2019

5. دراسة لاهوتيّة - أثر يسوع الناصريّ ٣/٣ - أسعد إلياس قطّان – العدد الثالث سنة 2019

أثر يسوع الناصريّ في التاريخ

 

أسعد قطّان

 

الأثر المجتمعيّ

هل ثمّة أثر ليسوع الناصريّ وللمسيحيّة عمومًا في تشكّل المجتمعات الحديثة؟ يرى اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ أوليڤييه كليمان (1921-2009) أنّ الانتقال الذي شهدته الحضارة الغربيّة في القرن السابع عشر من مقاربة تأمّليّة (contemplative) إلى مقاربة أداتيّة (instrumentale) للوجود ما كان ليتحقّق لولا المسيحيّة. فالكتاب المقدّس وضع أسس التمييز بين الخالق والمخلوق وقال بالمسافة بينهما، ما أدّى إلى نزع الطابع الميثولوجيّ عن الكون. ويتقاطع هذا مع رفض الناصريّ اعتبار المرض عقابًا إلهيًّا، وتمييزه بين ملكوت الله ومملكة قيصر، وفتحه آفاق الحرّيّة الإنسانيّة عبر احترامه حرّيّة صالبيه.

غير أنّ بصمة المسيحيّة هذه على الحضارة الحديثة لم تَحُل دون إيغال الأخيرة في إطلاق العنان للحرّيّة الفرديّة بالاستقلال عن الله. أمّا التشديد المفرط على الاختلاف بين الخالق والمخلوق، فقد انقلب جعلاً للكون ميدانًا للبحث العلميّ إلى درجة التسلّط. وعند كليمان أنّ هذا أتى كردّ فعل على أخطاء المسيحيّة التاريخيّة، التي قمعت الحرّيّة الفكريّة وحاولت إقامة مجتمع دينيٍّ يتغذّى من كراهية الآخر المختلف كالهرطوقيّ واليهوديّ والمسلم.... ويرصد كليمان في هذا الإطار، بالإضافة إلى بعض الانحرافات في اللاهوت، تراجع مفهوم قيامة المسيح ذات الطابع الكونيّ، وانطمار فكرة القوى الإلهيّة التي تضبط الكون وتقدّسه، وذلك بعد سقوط القسطنطينيّة العام 1453، ما استتبع عدم تمكّنها من تلقيح الفكر الإنسانيّ الحديث.

إذا كانت الملاحظات التي يوردها كليمان صحيحة، فإنّ أثر المسيحيّة في نشأة المجتمع الحديث مزدوج الطابع. فلئن تأسّست الحداثة على نقد المسيحيّة خصوصًا لدى فلاسفة عصر التنوير، إلاّ أنّ هذه أسهمت أيضًا في وضع بعض أبرز مداميك الحضارة الحديثة. فالقدّيس أوغسطينوس (354-430)، مثلاً، يدفع بالتمييز اللاهوتيّ بين الخالق والمخلوق، الذي يشير إليه كليمان، في اتّجاه نزع صفة القدسيّة عن الموجود. والحقّ أنّ البروتستانتيّة صعّدت هذا التوجّه الأوغسطينيّ عبر ثورتها على الأسراريّة الكاثوليكيّة المفرطة في التعامل مع المادّة، ما يظهر أنّه صبّ في انبلاج عصر التقنيّة في الغرب على نحو لم تشهده الحضارات الأخرى. ولعلّ هذا رفدته ظاهرة تثمين التطوّر التقنيّ التي لم تخلُ منها بعض الأوساط الكنسيّة في القرون الوسطى. يضاف إلى ذلك أنّ حركة الإصلاح شدّدت على حرّيّة الفرد في قراءة الكتب المقدّسة وتفسيرها مكرّسةً ضربًا من «فردانيّة» في القراءة ساهمت في تشكّل النموذج الديمقراطيّ الحديث، الذي ينطلق من حرّيّة الفرد في تبنّي الخيارات السياسيّة. وقد بيّن عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920) أنّ البروتستانتيّة، في وجهها الكالفينيّ، كانت واحدًا من العوامل التي أسّست لتولّد الروح الرأسماليّة. ولا يُستبعد أن يكون ما شهدته أوروبّا في القرون الوسطى من صراع على السلطة الزمنيّة بين الكنيسة والقيصر قد هيّأ القارّة القديمة للفصل بين المجتمع والدين، هذا الفصل الذي أتى محكومًا بخبرة الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت.

ينتج من هذا أنّ العلاقة بين الحداثة والمسيحيّة علاقة ملتبسة. فالأولى، ولا شكّ، اتّخذت مسافةً واضحةً من الثانية أفصح عنها خصوصًا الفكر التنويريّ الفرنسيّ، الذي أمعن في انتقاد العمارة العقيديّة المسيحيّة. ولكنّ هذا النقد بالذات يوحي بتموضع الحداثة الأوروبّيّة في إطار ثقافيٍّ واجتماعيٍّ مطبوع بالمسيحيّة حتّى إنّه أسهم، في بعض وجوهه، في إطلاق المشروع الحداثيّ. حيال ذلك، ليس بمستغرب أن نجد أنّ المناخ الفكريّ الذي صاحب وضع شرعة حقوق الإنسان يمهره ختم المسيحيّة البروتستانتيّة، وذلك بصرف النظر عن مدى تعبير هذه الشرعة عن حقائق إنسانيّة عامّة تتجاوز الأديان عمومًا، والمسيحيّة بخاصّة.

خلاصة

الإشارة إلى دور المسيحيّة في إنتاج المجتمع الحديث لا يُستنتج منه أنّها اليوم في صلح تامّ مع الحداثة. فلئن نجحت المسيحيّة في استيعاب بعض العناصر الحداثيّة كالحرّيّة الفرديّة والديمقراطيّة والمساواة بين الرجل والمرأة، وهو استيعاب تختلف نسبته باختلاف الأمكنة والجماعات، إلاّ أنّها لا تزال في ضيق مع كثير ممّا أنتجته الحداثة، وخصوصًا مع نزعتها النقديّة الصارمة وميلها إلى مساءلة الموروث مساءلةً جذريّة. إنّ علاقة المسيحيّة الملتبسة بالحداثة تحيلنا إلى وجه آخر من وجوه الإشكاليّة التي حاولنا هنا تلمّس بعض معالمها، أي أثر يسوع في التاريخ. إذ ما معنى أن تشترك المسيحيّة في «المسؤوليّة» عن نشوء الحداثة لا من حيث الطرح اللاهوتيّ فحسب، بل أيضًا بالنظر إلى الانحراف الفكريّ وسلبيّات الممارسة التاريخيّة؟ وإذا كان من المستحيل، كما أشرنا إليه بدءًا، الفصل بين شخص يسوع والجماعة المسيحيّة، فهل يعيننا التمييز بين المعطى الإنجيليّ، كما يتجلّى في صلب يسوع وقيامته، والمسيحيّة كما مورست عبر التاريخ على تلمّس أدقّ لوجه يسوع في خضمّ المادّة التاريخيّة؟ الرهان الذي يتأتّى من أسئلة كهذه لا يخصّ الماضيات فحسب، بل الآتيات أيضًا. فالمقاربة التاريخيّة، أيًّا تكن منطلقاتها وأدواتها المنهجيّة، على قدر ما تستجلي غوابر الأحداث، تشترك أيضًا في تشكيل المستقبل..n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search