2019

1. الافتتاحيّة - مدرسة البداءات - شفيق حيدر – العدد الثاني سنة 2019

مدرسة البداءات

شفيق حيدر

 

عرف الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس، في مستهلّ أربعينيّات القرن الماضي، «هبوبَ رياحٍ عاصفة» (من خدمة العنصرة). لملمَت هذه الرياح نفرًا من الشبّان الأرثوذكسيّين وهم على عتبة التحصيل العالي. جمعَتْهم في بيروت وفي ساحات الجامعات ليعوا أرثوذكسيّتهم.

وفي حمّى احتكاكهم بشباب مؤمنين، انتظم بعضهم في جمعيّات مسيحيّة وتنظيمات شبابيّة، انتبه الأنطاكيّون الآتون من مدن لبنان وسورية إلى هويّتهم الأرثوذكسيّة، وقد ذاقوا لظى الصحراء الأنطاكيّة، وكواهم حرّها ولفحهم هجيرها. ورغم ذلك لم يهجروها، كما فعل الكثيرون، ولـم ييأسوا لـمّا أصاب الإحباط البعض.

وكان الإلهام يأتيهم من فوق ويطلب منهم أن يتعهّدوا كنيستهم، ويرموا أنفسَهم في بحرِ الأرثوذكسيّة ليصطادوا الدرر واللآلىء، ويعثروا على الغنى الفائق، ويكتشفوا التعاليم اللاهوتيّة، ويختبروا الروحانيّة الأرثوذكسيّة، ويعرفوا الكتب المقدّسة القادرة على أن تصيّرهم حكماء للخلاص (2تيموثاوس3: 15)، ويتغذّوا من الحياة الإلهيّة الجارية سرّيًّا في الكنيسة. إذ ذاك شمّروا عن سواعدهم يغوصون في الأعماق وينهلون من المنابع. انكبّوا يقرأون ويشرحون ويدرسون، يصلّون ويتأمّلون، يفحصون ذواتهم على محكّ الكلمة والصلوات. المعرفة كانت عندهم السبيل إلى النهضة، وكذلك التقوى الواعية والحياة في المسيح ومعه.

بداءة الحركة انكبابٌ على المطالعة ونبش الكنوز الدفينة في الصلوات وكتابات الآباء القدّيسين. وهي أيضًا حياة في الكنيسة، ومواظبة على الأسرار المقدّسة، وقراءةٌ للكلمة، واجتهادٌ في خدمة الفقراء بالمحبّة والإكرام. إنّها، وحدها، مسالك النهضة، وبها يشعّ البهاء في الأرجاء الأنطاكيّة كلّها.

سبيلا المعرفة والتقوى قادا الشباب في تنظيم حياتهم، فكانت الفرق لقراءة الكلمة المحيية ودراستها، ولاختبار حياة الشركة والصلاة، وكان شرحها بغية وعيها واستكناه معانيها ومراميها، وكانت الخلوات الروحيّة لامتحان القلب، ومعرفة الذات، والدفع إلى توبة تغسل خطايانا وتعمّدنا بوهج القيامة.

إنّهما السبيلان اللذان لا يعرفان تبديلًا. درس البداءات نتذكّره اليوم وقد قطعنا السنوات الطوال تغيّرت فيها الدنيا واختلفت الوقائع وخبرنا أوضاعًا راهنةً جديدة. ورغم الجديد تبقى المعرفة وحياة الصلاة الهدفَ الأساس لحركتنا، الذي لا يتغيّر. هما الهويّة واللون والطعم. بالمعرفة نتكوّن وننهض، وبها يصير لنا الفكر الذي للمسيح يسوع. بالصلاة والابتهال والحياة السرّيّة الجارية في الكنيسة نقتني الروح القدس ونلتصق بالمسيح. إذ ذاك نردّد مع بولس الرسول: «وأنا حيٌّ لا أنا بل إنّما المسيح حيٌّ فيّ» (غلاطية2: 20). وساعتئذٍ نتحوّل إلى بناة أكفاء في كنيسة المسيح.

حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تكون فقط بالذين يحيا اللَّه فيهم، بدونهم هي تراصف بشر. لا علاقة للعدد بالحركة، هي في القلّة الصادقة، المستقيمة وليست في جمهرة الدجل والزيغان واللهو واللعب، ليست في جوقة القوّالين والألفاظيّين  ولو تفوّهوا بأجلّ المعاني وأرفعها. هي في القلوب المنسحقة الخاشعة والمتواضعة (مزمور50: 19).

