2019

3. مسيحانيّات - المسيح إنسان كامل - الأب ميخائيل (الدبس) – العدد الثالث سنة 2019

المسيح إنسان كامل

الأب ميخائيل الدبس

 

حجر عثرة.

شكّلت، ولا تزال، حقيقة التجسّد، أي حقيقة اتّحاد الإله الكلمة غير المخلوق بالطبيعة الإنسانيّة المخلوقة، ميدانًا واسعًا لجدل لاهوتيّ، وشرّعت أبوابًا لبدعٍ مختلفة لا تزال كنيستنا تعاني منها. كانت هذه الحقيقة ككاشفها، يسوع المسيح، حجر عثرة في دروب المسيرة البشريّة وفكرها وتحدّيًا لها، لكونها تتطلّب، لقبولها، خلع عتاقة فكريّة ومسلكيّة عند إنسانٍ يصرّ، لا قولًا فحسب بل فعلًا أيضًا، على عدم إمكان تلاقي الإلهيّ بالمادّيّ. كيف يمكن لله أن يقترن بالإنسان في شخصٍ واحد؟ كيف للَّه غير المحدود، غير المحسوس وغير المعقول أن يحلّ في طبيعة البشر المحدودة والمحسوسة وأن يحدّ تفكيره البشريّ بقدرات العقل البشريّ وهو المالك كلَّ المعارف وأصل وجودها؟ كيف له أن يحمل طبيعتنا المائتة وهو الذي لم يعرف الخطيئة التي بها دخل الموت إليها؟ «وبالخطيئة دخل الموت» (رومية 5،12).

منطلق البدع.

منطلق البدع التي شوّهت حقيقة التجسّد هو موقف حياتيّ مسلكيّ ذو وجه فكريّ فلسفيّ. الإنسان يرتاح لقدر محدَّد له من «فوق»، أيًّا يكن هذا «الفوق»، أكان آلهة وثنيّة لا تبغي إلّا هناءها وراحتها على حساب الإنسان، أم كان إلهًا قويًّا كلّيّ القدرة لا تقف في وجه إرادته إرادة، أو كان إلهًا محبًّا مدلِّلاً يُؤمَنُ له، وهو لا يريد للإنسان إلّا الخير والسعادة. وفي كلّ الأحوال لا محلّ للإرادة البشريّة في تحديد أيّ مصير أو إنجاز، ولن يصيب الإنسان إلّا ما قدّره اللَّه له مع ما يستتبع هذا الفكر من مناقبيّة غير مسؤولة.

لهذا الموقف المسلكيّ وجهٌ فكريّ فلسفيّ مفاده أنّ طبيعتَين كاملتَين (إلهيّة وإنسانيّة) لا يمكنهما أن تتّحدا في شخصٍ واحد (يسوع المسيح)، إمّا أن يكون الاتّحاد غير كاملٍ بينهما أو أن تكون إحدى الطبيعتَين غير كاملة. أراد الفكر البشريّ أن يخضع الحقائق الإلهيّة - الثالوث والتجسّد - لهذه المعادلة فرأى البعض الحلّ في الانتقاص من الطبيعة الإلهيّة في شخص يسوع الواحد (آريوس وإفنوميوس)، ورآه الآخر في الانتقاص من الطبيعة الإنسانيّة فيه (أبوليناريوس). لجأ البعض إلى شطر المسيح إلى شخصَين إلهيّ كامل وإنسانيّ كامل (نسطوريوس)، فحفظ كمال الطبيعتَين على حساب الاتّحاد الكامل بين الطبيعتين. كما ارتأى البعض الآخر أن يقرّ بطبيعتَين كاملتين معتبرًا أنّ الطبيعة الإلهيّة طغت على مثيلتها البشريّة «وارتشفتها» فغدت الأخيرة شبه غائبة (أوطيخا). كان الإصرار على الانتقاص من  طبيعة المسيح الإنسانيّة أكثر منه عليه من طبيعة المسيح الإلهيّة. منهم من اعتقد أنّ الابن الإله الكلمة إنسانًا من دون نفس بشريّة، وآخرون من دون عقل بشريّ وآخرون من دون إرادة بشريّة، لاعتقادهم أنّ هذا هو الحلّ التساوُمِيّ الوحيد لحلّ معضلتهم الفكريّة والمحافظة على سلامة التدبير الخلاصيّ.

منطلق الكنيسة.

