردينال مانيلا لويس أنطونيو تاغل على دور الأسقف-الراعي في معرفة أوجاع الخراف وشفاء جراحهم. فتجاهل الأساقفة لدورهم، وهروبهم من تحمّل المسؤوليّة وابتعادهم عن رائحة الخراف جعلهم مشاركين في زيادة الضرر على الضحايا والكنيسة. لذلك، على الأساقفة الاعتراف بأخطائهم وألاّ يتردّدوا أو يخافوا من الاقتراب من الضحايا ولمس جراحهم والعمل على شفائها. فالعدالة وحدها لا تكفي للشفاء، بل المطلوب وضع مسار حقيقيّ يساعد الضحيّة والجاني على بلوغ مرحلة المسامحة، الأوّل عبر شفاء جروحه، والثاني عبر مساعدته مواجهة الحقيقة! وشدّد رئيس أساقفة مالطا شارلز شيكلونا على أهمّيّة التنشئة الكهنوتيّة الإنسانيّة والأخلاقيّة والفكريّة والروحيّة الكافية، وعلى عدم تفضيل الإكليروس على العلمانيّين، وعلى عدم المبالغة في القلق حول سمعة الكنيسة والفضائح فيها، وعلى عدم التهاون في تطبيق القوانين المدنيّة والكنسيّة، وعلى حماية كرامة كلّ شخص، وعلى إيجاد طرائق للوقاية ومنع حصول حالات مشابهة في المستقبل. وذكّر كاردينال بوغوتا روبن سالازار غوميز بمسؤوليّة الأسقف في مواجهة النزاعات والتوتّرات وأولئك «الذئاب»، مميّزًا «بين الخطيئة التي تخضع للرحمة الإلهيّة والجريمة الكنسيّة التي تخضع للقانون الكنسيّ، والجريمة المدنيّة التي تخضع للقانون المدنيّ»، ومعتبرًا أنّ الإكليروسيّة (clericalism) هي في جذور الأزمة، داعيًا إلى تغيير الذهنيّة وإلى تطابق دقيق بين الأقوال والأفعال.
- المساءلة: سلّط كاردينال مومباي أوزوالد غراسياس الضوء على أهمّيّة المساءلة والمحاسبة في الكنيسة، معترفًا بأنّ أزمة الاعتداء الجنسيّ على القاصرين لم تُعالج بطريقة واضحة ومسؤولة وفعّالة. ورأى أنّ ما يقوم به البابا فرنسيس، وعبر العمل المجمعيّ وعبر مشاركة العلمانيّين والإكليريكيّين، يصبّ في خانة العمل الموحّد والملزِم في معالجة هذه الأزمة، بغية الوصول إلى تحقيق العدالة والاعتراف العلنيّ بآلام الضحايا والمساعدة على تخطّيها وشفائها، وتحديد الاجراءات الضروريّة التي تحمي القاصرين في المستقبل. واعتبر كاردينال شيكاغو بليس كوبيش أنّ العمل الكنسيّ هو عمل جَماعيّ ومجمعيّ يتشارك فيه المُعمَّدون كافّة بتبصّر وتمييز وروح إصلاحيّة. وعليه، رأى أنّ على الكنيسة أن تصغي بحقّ وإيجابيّة إلى الضحايا وذويهم، وأن تحتضن الضحايا كافّة، كأمّ محبّة. وعليه، يجب رفض، وبشكل قاطع، كلّ محاولات التستّر أو الابتعاد عن الضحايا بسبب الخوف من الفضيحة. واعتبرت القاضية الإيطاليّة والأستاذة الجامعيّة ليندا غيسوني أنّه، وبهدف أن تصير الوقاية ممارسة رعائيّة يوميّة، لا بدّ من جعل المساءلة ضروريّة وممكنة. والمساءلة تقوم على معرفة الجناة وما قاموا به وذلك عبر الإبلاغ والتقويم القائم على الشفافيّة، في جوّ من الشركة الكنسيّة والعمل معًا من أجل منفعة الجميع، بعيدًا عن روح المراقبة والمحاسبة، بل تفعيلاً للعمل المشترك، كلّ حسب خدمته ومواهبه.
