المسيح الإله الكامل
الأب ميخائيل الدبس
مقدّمة
يخال إليك، أمام هذا العنوان، أنّ الكاتب سيدخل عالم البراهين، ورصف الآيات الكتابيّة والأقوال الآبائيّة في مسعى دفاعيّ تجاه من يشكّك في ألوهة الابن، وتاليًا ألوهة يسوع المسيح. أعتقد أنّ هذا الجدل الدفاعيّ، على أهمّيّته في بعض الأحيان، لن يؤتي أُكله في إقناع رافضِ ألوهةِ الابنِ ولن يزيد، من جهةٍ، مقدار ذرّة على ما دُوّن في هذا الخصوص على مرّ القرون، ومن جهة أخرى، من قناعة القابلين لهذه الألوهة قبولًا فيه الكثير من النشوة الفكريّة، والحذاقة العقليّة والعُجب النرجسيّ والقليل من الالتزام الإيمانيّ الحاضن لكلّ أوجه الحياة الإنسانيّة. ما نبغيه من هذه الأسطر تبيان البعد الإنسانيّ لا البعد الإلهيّ لألوهة المسيح، أي انعكاس ألوهة المسيح على الإنسان ومصيره وعلاقته مع اللَّه ومع الإنسان الآخر، فردًا وجماعةً. قناعةً منّا بأنّ «التديّن» غايته ارتقاء الإنسان لا الإله إلى الإنسانيّة التي دعاه خالقه إلى بلوغها.
الحقيقة تعليمٌ أو حياة؟
«الكلمة هو اللَّه» (يوحنّا ١: ١). «الكلمة صار جسدًا فسكن فينا فرأينا مجده مجد الابن الوحيد الذي أتى من لدن الآب» (يوحنّا ١: ١٤).
نقرأ، عبر هذه الكلمات الإنجيليّة، حقيقتين لا قيام للمسيحيّة دونهما: حقيقة الثالوث وحقيقة التجسّد. والمسيحيّة ليست تعليمًا بل هي المسيح عينه لأنّ فيه تتجسّد هاتان الحقيقتان. والمسيح «هو الحياة لكلّ موجود» (يوحنّا ٤: ١). هذه الحياة هي حياة إلهيّة المنشأ والطبع والفعل، «لأنّ الحياة تجلّت فرأيناها ونشهد لها ونبشّركم بتلك الحياة الأبديّة التي كانت عند الآب فتراءت لنا ذاك الذي رأيناه وسمعناه» (١يوحنّا:2- 3). هنا ندرك أنّ أيّ مساس بشخص يسوع المسيح أو جهل به إنّما يمسّ بحقيقة الكشف الإلهيّ ويشوّه معرفتنا للحياة الإلهيّة بأبعادها الخلاصيّة التي دُعينا إلى التمثّل بها، «لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا» (تكوين ٢٦: ١).
المسيح والكشف الإلهيّ
الحقيقة الأولى التي سنتأمّل بها عبر هذه الأسطر هي أنّ المسيح هو الإله الكامل وهو الوحيد، بكونه هكذا، القادر على أن يكشف لنا الحياة الإلهيّة: حياة الشركة بين الآب والابن والروح القدس، لأنّه عضو كامل وطبيعيّ في هذا المجتمع الإلهيّ الذي نسمّيه «الثالوث القدّوس». وحده يسوع المسيح القادر على أن يعرّفنا إلى نموذج الحبّ الثالوثيّ الأوّل، لأنّه يجمع في شخصه شركتَه الإنسانيّة مع البشر، عبر تجسّده، وشركته الإلهيّة مع الثالوث، كأحد أقانيمه. لذا نحن نتكلّم، في المسيحيّة، على كشف إلهيّ مباشر وليس بالواسطة. نتكلّم على «اكتمال الأزمنة»، على «ملء الحقيقة» بيسوع المسيح الابن المتجسّد الذي «رأيناه وسمعناه».
تعتبر صلاة يسوع الكهنوتيّة (يوحنّا 17) من أهمّ نصوص الوحي الإلهيّ التي تكشف دور يسوع المسيح في الكشف الإلهيّ وغاية اللَّه من هذا الكشف. هي صلاة مفعمة بحقائق إلهيّة محورها علاقة الآب بالابن وعلاقة الإنسان بالابن وعبره بالآب. الملاحظ فيها أنّ لكلّ وجه من أوجه العلاقة بين الآب والابن بعدًا نموذجّيًّا لعلاقة اللَّه بالإنسان، من جهة، وعلاقة الإنسان بالإنسان الآخر، من جهة أخرى: «لأنّ الكلام الذي بلّغتَنيه بلّغتُهم أيّاه»(7) «المجد الذي أوليتَني أوليتُهم إيّاه ليكونوا واحدًا كما نحن واحد» (22)، «وإنّي أحببتهم كما أحببتني» (23)، «لتكون فيهم المحبّة التي إيّاها أحببتني» (36).
