2019

8. تحقيق - بيزنطية بعد بيزنطية، الأيقونات الصربيّة والمكيدونيّة - ريمون رزق – العدد الأول سنة 2019

بيزنطية بعد بيزنطية

الأيقونات الصربيّة والمكيدونيّة

 

ريمون رزق

 

 

 

 

مصدر الأيقونات وهويّة كاتبيها

إنّ تأريخ كتابة الجداريّات ومعرفة جنسيّة كاتبيها أسهل بكثير من البحث ذاته بالنسبة إلى الأيقونات. طبعًا يسهل تحديد مصدر الأيقونات التي تحمل كتابة باللغة السلافيّة وحدها، إذ هي غالبًا من صنع فنّانين سلافيّين، وتحدّد نوعيّة أحرف كتابتها تاريخها. لكن معظم الأيقونات التي نجدها في صربيا ومكيدونيا تحمل أيضًا كتابة يونانيّة، إذ كان ذلك دارجًا، بصرف النظر عن هويّة كتّابها، يونانيّين أو سلافيّين. ويزداد الأمر تعقيدًا عندما نعرف أنّ صربيا ومكيدونيا استوردتا كثيرًا من الأيقونات البيزنطيّة، وأنّ رسّامين بيزنطيّين أتوا صربيا ومكيدونيا وعملوا فيهما. فالذين رسموا نحو السنة 1295 في مكيدونيا البيزنطيّة هم نفسهم الذين انتقلوا نحو السنة 1310 إلى صربيا. وأضحى الخطّ الممتدّ من تسالونيكي إلى وادي المورافيا، مرورًا بأوخريدا وشمال مكيدونيا والكوسوفو، أحد خطوط الفنّ البيزنطيّ الرئيسة.

باتّجاهه شمالاً، تفاعل هذا الفنّ في البلاد الصربيّة مع الفنّين الرومانيّ والغوطيّ على ضفاف البحر الأدريتيكيّ الشرقيّة وأوروبّا الوسطى. شجّع وضعه الجغرافيّ الفنّانين الصرب على ابتكار مدرسة إيقونوغرافيّة خاصّة بهم، مرتكزة على الأسس البيزنطيّة مع بعض الخصائص والتأثيرات المحلّيّة. أدّت الأيقونات المستوردة من القسطنطينيّة أو تسالونيكي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وهي كثيرة، دورًا أساسيًّا في تكوين فنّ محلّيّ اعتبرها نماذج لعمله، إلى حدّ أنّه ما عاد ممكنًا فصلها أحيانًا عن المحيط الذي حلّت فيه منذ قرون. وكما سيّدة فلاديمير البيزنطيّة الصنع تخصّ الآن الفنّ الروسيّ، هكذا أيقونة البشارة في متحف أوخريدا الوطنيّ، التي كُتبت في القرن الرابع عشر حتمًا في القسطنطينيّة، تخصّ بدورها الفنّ المكيدونيّ والصربيّ، وهي جزء لا يتجزّأ منه، وقد اعتبرها طويلاً كتّاب الأيقونات السلافيّون النموذج الأمثل لعملهم.

لاحقًا، حافظ الفنّ الأيقونوغرافيّ الصربيّ والمكيدونيّ على تعلّقه بنموذجه الأوّل، مع إدخاله عليه ما تأثّر فيه من محيطه وتقوى شعبه، رافضًا دومًا كلّ عنصر غريب آتٍ من الغرب. استمرّ في هذا النمط حتّى إنّ إنجازاته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين تأثّر الفنّ الروسيّ بالغرب مثلاً، فاقدًا هويّته التقليديّة، بقي الفنّ الصربيّ والمكيدونيّ، أمينًا للتقليد وأنتج أعمالاً رفيعة المستوى.

بعض الأيقونات الصربيّة المكيدونيّة

تحمل أولى هذه الأيقونات الطابع البيزنطيّ، كما يظهر في أيقونة السيّدة في دير خيلاندار الصربيّ في جبل آثوس، التي كُتبت في أواخر القرن الثاني عشر.