رفضت الكنيسة كلّ هذه المقاربات الفلسفيّة وأصرّت على أنّ اللَّه صار إنسانًا كاملًا وأخذ طبيعتنا البشريّة كاملةً من دون نقصان، وأنّ الاتّحاد بين الطبيعتين هو اتّحاد كامل في شخص المسيح الواحد، وأنّ أيّ مساس في وحدة شخص المسيح أو في كمال إحدى طبيعتَيه يهدم خلاص الإنسان ودعوته إلى التألّه. وبهذا تكون الكنيسة قد أقصت، من جهة، كلّ فكريّ قَدَرِيّ، إذ اعتبرت أنّ التدبير الإلهيّ تحقّق عبر الإله- الإنسان يسوع المسيح وأنّ الإنسان بكلّ مكوّناته، شريك لله في بلوغ مصيره الإلهيّ عبر تآزره الإراديّ الحرّ مع اللَّه، ومن جهة أخرى، أكّدت أنّ الخلاص يطال كلّ أوجه الحياة البشريّة.

مخاطر خلاصيّة.

المخاطر الخلاصيّة الناجمة عن المساس بناسوت المسيح لا تقلّ شأنًا عن مثيلاتها الناجمة عن المساس بألوهة المسيح. غالبّا يتحرّك حماسنا التقويّ للدفاع عن شخص المسيح عند المساس بألوهته، وهذا مبارك، ولكن من غير المقبول ألّا نستشعر مساسًا بطبيعته الإنسانيّة، وهذا واقعٌ فعلًا في أوساطنا، وأن نبقى لامبالين في مواجهة أيّ مساس يطال طبيعته الإنسانيّة. وهذه اللامبالاة انعكاس لقناعة دفينة في دواخلنا وعقولنا ترفض إمكانيّة التلاحم والتناغم الكاملَين بين اللَّه والإنسان. هذه هي العتاقة المعشعشة فينا والتي علينا أن نجاهد لاقتلاعها.

المخاطر الخلاصيّة لكلا المساسَين هي عينها: عدم الاتّحاد الكامل بين طبيعتنا البشريّة الكاملة والطبيعة الإلهيّة الكاملة وتاليًا، عدم تحقيق الخلاص. تلقيح طبيعتنا البشريّة بالطبيعة الإلهيّة لاينجح ولا يُثمر إلّا إذا حافظت كلتا الطبيعتَين على مجمل خواصّهما كاملَين. «لم يأتِ اللَّه إلى الإنسان فحسب بل صار إنسانًا»، يقول القدّيس أثناسيوس الكبير في مؤلّفه «ضدّ الآريوسيّين»، «ومن اتّحد باللَّه فذاك يخلص» يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ في رسالته إلى كليذوبيوس، في سياق دفاعه عن كمال طبيعة المسيح الإنسانيّة. شكّلت هذه الأقوال العنصر الأساس في لاهوت آبائنا القدّيسين إيريناوس، أثناسيوس، الآباء الكبادوكيّين، كيرلّس الإسكندرانيّ ومكسيموس المعترف.

تردّدات البدع

في أوساطنا الأرثوذكسيّة.

يخطئ من يعتقد أنّ هذه المسألة اللاهوتيّة الخلاصيّة قد انتهت. لا تزال طبيعة المسيح البشريّة تتعرّض للانتقاص، حتّى عند بعض الأرثوذكسيّين. ما انتهت إليه الكنيسة، في هذا الشأن، هو صياغة لاهوتيّة واضحة ونهائيّة، وما لم ينته بعد هو تردّدات البدع المذكورة وأصداؤها في حياة المؤمنين وممارساتِهم وحتّى كتاباتهم.

هل يقرّ الجميع أنّ الابن الكلمة أخذ طبيعتنا بمحدوديّتها وضعفها وقابليّتها الموت، وأنّه أراد أن يُقرن لامحدوديّته الإلهيّة بمحدوديّتنا الإنسانيّة وأن يختبرها فعلًا لا ترفًا؟ هل يقرّ الجميع أنّ طبيعة المسيح الإنساتيّة كانت قابلةً الخطيئة لكونها تملك إرادة بشريّة كاملة وحرّة، من دون أن تؤدّي هذه القابليّة، حكمًا، إلى سقوط يسوع  في الخطيئة؟ هل ندرك أنّ عدم وقوع يسوع تحت نير الخطيئة لم يكن فعلّا إلهيًّا خارقّا فحسب، بل هو فعلٌ إراديّ إنسانيّ جاء نتيجة جهاده كإنسان وتآزره الكامل مع الله؟ بهذا يكون المسيح نموذجًا للنسك المسيحيّ، لآدم الجديد الذي أصلح سقطة آدم الأوّل الذي شطر إنسانيّته عن اللَّه. هل نقبل أنّ مدارك المسيح العقليّة، كإنسان حقيقيّ، كانت محدودة بمعطيات عصره العلميّة وأنّ هذه المحدوديّة العقلانيّة لا تشكّل إهانة لألوهته أو انتقاصًا من قدرها أو عائقًا أمام تدبيره الخلاصيّ، لكونه قادرًا، كإله، أن يتخطّاها عند الضرورة من دون أن يلغيَها؟

