2019

7. كتاب مقدّس - قراءات كتابيّة في وجه المسيح - نقولا أبو مراد – العدد الأول سنة 2019

قراءات كتابي‫ّة في وجه المسيح

لامك بين قايين وتاريخ الناس

نقولا أبو مراد

 

 

سألتني إدارة تحرير مجلّة النور» أن أخصّها هذا العام بسلسلةٍ من ثمانية مقالات أقرأ فيها وجه المسيح في أسفار الكتاب، ولا سيّما الجزء الأوّل منه المسمّى العهد القديم. أن تحوط بغنى النصوص الكتابيّة ذات الصلة، بإيجازٍ من جهةٍ، وبإيضاح كافٍ لمعاني العبارات والصور الأدبيّة المستعملة من الجهة الأخرى، ليس بالمهمّة السهلة. غير أنّي سأحاول أنّ أتلمّس وقرّائي ذلك الخيط الأحمر الذي يتخلّل سرد النصوص، والذي به ينقلنا الكاتب من ممالك الناس إلى مملكة اللَّه ومسيحه الذي جعله عليها. إنّها مسيرة في الكتاب، ومسيرة كلّ قارئ أو سامعٍ مدعوّ إلى أن يخطو فيها، في ذهنه، بحيث يخضع نفسه، خلال المطاف وفي نهايته، للكلمة الإلهيّة ذات السلطان وحدها.

لنذكّر، بدءًا، بأنّ عبارة «المسيح»، في استعمالها في الكتاب، لقب من ألقاب الملك، وأساسها في أنّ صاحب العرش يمسح رأسه بطيب أو زيت، يوم تولّيه الحكم. ونعرف من الوثائق المصريّة القديمة أنّ هذا الطقس كان يمارس أيضًا على ملك مصر يوم تنصيبه، إذ كان يمسح بزيتٍ مستخرجٍ من جلد التمساح. ولعلّ التقارب اللفظيّ بين عبارات «مسح» و«مسيح» و«تمساح» (مسح في اللغة المصريّة القديمة)، دلالة على العلاقة بينها، وإشارة إلى القوّة التي يرمز بهذا إلى تلقّي الملك إيّاها من التمساح.

لا ترد عبارة «المسيح» في الأسفار الأولى من العهد القديم، غير أنّ الإشارات إلى الوظيفة الملكيّة كثيرة، لا بل تأتي في مواضع في غاية الأهمّيّة، وهي إشارات سلبيّة جميعها. وترد عبارة «ملك» في شكلٍ مشوّهٍ عن قصدٍ في اسم آخر المذكورين من نسل قايين، والذي يقرّ بنفسه أنّه فاق أباه قايين قتلًا وإجرامًا، وكان اسم هذا «لامك». وعبارتا «لامك» و«ملك» في الأصل العبريّ (لمك/ملك) متطابقتان لفظًا وتشكيلاً مع اختلافٍ في مواقع الأحرف فقط. واللافت أنّ «لامك» هو السابع والأخير في تعداد الأجيال بدءًا من قايين، ويقال عنه في النصّ الذي يذكره (تكوين 4: 17– 24) إنّه كان متزوّجًا بامرأتين، إشارةً إلى رغبته في أن يتكاثر ويملأ الأرض. ومن أسماء أولاده وصنعتهم، نستشفّ ما في ذهن الكاتب، إذ جعل أسماء بنيه مشتقّة جميعها من جذر «يبال» العبريّ الذي يرتبط بالسلطة والقيادة. أمّا صنعتهم فهي في ضرب الحديد والنحاس، أي صناعة الأسلحة، وفي صنع أدوات الموسيقى، للاستعمال في الحروب. وكأنّ الكاتب أراد أن يجعل في صورة لامك القاتل بلا حدودٍ تشويهًا للملكيّة كما مارسها الإنسان على مدى تاريخه. والأجيال السبعة التي من قايين، قاتل أخيه، إلى لامك، قاتل كلّ من صادفه، اختصار لتاريخ الناس، ولما في هذا التاريخ من قتل وظلم وإقصاء، عبّر الكاتب عن فظاعتها، تحديدًا، في قصّة قايين وهابيل، حيث يصير قتل القويّ للضعيف أساسًا لهذا التكاثر الذي ولّد البشر إلى لامك، أي إلى من يقتل ويظلم ويقصي ويستعبد ماضيًا وحاضرًا وإلى منتهى التاريخ.

في قايين المرتبط اسمه بالاقتناء، أي الملكيّة، والقائمة صنعته على الزراعة، أساس الحضارات، يرمز الكاتب إلى ما عند الناس من بغضٍ وكراهية متربّصة ومتخلّلة كلّ الحضارات البشريّة، ضحيّتها الفقير والمتروك والذي لا مكان له في الأرض، على ما يدلّ اسم هابيل، ومعناه غير الموجود، أو المتلاشي، ومنه الباطل والهباء. يبني قايين المدينة، مدينة الناس، (تكوين 4: 17)، ويدعوها باسم ابنه «أخنوخ»، ليدلّ الكاتب بهذا على أنّ البشر يرون أسماءهم باقيةً وراسخةً في ما يبنون من حجارةٍ، ولو كانت على حساب من يسحقون. هذا تاريخ الناس.