وهناك أيضًا أيقونتا عذراء البشارة وملاكها، من مطلع القرن الثاني عشر، اللتان كانتا في كنيسة السيّدة بيريبلِبتوس في أوخريدا، واللتان هما الآن في معرض الأيقونات المجاور للكنيسة.

دخل في ما بعد على الأيقونة الصربيّة طابع الحنان الذي يميّزها، كما في جداريّة الأيقونة في دير ستودِنيتشا التي كُتبت نحو 1234. يوجد فيها تشابه أكيد مع الأيقونة البيزنطيّة لكنّها أتت بشيء كلّيّ الجدّة التصق بالأيقونة الصربيّة.

 لا توجد أيقونات كثيرة وصلت إلينا من النتاج الأيقونوغرافيّ الصربيّ والمكيدونيّ من مطلع القرن الثالث عشر، إذ قضت على معظمها الحروب والكوارث الطبيعيّة والظلم والنهب التركيّان. نجد أجملها وأفضلها خارج البلاد، مثلاً في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. إحداها وأقدمها، المنديليون، هي من القرن الثالث عشر، وموجودة في فرنسا حيث تكرّم باسم «وجه لاون المقدّس».

 لكن توجد بعض الأيقونات التي كُتبت نحو منتصف القرن الثالث عشر. نذكر منها أيقونة والدة الإله التي كانت في إحدى كنائس أوخريدا والتي هي الآن في المعرض المذكور أعلاه.

 وأيضًا أيقونة النسوة رفيقات العذراء في متحف دير خيلاندار.

 ويكثر عدد أيقونات القسم الثاني من القرن الثالث عشر وأواخره. منها أيقونة القدّيسين بطرس وبولس الموجودة في الفاتيكان.

 وأيقونات الأيقونوسطاس الكبيرة التي كانت في كنيسة السيّدة بيرببلِبتوس في أوخريدا وهي الآن في المعرض.

   أيقونة السيّدة مرسومة على وجهيها، إذ نجد أيقونة الصلب على وجهها الخلفيّ.

 أمّا أيقونات مطلع القرن الرابع عشر، فتتمثّل بأيقونة متّى الإنجيليّ وعماد الربّ والنزول إلى الجحيم، والصلب وعدد من أيقونات والدة الإله والسيّد نبيّن أبرزها في ما يلي.

ونبيّن من منتصف القرن الرابع عشر، أيقونتي السيّدة والسيّد، اللتين كانتا أيضًا في كنيسة السيّدة بيريلبتوس في أوخريدا.

ومن القسم الثاني من القرن الرابع عشر، أيقونة ملاك البشارة على باب أيقونوسطاس إحدى كنائس أوخريدا.

وننهي هذا العرض للأيقونات الصربيّة والمكيدونيّة ببعض الأيقونات المكتوبة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لتبيان التغيير الذي حصل مع البقاء على أسس التقليد.

لكنّ الأيقونة الصربيّة المكيدونيّة خسرت بعد هذا اللمعان خلال قرون عدّة عبقريّتها في القرن التاسع عشر، وهي الآن في طور استعادة أنفاسها.

الخلاصة

لم أتخيّل عشية سفري إلى صربيا والبلاد المجاورة أنّني سأواجَه بمثل هذه الجمالات، وأجد في منطقة جغرافيّة واحدة هذا الكمّ من الآثار البيزنطيّة الحيّة في أديرة معظمها يستعيد الوجود الرهبانيّ، وتُرفع فيها الصلاة من أجل تنصيرشعوبها مجدّدًا، بعد الأزمات التي مرّت بها وتحدّيات المدنيّة الحديثة. فأشكر اللَّه على ما أعطانيّ أن أشاهد والخبرات الروحيّة التي عشتها. ولا بدّ لي ختامًا من أن أعبّر، إضافة إلى هذه الخبرات البهيّة، عن خبرة أليمة يعيشها كلّ مَن يزور أديرة كوسوفو وكنائسها. ذكرت آنفًا أنّ كنيسة بريتزرين حُرقت، ولا تزال جداريّاتها الجريحة تخاطب الناس وتصرخ. لكن فاتني القول إنّ هذه الكنيسة محاطة بالأسلاك الشائكة وهي شبه مدمّرة داخليًّا كما هو واضح في الصورتين التاليتين. أهي صور لوضع الكنيسة بعامّة في أيّامنا: محاصرة ويتآكلها الدمار الداخليّ؟