تلك كانت البداءات. أين نحن منها اليوم فيما نقطع سبعًا وسبعين سنة من عمرنا؟ هجر كثيرون معاشرة كلمة الحياة والمطالعات اللاهوتيّة والروحيّة. أين نحن من البداءات وأكثرنا يتمسّك بالمظاهر والطقوسيّات؟ يغلب على تقوانا التمظهر وترداد الصلوات. نتمسّك بالشكل ونُعرض عن الجوهر. وكثيرًا ما ننسى تعليم الكتاب العزيز: «أمّا أنت فإذا صلّيت فادخل مخدعك واغلق بابك وصلّ إلى أبيك في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك. وإذا صلّيتم فلا تكثروا الكلام مثل الوثنيّين فإنّهم يظنّون أنّه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم» (متّى 6: 6و7).

فيما نعيّد اليوم نتذكّر الإلهامات الأولى التي نزلت على المؤسّسين، وتلقّوها، وخضعوا لها، وتحوّلوا إلى قوّة جارفةٍ، في المدى الأنطاكيّ، تغيّر الأوضاع وتبدّل المفاهيم وتحرّك السكون بديناميّة أتتها من فوق، من لدن الربّ الذي أسلموا له ذواتهم.

بدأت الحركة وعيًا للَّه، وإسلامًا له تعالى، وحياةً تُترجِمُ الوعي وتُجسِّد التعاليم وتعكس إلهَ المحبّة شجاعةً والتزامًا، تكرّسًا للخدمة وأفعالِ الحبّ، التماسًا لوجه المسيح في وجوه العالمين، وبخاصّة الضعفاء والفقراء الذين اعتبرهم الأدب النهضويّ سادةً في الجماعة المؤمنة ووجهاء.

   في العيد، ومن أجل استقامته، ليس لنا إلاّ أنْ نُحرّر أنفسنا من النسيان. ألم ننس البداءات؟ ألم نكسلْ ونهجر الدرس والقراءة والرصانة والتفتيش؟ ما عدنا نفطن بما ورد في إنجيل يوحنّا: «فتّشوا الكتب لأنّكم تظنّون أنّ لكم فيها حياة أبديّة وهي التي تشهد لي» (يوحنّا 5: 39). أليست نشاطاتنا بأكثريّتها مراوحةً في المكان، لا تعرف تحرّكًا نحو الألف والياء هدفنا المنشود وحده؟ أليس كلامنا اجترارًا لكلمات منمّقة؟ أليس تكرارًا لألفاظ علقت في أسماعنا؟ لقد انقلبت الآية فبدلًا من أن يكون اللسان مرآة القلب، صار القلب يتزيّا بإملاءات اللسان. وضعُنا اليوم غريب عن الوضع في البداءات، حتّى لا أقول هو نقيضه.

من أجل ذلك اليوم عيدٌ للذين يعتبرون أنفسهم يؤسّسون كما من سبع وسبعين سنة. يجتهدون لتزداد معرفتهم في المجالات كافّة، يطلبون المزيد من العارفين الدارسين، وصاروا في صفوفنا كثرًا، إلاّ أنّنا لا نستفيد من معارفهم ولا يشاركوننا العمل تقصيرًا منهم أحيانًا، وأحيانًا نقصد نحن إقصاءهم، فلا نستشيرهم ولا نسترشدهم. لا أعرف، على العموم، حواليّ مجلس إرشاد يضمّ بين أعضائه اللاهوتيّين العارفين، أو علماء التربية المتخصّصين. لا أعرف المحبّة حاكمة في أوساطنا، بل ألقى الإدانة تكفّر وتقصي. لا أعرف حَمِسين يقتحمون العالم ليبذروا فيه الكلمة المحيية، بشجاعة وثبات. بل على العكس بتنا جماعة تخاف العالم وتعطّل تضميخه بعطر المسيح. غلّبْنا تقنيّات التصرّف مع الأطفال والأحداث والشباب والبالغين على المعرفة نختزنها في فكرنا لنتواصل بها مع الآخرين.

أليس لنا خروج من هذا النفق؟ حان أوان الصدق مع التاريخ. متى ينبلج الصبح ويغرب التلهّي؟ n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search