كمثل محدّد لما نقول، هل معرفة يسوع، كإنسان في عصره، أنّ الشمس تدور حول الأرض وليس العكس إهانة لالوهة يسوع وانتقاص لقدرها؟ هل تعيق تدبيره الخلاصيّ؟ لقد ارتضى اللَّه، بلا محدوديّته وحنانه، أن يُحَدَّ نتيجة تجسّده ولكنّه قادر على ألّا يبقى أسير هذه المحدوديّة كما ارتضى أن يتخطّى لامحدوديّته. هذا التناوب بين محدوديّته ولامحدوديّته يقرّ إيقاعَه شخص يسوع المسيح الإله الإنسان من دون أن يلغيَ أيًّا منهما وعلى حسب مقتضيات التدبير الإلهي ومتطلّباته. هذا ما عبّر عنه آباؤنا القدّيسون بعبارة «توكيل المزايا» بين الطبيعتَين في شخصه الواحد بالتآزر والتناغم من دون امتزاج أو انفصال أو تشوّش أو تعارض بينهما.

المزايا الإلهيّة لا تبتلع المزايا الإنسانيّة أو «ترتشفها» أو تلغيها بل تقدّسها وتطلقها في رحاب الألوهة والمجد الإلهيّ. هذا ما حقّقه الله عبر تجسّده أثناء حياته الزمنيّة، فقد كان يتخطّى طبيعته الإلهيّة ليختبرَ مزايا الطبيعة الإنسانيّة وضعفاتها (الجوع- العطش- الغضب- الألم- الدموع- الحزن- الفرح- التخلّي- الشهوة وغيرها من الأهواء غير المعابة)، ويجاهد حتّى لا تكون هذه معبرًا للسقوط في الخطيئة. وكان بهذا الجهاد نموذجًا لنا. وكان به يتذوّق الصليب قبل بلوغه إليه على الجلجلة. كما كان يتخطّى طبيعته الإنسانيّة، من دون أن يلغيَها ليكون الصانع العجائب خدمةً لتدبيره الخلاصيّ. فكان، بهذا، يتلقّى لفحات من فرح القيامة والنصر على قوى الشرّ قبل بلوغه يوم القيامة المجيدة.

      هذا هو مفهومنا للعجائب، تذوّقٌ لعالم القيامة والملكوت. المسيح كان إنسانًا كاملًا صانعًا للعجائب ولم يكن البتّة إنسانًا خارقًا. الأعاجيب هادفة، تجدّد اللطبيعة البشريّة لتطلقَها في اللامحدوديّة الإلهيّة، في شركة مع اللَّه. أمّا الخوارق فلا هدف لها ولا تبدّل شيئًا في الإنسان ولا تقدّسه.

وتبقى الإشكاليّة في حقيقة التجسّد: هل اتّخذ اللَّه، بالتجسّد، الطبيعة البشريّة الساقطة أي الحالة البشريّة التي كان عليها الإنسان بعد السقوط أم الطبيعة البشريّة لما قبل السقوط؟ هل كانت طبيعته البشريّة قابلة للموت؟

ما نقوله ليس ترفًا فكريًّا أو لغوًا بشريًّا. إنّه امتداد لما قاله آباؤنا بغية المحافظة على خلاصٍ أراده اللَّه لنا عبر تجسّده، وصونٌ لسلوك مسيحيّ يترجم صحّة العقيدة وأبعادها الخلاصيّة في حياتنا ويبعدنا عن أصنامٍ إلهيّة من صنع أيدي البشر. ما نقوله تذكير بمحبّة اللَّه لنا، محبّة انكشفت لنا عبر مشاركته في طبيعتنا البشريّة واختباره لألم محدوديّتنا وخيباتها بغية تحريرنا منها وإطلاقنا في سماء مجد اللَّه.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search