أضف إلى ذلك أنّ كلّ أديرة كوسوفو تحرسها قوّة الأمم المتّحدة العسكريّة مع دبّابات وعتاد مختلفة، ولا يدخل إليها مَن يشّاء إلاّ بعد تدقيق في هويّته، علامة على أنّ الأخطار لا تزال داهمة. أمّا الصرب الذين لا يزالون يعيشون في كوسوفو فإنّهم محصورون في مناطق محدّدة لهم، ذكّرتني ب«حارات النصارى» في بلادنا. في زمن تثور فيه البشريّة من جهة على كلّ أنواع الغيتويات، نراها تكوّن غيتويات جديدة، مصدر انفجارات مستقبليّة.

فتوقّفت بالفكر أمام هزالة الحماية التي تؤمّنها الأمم المتّحدة، التي بيّنت في مناسبات عدّة انهزامها أمام اندلاع المشاغبات والعصبيّات. نشكر اللَّه على أنّ هذه العصبيّات وهذا التعصّب يبدوان خامدين في هذه الأيّام. لكن لا بدّ من أنّ أفضل حماية لتحف كالتي تكوّنها كنائس وأديرة كوسوفو ومحتوياتها، لا تكون في النهاية إلاّ في البند التاسع من شرعة الأمم المتّحدة الموقّعة السنة 1976، الذي ينصّ على أنّ «لكلّ بلد الحقّ في أن يرث بكلّ سيادة القيم الثقافيّة الخاصّة به والتي هي ثمر تاريخه بأسره، وله الواجب أن يحفظها كجزء لا ينفصل من إرث البشريّة الثقافيّ». فلِم لم يُعط هذا الحقّ لصربيا؟. فأخذت أفكّر أنّ أهل الغرب، والأميركيّين بخاصّة، الذين شجّعوا على انفصال كوسوفو الكلّيّ عن صربيا (بدلاً من نوع من أنواع الفيديراليّة)، لا تاريخ لهم، ولا يشعرون تاليًا مع الذين يصِلون ماضيهم بحاضرهم في رؤيتهم للمستقبل.

لكنّي لا أريد إنهاء مقالاتي الخمس حول «بيزنطية بعد بيزنطية» على هذه الملاحظة الحزينة. لذلك أعزّي نفسي بالقول إنّ شعبًا أنتج مثل هذه الجمالات لا يمكن أن يموت، ولن يموت إذا عرف أن يستعيد ما كان يحرّك أجداده من إيمان وورع. عسى أن يستطيع الأرثوذكسيّون الصرب أن يفعلوا ذلك، ليتغلّبوا على صعاب المأساة التي يرزحون تحتها.

أمّا نحن الذين لا يزال يحقّ لنا أن نزور أديرتهم وكنائسهم في المنطقة وفي كوسوفو بشكل خاصّ، فعلينا أن نسبّح اللَّه الذي ألهم مَن شيّد عماراتهم وكتب جداريّاتهم وأيقوناتهم وابتكر جمالات تفوق الطبيعة. ونبتهل إليه أن يمنّ علينا بنعمه الغزيرة لكي نشهد للرجاء الذي فينا، في عالم يحاصر كنيستنا من كلّ حدب وصوب، لتعود فتكون، بتكاتف أعضائها ومحبّتهم المتبادلة، صورة حيّة متواضعة لوجه ربّها الذي هو جمال كلّ جمال، وتذكّر بأنّ لا جمال بدونه وبدون الحقيقة والمحبّة وهو الذي وحده أظهر جمالها. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search