غير أنّ أهمّ ما في هذا النصّ القصير بحجمه، والغنيّ بمضامينه الشاملة، أنّ الربّ يحكم فيه على قايين بأن يكون تائهًا ومطرودًا في أرض التيه والغربة، أي ألاّ تكون الأرض له ملاذًا، بل مكان هربٍ مستمرّ، يلاحقه فيه ذاك الدم الذي أراقه ظلمًا وحسدًا. وبحكمه الذي قاله في قايين، شمل الربّ أجياله السبعة، أي سائر القاتلين، والبشر كلّهم كذلك في تاريخهم.

الملكيّة إذًا حاضرة بشكلها المشوّه في هذه القصّة، وقد سبق الكاتب وألـمح إليها وحذّر منها في قصّة آدم وحوّاء (تكوين 2)، حين أمر آدم، بعد أن أعطاه أن يأكل من شجر بالحديقة التي غرسها ووضعه فيها، بألاّ يمسّ شجرة معرفة الخير والشرّ ويأكل من ثمرها (تكوين 2: 17). رغم أنّ كثيرًا من المفسّرين ماضيًا وحاضرًا، يذهبون بهذه الآية وتفسيرها مذاهب كثيرة، إلاّ أنّها لا تفهم إلاّ ببساطتها: الفصل بين الخير والشرّ للربّ الإله وحده، لا لآدم، والطريق إلى شجرة الحياة، يسلكه فقط سامعو وصايا الربّ والعاملون بها. هنا الربّ الإله يجلس على كرسيّ القضاء، وهو الذي يقضي بما هو شرّ وبما هو خير، وآدم، أي الإنسان، ماثل وجوبًا أمام الربّ القاضي يتعلّم منه ما هو خير وما هو شرّ ولا يقرّر هو في ذلك. حين يأكل آدم من الشجرة الممنوعة يكون قد أزاح الربّ عن عرش القضاء وجلس هو عليه. وهذا بوضوحٍ إشارة إلى الملكيّة بكونها قضاء أيضًا، وبأنّ ما يتلفّظ به الملك من أحكام له قوّة الفصل، وفيه أمر بالموت أو أمر بالبقاء في الحياة. وفي سفر التكوين أنّ الملك إنسان، والإنسان من غبارٍ وإلى الغبار. فلا قاضٍ حقيقيّ إلاّ الربّ الإله، ولا محيٍ ومميت إلاّ من أعطى الانسان نسمة الحياة، ومن حكم عليه بالموت عقابًا بعد أن أهمل الحياة التي أُعْطيها.

يستحيل آدم، أي كما تعني العبارة في أصولها اللغويّة، صاحب الجلد الحيّ والمفرع للحياة، كائنًا يحتاج إلى أقمصةٍ من جلد الحيوان ليحيا، وغدت «الأدْمة» أو «الأديم» (وهي الترجمة الأصحّ لعبارة أدماه العبريّة والتي تعرّب إلى «أرض» خطأ) التي أخذ منها، وسمّي على اسمها، منتجة للشوك والحسك، بعد أن كانت، كما يعني اسمها في اللغة، مفرعة للحياة ومنبتةً لها، بفعل المطر الذي يغدقه الربّ عليها.

مع آدم تستحيل الأدْمة موتًا، ومع قايين مكانًا للهروب والتيه، مسقيّة بدم البريء، وصارخة بالانتقام. ذلك هو السياق الذي يتحدّث فيه الكاتب عن الملك والملكيّة ومعناهما في تاريخ الناس. وما من شيء أشدّ تعبيرًا عن نظرته هذه ممّا يورده في تكوين 6: 1– 5، حيث أقوياء الناس يرون أنفسهم ثمرة تزاوج الآلهة بالبشر، أي ينكرون أنّهم من غبارٍ أصلاً، وأنّهم لو لم يعط آدم من اللَّه ابنًا بدلاً من هابيل، لما كانوا وجدوا. غير أنّ غيّهم هذا ملأ الأرض ظلمًا. هذا هو المشهد الذي يجعلنا الكاتب أمامه، ويجعلنا فيه أيضًا، فلا يُستثنى أحد، ولا حتّى القارئ أو السامع من أن يكون مشمولاً في كلام الكتاب عن الجبابرة الساقطين بأمر الربّ وحكمه، وبطوفانٍ أبديّ يرمز إلى أنّ البشر، ولو تعالوا، إلاّ أنّهم محكوم عليهم بالهلاك. هذا خيارهم حين ظلموا وسحقوا.

