الفصح تربية مستدامة
النور
في فترة الفصح، يتفقّد الراعي العائلات المحزونة التي فقدت أحد أفرادها بالوفاة، فتكون زيارته محاولة لبثّ فرح الفصح في قلوب أبنائه. التفاتة رعائيّة مميّزة، وعلى كلّ راعٍ ألاّ يفوّتها، لما تتركه من أثر بالغ في نفوس المحزونين والمضنوكين. لا يتمّ بثّ فرح الفصح في نفوس المحزونين، تحديدًا، والمؤمنين، بعامّة، إلاّ عبر فعل رعائيّ تربويّ مستمرّ يرافق أبناءنا خلال رعايتنا لهم. كلّ الزيارات والكلمات والترانيم الفصحيّة، على روعتها وغناها، تبقى بعيدة عن قلوبهم ولا تمسّ إلاّ حواسّهم لتدغدغها لحين، وتبرز دمعًا من عيونهم التي ما اشتاقت إلى الدمع أكثر ممّا اشتاقت إلى وجه حبيب غيّبه الموت عنهم.
أن تبثّ الفرح في قلوب المحزونين يعني أن تدرك، أوّلاّ، هذا الفرح وتنقّي مضمونه من الزؤان الذي نبت فيه نتيجة سيطرة فرح هذا العالم على الفرح الفصحيّ. في إيماننا كلّ فرح غير فصحيّ زائل وكلّ تعزية لا تأتي من لدن أبي الأنوار وهم. «أنتم الآن تحزنون، ولكنّي سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح» (يوحنّا 16: 22). المسيح الناهض من بين الأموات والعائد إلينا، عبر محبّيه، هو وحده المعزّي والمفرح. فلنجتهد لنكون من محبّيه.
هذا الفرح الفصحيّ لا يُقتنى في لحظات الضنك والغمّ. هو نهج حياة لا بدّ للمؤمن من أن يتمرّس عليه نتيجة تربية فصحيّة ترافقه مجمل سني حياته، لتكون له زادًا يستثمره ويفعّله وقت الحزن واللوعة. الشعور بفرح الفصح يسبقه صليب. الفرح المستسهَل الآتي من الحواسّ اللحميّة الاستهلاكيّة هو فرح مؤسّس على الرمل. الصليب صورة عن ألم لا بدّ من أن يصيبك نتيجة خيارك الطوعيّ بالجهاد ضدّ الشرّ الذي فيك وفي الآخرين. الفرح الفصحيّ والجهاد الصليبيّ متلازمان. المستسلم لأهوائه وشروره والصامت على شرور الآخر، لا يمكنه إدراك الفرح الفصحيّ وعيشه ونقله إلى الآخر وبثّ التعزية في من حوله من المحزونين.
التربية الفصحيّة جهاديّة. ليست استسلاميّة وتجهيليّة. هي لا تشكر اللَّه على بلاياه! شكر كهذا هو تدمير لقوّة جهاديّة زرعها اللَّه في الإنسان ليوجّهها ضدّ مصدر البلايا، أعني إبليس ومن هم في معسكره. الشكر للَّه، وقت البليّة والألم والحزن، هو لكونه شريكًا معنا في بلايا الشرّير التي تصيبنا، لكونه سبق أن كان، وهو دومًا، ضحيّة لها على الصليب. إنّ أصعب ما يشعر به المحزون هو شعور المغلوبيّة التي لا يمكنه، أمامها، إلاّ الخنوع لإرادة أبشع ما فيها أنّها تنعت بـ «الإلهيّة». لماذا نريد أن نرمي المحزون في أحضان إرادة قدَريّة ليس له أمامها لا حول ولا قوّة، ولا نرميه في أحضان إله صلب ومات وقام ليعطيَه القوّة على النهوض ومقارعة أهمّ عدوّ للبشريّة أعني الموت، «لكي يبطِل بموته من كان له سلطان الموت أي إبليس» (عبرانيّين 2: 14).
ترتكز التربية الفصحيّة على نشر تعليم ثابت وواضح حول الحياة والموت، تعليم يجعل اللَّه، لكونه الخالق، مصدر الحياة بكلّ أوجهها. ويجعل الشيطان، وكلّ من استسلم له إراديًّا، مصدر الموت بكلّ أوجهه. التربية الفصحيّة تناهض كلّ الأفكار والعادات والأقاويل الشعبيّة التي أُلبست، للأسف، ثوبًا دينيًّا وهي مناقضة لتعليم الكتاب عن الموت والحياة، كمقولة «اللَّه يبلي ويعين».
على الفرح الفصحيّ، الناجم من تربية فصحيّة مستدامة، أن يتخطّى البعد الشخصيّ إلى أفق الجماعة. كلّ الترانيم الفصحيّة مزيّنة بضمير الجمع، و«أنا» غائب عنها. هذا لا يعني إقصاءً للبعد الشخصيّ، فهذا الأخير هو المنطلق لكونه المحرّك الأوّل والوحيد للمحبّة التي تصبّ في الجماعة. الفرح والمحبّة متلازمان أبدًا. على الكنيسة أن تكون جماعة فصحيّة، حقل عربون للفرح الأبديّ، بداءة تذوّق لفرح الملكوت الآتي. هذا ما يجب أن يحفّز الكنيسة لإطلاق نشاطات ومشاريع ومؤسّسات تبرز وجهها الفصحيّ. إذا لم تكن أعمال الرحمة والبذل والتضحية دستورًا لمشاريع الكنيسة ومؤسّساتها فباطلاً تصدح معابدنا بترانيم الفصح.
إلى كلّ المحزونين من إخوتنا، عذرًا إن قصّرنا في أن نتمرّس وإيّاكم، خلال سني عمرنا، على الفرح الفصحيّ. عذرًا لأنّنا لا نعزّي بعضنا بعضًا إلاّ في أوقات الموت ولم نبرز لكم، في تعليمنا وحياتنا، وجه المسيح الحياة، المسيح الرحمة، المسيح البذل والمسيح القوّة. عذرًا لأنّنا لم نزوّدكم بهذا المسيح ليكون لكم التعزية الوحيدة في وجه ظلمة القبر وقهره.n