- الشفافيّة: اعتبرت الأخت النيجيريّة فيرونيكا أوبنيبو أنّ مصداقيّة الكنيسة باتت على المحكّ، وأنّ عليها تحديث أنظمتها وممارساتها بهدف مواجهة أزمة الاستغلال الجنسيّ للأطفال. وانتقدت ثقافة الصمت والخوف، ودعت الكنيسةَ إلى أن تكون سبّاقة وأن يعمل مسؤولوها باستقامة وعدالة واحترام وكرامة، وألاّ يدّعوا أنّ ثمّة مشاكل أكثر أهمّيّة من مسألة الاستغلال الجنسيّ، كالفقر والحروب والأمراض والعنف. وشدّدت على أنّ الرداءة والمراءاة والقناعة بالوضع الراهن وعدم التعاطي بشفافيّة وجرأة قد أوصلتْ الكنيسة إلى هذا المستوى المخزي والمعيب. ودعت إلى إقامة إجراءات عمليّة وفعّالة واستعمال وسائل التواصل الاجتماعيّ بشكل أفضل، بهدف تثقيف الناس حول المسائل الجنسيّة والعلاقات الإنسانيّة. واعتبر كاردينال ميونخ وفرينسينج رينهارد ماركس أنّ الشفافيّة تقوم على القدرة على فهم الأعمال والقرارات والعمليّات والإجراءات واقتفاء أثرها. وشدّد على أنّ العمل الإداريّ في الكنيسة ليس أمرًا تقنيًّا بل حاجة أساسيّة تقوم على أسس لاهوتيّة وروحيّة في توحيد الطرائق والإجراءات في العمل الكنسيّ، وبالطبع في محاربة الاستغلال الجنسيّ. أمّا كلمة المراسلة المكسيكيّة التلفزيونيّة فالينتينا ألزراكي فكانت الأبرز والأوضح والأقوى، إذ قدّمت نفسها على أنّها أمّ بالدرجة الأولى وتاليًا هي لا تمثّل الصحافيّين فحسب، بل أيضًا الأمّهات والعائلات والمجتمع المدنيّ، مؤكّدة أنّ بإمكان الصحافة والكنيسة أن تكونا حليفتين إن وقفتا معًا مع الأولاد والعائلات والأمّهات ضدّ الجناة والمتستّرين. فالصحافيّون ليسوا الجناة أو المتستّرين على الاستغلال الجنسيّ، بل هم كاشفو جرائم الاعتداء الجنسيّ للرأي العامّ! وعليه، التواصل واجب، ومن دونه، يصير المسؤول متواطئًا مع الجاني وزارعًا للشكّ والغضب والكراهية في الكنيسة، معرّضًا الأولاد والقاصرين وأهاليهم لجرائم مماثلة. وحثّت المسؤولين الكنسيّين على أن يأخذوا المبادرة ويفصحوا عمّا يعرفونه في خطوة استباقيّة، وألاّ ينتظروا أسئلة الصحافيّين المشروعة. في الأخير، قدّمت ثلاثة اقتراحات عمليّة لمعالجة هذه المسألة ولإعادة الاحترام والمصداقيّة إلى الكنيسة: (1) أن تضع الكنيسة الضحايا في أعلى سلّم أولويّاتها؛ (2) أن يتقبّل الأساقفة والمسؤولون الكنسيّون النصائح من أصحاب المعرفة والخبرة؛ و(3) أن يمتهن المسؤولون الكنسيّون التواصل على المستويات كافّة، من أصغر رعيّة صعودًا إلى الدوائر الفاتيكانيّة كافّة.
وفي اليوم الرابع والأخير للقاء، كانت للبابا فرنسيس كلمة ختاميّة شدّد فيها على أنّ آفة الاعتداء الجنسيّ على القاصرين منتشرة في جميع المجتمعات حول العالم، وأنّ معظمها يتمّ داخل الأسرة أو من قبل أشخاص معروفين أو مقرّبين منها، وأنّ مسرح العنف هو الحيّ والمدرسة والرياضة والكنيسة. واعتبر البابا «أنّ صدى صرخة الصغار المكتومة، والذين بدلاً من أن يجدوا في هؤلاء آباء ومرشدين روحيّين، قد وجدوا جلاّدين، قلوبهم مخدّرة بالنفاق وبشهوة السلطة. من واجبنا أن نصغي باهتمام إلى هذه الصرخة الصامتة والمكتومة». وأكّد البابا أنّ اللجنة البابويّة لحماية القاصرين ستركّز على الأبعاد التالية: 1. «حماية الأطفال» ومنع وقوعهم ضحيّة لأيّ اعتداء جسديّ ونفسيّ؛ 2. «جدّيّة لا تشوبها شائبة» أكان من ناحية تسليم المرتكبين إلى العدالة أم عدم تغطية أيّة حالة أم حتّى التقليل من شأنها؛ 3. «تطهير حقيقيّ» للجسم الكهنوتيّ والاستفادة من الخبراء حول كيفيّة حماية الأطفال واتّهام الذات، أفرادًا وجماعات ومؤسّسات، قبل الآخرين؛ 4. «الوقاية» عبر اختيار مرشّحين مناسبين للكهنوت، متوازنين أخلاقيًّا ونفسيًّا وجسديًّا؛ 5. «تعزيز المبادئ التوجيهيّة للمجالس الأسقفيّة والتحقّق منها» وذلك عبر تطبيق المعايير وعدم التستّر على أيّ اعتداء أو الاستهانة به؛ 6. «مرافقة الضحايا» والاستعانة بالخبراء وتقديم الدعم من طريق الإصغاء بهدف شفاء جروحهم التي تنتج حقدًا وتدميرًا ذاتيًّا؛ 7. «العالم الرقميّ» الذي يشكّل ميدانًا جديدًا للاعتداءات الجنسيّة والاستغلال والإدمان على الإباحيّة؛ و8. «السياحة الجنسيّة» ومكافحتها من طريق السلطات الحكوميّة والملاحقة القانونيّة للمجرمين الذين يستغلّون النساء والقاصرين والأطفال الذين هم بحاجة إلى حماية واهتمام واندماج.