والأساس الذي يبني عليه الكاتب كلّ هذا أنّ الربّ وحده هو الملك، وهو القاضي، وصاحب الفصل بين خير وشرّ، بمعنى أنّ كلمته هي المتعالية. ويأتي التعبير عن هذا في رواية صموئيل، المختار من الربّ ليحمل كلمته. ليس صموئيل ملكًا ولا كاهنًا، وما كان من أهل القوّة، إنّما أدخل إلى الهيكل ليكون خادمًا. هذا جعل الربّ كلمته في فمه، وقال فيه الكتاب «وكبر صموئيل وكان الربّ معه، ولم يدعْ شيئًا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض. وعرف جميع الشعب من دان إلى بئر سبعٍ أنّه قد اؤتمن صموئيل نبيًّا للربّ. وعاد الربّ يتراءى في شيلوه، لأنّ الربّ استعلن لصموئيل في شيلوه بكلمة الربّ» (1صموئيل 3: 19– 21). بهذا يسقط الربّ كهنوت الهيكل، ويعلي كلمته، وتكون الملكيّة له متحقّقة في رفعة كلمته. وهذا ما يفسّر لنا قوله لصموئيل حين حزن إذ طلب إليه بنو الشعب أن يقيم ملكًا عليهم: «اسمع لصوت الشعب في كلّ ما يقولون لك، لأنّهم لم يرفضوك أنت بل إيّاي رفضوا حتّى لا أملك عليهم. حسب كلّ أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهةً أخرى، هكذا هم عاملون بك أيضًا. فالآن اسمع لصوتهم. ولكن أشهدنّ عليهم وأخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم” (1 صموئيل 8: 7– 9). وقضاء هذا الملك يأتي في المقطع اللاحق (1صموئيل 8: 10 وما يليها)، حيث يعدّد الكاتب المظالم التي سيلحقها الملك بهم، وكلّ ملك بكلّ الناس، ليظهر “لامك” القاتل، مشوّه العدل، في كلّ من يظلم، والظالمون في كلّ زمان ومكان. في الكتاب إذًا هذه هي حال الناس، ذلك بأنّ العدل الحقّ والأمانة الحقّ والبرّ لن يكونوا إلاّ في حضن الربّ، وهذا هو المسار الذي ينشئه.

واللافت أنّ الكاتب، لكي ينشئ هذا المسار، لا يبني على نسل قايين، فهذا ينتهي بلامك ويتلاشى إلى غير رجعة في أوّل إصحاحات التكوين. بل يقول إنّ اللَّه يقيم لآدم ابنًا بدلاً من هابيل الذي قتله أخوه، واسمه «شيت» أي المـقام» أو «الموضوع» من اللَّه بدلاً من أخيه. وحين يورد الكاتب ولادة ابنٍ لشيت، يقول «وحينئذٍ ابتدئ أن يدعى باسم الربّ» (تكوين 4: 26)، ليقيم بذلك تضادًّا بين نسل قايين الساعي إلى إعلاء اسمه بالقتل والظلم، ونسل شيت الخاضع للربّ القاضي، وهذا ما تعنيه عبارة «الدعوة باسم الربّ»، أي بالاسم الوحيد ذي القيمة والحضور، فيما تغيب الأسماء كلّها وما تحملها من معاني القوّة والجبروت.

في هذا النسل المقام من اللَّه لآدم، يأتي أخنوخ جديد بدلاً من أخنوخ الذي بنى قايين المدينة وسمّاها باسمه. هذا هو الجيل السابع من آدم عبر شيت، وعنه يقول الكتاب «إنّه سار مع اللَّه ولم يوجد لأنّ اللَّه أخذه» (تكوين 5: 24)، ويأتي أيضًا لامك جديد، يقرّ بخطيئة لامك القديم وظلم أعمال يديه، «هذا يعزّينا من تعبنا وعمل أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الربّ» (تكوين 5: 29). ويعيش هذا سبعماية وسبعة وسبعين عامًا في الاعتراف بالتمرّد ووعيه له، تقابل المرّات السبع التي ينتقم فيها لقايين، والمرّات السبع والسبعين التي ينتقم فيها للامك (تكوين 4: 24). لامك التائب إلى المنتهى يكون أبًا لنوح الذي به تأتي تعزية الربّ إذ يطيح في أيّامه بالبشر الذين ملأوا الأرض ظلمًا.

نفهم هذا حين ندرك أنّ نسل قايين هو اختصار لتاريخ الناس الحقيقيّ، ذلك التاريخ الذي يكتبه أقوياء الدهر وقد كتبوه فعلاً، ليمجدّوا فيه قوّتهم، ويعلوا شأنهم، ويحفظوا أسماءهم. أمّا نسل شيت فهو النسل غير الموجود في الواقع إلاّ في الكتاب. وفي الكتاب أيضًا أنّه لا يأتي إلاّ بكلمة الربّ. هو نتاج هذه الكلمة. وبه ستستعلن. ومنه سيكون إبراهيم وإسحق ويعقوب، وسيبني الكاتب روايته المقابلة لتاريخ الناس والمسقطة له. تلك الرواية التي بها يقيم اللَّه هابيل المقتول ليجعله رايةً أمام البشر ليدعوهم جميعًا والظالمين القاتلين أوّلاً ليأتوا إلى رحمته. هذه هي المسيرة، وسنمرّ في مرحلة أخرى منها في العدد القادم. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search