غاية الكشف الإلهيّ
كلّ كشف إلهيّ غايته الإنسان. انفتاح اللَّه علينا عبر الكشف الإلهيّ مآله شركة بين الإنسان والحياة الإلهيّة، وبعبارة أوضح، تأليه الإنسان بحسب تعبير تراثنا الآبائيّ الشرقيّ. إنّه دعوة إلى تفعيل حقائق هذا الكشف في حياة البشر. نخطئ في اعتقادنا أنّ اللَّه يكشف لنا أمورًا تتعلّق به لنتعلّمها ونحشوَ عقولنا بها ونتفلسف حولها ونسمّيها «ماورائيّات». في الأصل لم يعتد تراثنا الشرقيّ على استعمال هذه الكلمة. ليس في قاموس لاهوتنا ما يسمّى «ماورائيّات». كلّ ما كشف لنا إنّما كشف لنحياه لا لنتعلّمه فحسب، لنحياه في هذا العالم وليس لننتقل به إلى ماورائه. حقائق الكشف الإلهيّ بغيتها تلاحم الوجود الإلهيّ مع الوجود الإنسانيّ في عالمنا الحاضر، حضور المجد الإلهيّ في فنائيّة هذا الدهر، إطلاق مخلوقيّة الإنسان ومحدوديّته في لامخلوقيّة اللَّه ولا محدوديّته.
العقيدة وخطر الانحراف عنها
ارتقت الحياة البشريّة، في شخص يسوع المسيح، من مستوى تشريعيّ بشريّ محض إلى مستوى إلهيّ. بكلام أوضح، عليك أن تحبّ الآخر، لا كما يفرضه عليك القانون والمجتمع والمصلحة العامّة فحسب، بل كما يحبّ شخصُ الآب شخصَ الابن. وهذا لن يحصل إن لم تتعرّف إلى الحبّ والوحدة والمساواة التي تجمع الأقانيم الثلاثة وإلى مقوّمات هذه العلاقة وأسسها. وهذه الأخيرة كشفها المسيح لنا بقدر ما تسع طبيعتنا المحدودة، صاغها كتّاب الوحي في الكتاب المقدّس وعاشتها الكنيسة تسليمًا من الرسل حتّى أيّامنا وفسّرها لنا آباء ومجامع عبر ما نسمّيه العقائد. أهمّ هذه العقائد مساواة الآب والابن في الألوهة. التمسّك بهذه المساواة هو الضمانة لاستقامة محبّتنا بعضنا البعض، هو الضمانة لبلوغ غاية الكشف الإلهيّ: القداسة.
لا تشكّل البدعة خطرًا على اللَّه بل خطرًا يصيب إنسانيّتنا. هي تمسّ علاقات البشر في ما بينهم، تقودهم إلى التقاتل والفرقة والتسلّط. الانحرافات العقائديّة تمسّ سلوك البشر، هي انعكاس لانحراف أصاب هذا السلوك ودافع لصنع آلهة على شاكلته يرتاح لها ويتبرّر بها وهذه هي الوثنيّة، «مثلها ليكن صانعوها وجميع المتّكلين عليها».
نموذج الآلهة الإغريقيّة
مجتمع الآلهة عند الإغريق خير دليل على ما نقول، فهو يشكّل مجتمعًا موازيًا للمجتمع البشريّ وشبيهّا به ومن صنعه: رئيس للآلهة وإله لكلّ قطاع من قطاعات حياة البشر. آلهة تتصارع في ما بينها وتستخدم البشر كأدوات لتصفية حساباتها، وعلى البشر الخضوع لقدر أعمى. ونافلة القول التباين الكلّيّ بين مجتمع آلهة الإغريق هذا والمجتمع الإلهيّ الثالوثيّ المحبّ.
هذا التصوّر البشريّ للآلهة عند الإغريق هو صورة عن المجتمع الإغريقيّ المتمثّل بنظام الدولة- المدينة المنغلقة على ذاتها والمتحاربة مع مثيلاتها. وفي موازاة هذا التصوّر البشريّ كان يتنامى فكر فلسفيّ، رأى فيه بعض آباء الكنيسة بذورًا للكلمة الإلهيّة، فكر يدعو إلى التحرّر من الأساطير والآلهة والاعتقاد بكائن إلهيّ أوحد بعيد عن تصوّرات البشر وأساطيرهم. بلغت ذروة هذا الفكر مع أرسطو معلّم الإسكندر وزينون معلّم الرواقيّة، وبدأ العالم يتوحّد سياسيًّا وحتّى حضاريًّا من دون الحاجة إلى إلغاء أحد. وبدأ الكلام على التنوّع والتناغم البشريّ وحتّى الكونيّ. نشوء فكرة وحدة البشر كانت موازية لنشوء التوحيد الإلهيّ بشكله الهلّينيّ، اليهوديّ والمسيحيّ.
خلاصة
إن أنكرت كمال الألوهة في المسيح وجعلته دون الآب، واعترفت بالمحبّة والوحدة اللتين تجمعان الآب والابن وجعلتهما نموذجًا لمحبّتك للإنسان الآخر ووحدتك معه، تكون قد جعلت من الدونيّة أساسًا للمحبّة والوحدة بين البشر، مع ما يستتبع هذا الفكر من شرّ على البشريّة ووحدتها، إذ يجعل من المحبّة مبرّرًا للاستعلاء والاستعباد. وهنا نتفهّم الغيرة التي دافع، عبرها، آباؤنا القدّيسون عن ألوهة المسيح.
اللاهوت ليس دفاعًا عن اللَّه بل هو دفاع عن حياتنا مع اللَّه ومع بعضنا البعض، لا بل هو الحياة عينها كما شاءها اللَّه لنا وكشفها يسوع المسيح. n