خاتمة
شكّل لقاء الفاتيكان حول «حماية القاصرين في الكنيسة» نقطة تحوّل رئيسة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة المعاصر ووجدانها، إذ جعل قادتها، وبشكل مجمعيّ، يعيدون التفكير علنًا في مقاربتهم للكنيسة وعملها بشكل عامّ، وفي إدراكهم عمق المأساة والضرر الناتجين من الاستغلال الجنسيّ للقاصرين بشكل خاصّ. وعليه، بالإمكان القول إنّ ذهنيّة الكنيسة وأولويّتها تحوّلتا من حماية المؤسّسة إلى حماية الضعفاء وفي مقدّمتهم الأطفال والقاصرون. ربّما لم ينجح اللقاء في تبنّي سياسة «صفر تسامح» كما سبق وتمنّى البابا فرنسيس، أو في وضع إجراءات واضحة وعمليّة وصارمة كما تمنّى الكثيرون، إلاّ أنّ الكلمات والتأمّلات والشهادات التي تُليت في لقاء الفاتيكان بَلورت الصورة حول مبدئيّة معالجة هذه الآفة-الجريمة بصفة نهائيّة. أُعلِن في ٩ أيّار 2019 عن «براءة باباويّة» بعنوان «أنتم نور العالم» تتضمّن قرارات مهمّة جدًّا ومُلزمة لجميع الإكليريكيّين وأعضاء الرهبنات تقتضي بإبلاغ السلطات الكنسيّة حول أيّة حالة استغلال جنسيّ يقوم بها إكليريكيّ حتَّى لوكان المتّهم أسقفًا أو كاردينالاً، رذلك ابتداء من ١ حزيران ٢٠١٩. التوعية والتدريب والتربية والتنشئة لا تكفي وحدها لحسن سير الأمور في الكنيسة، بل يجب أن تترافق جميعها مع تطبيق لا لبس فيه للقوانين والشرائع المدنيّة والكنسيّة، بمسؤوليّة وشفافيّة ومصداقيّة، وبعيدًا عن أيّ شكل من أشكال التستّر والنكران والتهاون والتجاهل والانتقام. في الأخير، قد تكون أسباب أزمة الاعتداءات الجنسيّة على القاصرين في الكنائس ومؤسّساتها قديمة ومتشّعبة، إلاّ أنّ معالجتها ليست بالمستحيلة إن توفّرت النيّة الجدّيّة والقرارات العمليّة والشراكة بين جميع أعضاء الكنيسة والمجتمع من علمانيّين وإكليريكيّين وسلطات قضائيّة ومؤسّسات صحافيّة واجتماعيّة، بهدف وضع إجراءات شفّافة يمكن تطبيقها تتعلّق بآليّة التحقيق والمحاكمة والمساءلة والمحاسبة والقضاء والأحكام والتحرّر من الخوف والفساد. كما لا بدّ من الاستفادة، على المستوى الكنسيّ، من علوم العصر المتعلّقة بالقيادة والإدارة وعلم النفس وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد! في الأخير، إن كان «جوهر رسالة الكنيسة هو إعلان الإنجيل للصغار وحمايتهم من الذئاب المفترسة» كما شدّد البابا فرنسيس في ختام اللقاء الفاتيكانيّ، فتحذير الربّ من العواقب الأبديّة يصدح كلّ يوم في آذان الذين يقرأون الكتاب ويفهمونه، وهو الذي قال: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى 25: 40).n