2019

6. شؤون كنسيّة - نحو ترميم «الوحدة والمجمعيّة» - بيرج طرابلسي – العدد الأول سنة 2019

 

نحو ترميم «الوحدة والمجمعيّة

أيوتا» تصنع الحدث في العالم الأرثوذكسيّ»

بيرج طرابلسي

 

 

تقول الحكمة أن تأتي متأخّرًا خير من ألا تأتي أبدًا». هذا هو حال «الرابطة اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة العالميّة (يوتا)» (International Orthodox Theological Association [IOTA])، وهي جمعيّة لا تبغي الربح مقرّها في الولايات المتّحدة. أطلق فكرة تأسيسها اللاهوتيّ والأستاذ الجامعيّ Paul Gavrilyuk بُعَيد مجمع كريت (2016)، فكرة بدأ بتحقيقها منذ شباط 2017 بهدف تبادل المعرفة وخدمة الكنيسة على مساحة العالم الأرثوذكسيّ. كان د. غفريليوك رؤيويًّا في فكرته هذه وعمليًّا وملتزمًا في تنفيذها، إذ كان متابعًا لأعمال هذا اللقاء الأرثوذكسيّ الواسع في كريت عن قرب، ومراقبًا نقاط قوّته وضعفه عن كثب. للتوضيح، انعقد مجمع كريت بعد عقود عدّة من التحضير والبحث بمواضيع ومقاربات وممارسات تقليديّة لا تخاطب تحدّيات هذا العصر المتنوعّة والمتعدّدة والمتشعّبة، في غياب لافت للكثير من اللاهوتيّين، إكليريكيّين كانوا أو علمانيّين، أكان على مستويات التخطيط والتحضير أم حتّى في إطار التنفيذ. علاوة على ذلك، إنّ تداعيات مجمع كريت، والصراعات الثنائيّة والاصطفافات السياسيّة-الكنسيّة، وتغييب العديد من المفكّرين الأرثوذكسيّين عن مراكز التخطيط والقرار في كنائسهم، وشعور الكثيرين منهم بضرورة العمل على تمتين (ا) «الوحدة» القائمة على تنوّع الفكر والمعرفة و(ب) «المجمعيّة» المُنتجة عبر التواصل بين الكنائس بدلًا من الانقسامات والصراعات في ما بينها، دفعت هذه العناصر بالكثيرين من مفكّري العالم الأرثوذكسيّ، والمتخصّصين بعلوم هذا العصر إلى التجاوب مع الدعوة وتلبيتها عبر المشاركة في مؤتمر الرابطة التأسيسيّ.

إنّ فكرة عقد مجامع كنسيّة، وهي بحقيقة أمرها لقاءات ومنصّات حوار جامعة تظهّر البُعدين المؤسّساتيّ والفكريّ-التعليميّ للكنيسة، ليست بجديدة على الإطلاق. فلو عدنا بالتاريخ إلى يوم العنصرة أو مجمع أورشليم الرسوليّ في القرن الأوّل، أو إلى أيٍّ من المجامع المسكونيّة والمحلّيّة في الألفيّة الأولى، لوجدنا أنّ الهاجس الأساس كان حسن سير إدارة شؤون الكنيسة بشكل عامّ، وسلامة الفكر اللاهوتيّ بما يختصّ بعقيدتي الثالوث والتجسّد بشكل خاصّ. كان على معلّمي الكنيسة الجامعة آنذاك إيجاد القواعد الفكريّة اللاهوتيّة وصوغها في لغة زمنها (الفلسفيّة والعلميّة)، بهدف معالجة أهمّ المشاكل والتحدّيات اللاهوتيّة والرعائيّة والإداريّة التي واجهتها الكنيسة، وذلك للحفاظ على وحدتها في إطار مليء بالتغيّرات والصراعات والاقتراحات والتفاهمات ومشاريع الحلول المتعدّدة والمتنوّعة. إنّ تجربة العمل المسكونيّ والحوارات اللاهوتيّة والمؤتمرات الأكاديميّة، والجمعيّات العلميّة في القرن العشرين، أفضت إلى ضرورة العمل على إنتاج أبحاث علميّة، جدّيّة وعميقة، والانفتاح على الآخر، والتواصل المباشر بين الكنائس على المستويات الجماعيّة والفرديّة، القياديّة منها والقاعديّة. وعليه، يمكن القول إنّ استخلاص العبر والاستفادة من خبرات تلك الفعاليّات السابق ذكرها بشكل عامّ، وتجربة مجمع كريت وما سبقه من تحضيرات تتعلّق بالمجمع الأرثوذكسيّ الكبير بشكل خاصّ، فضلاً عن دور رئيس الرابطة المحوريّ بالتعاون مع منسّقي اللجان الخمس والعشرين اللاهوتيّة المتنوّعة أسهمت جميعها في بناء شبكة علاقات تتضمّن العديد من أصحاب الاختصاصات النظريّة والتطبيقيّة، كما أدّت جميعها إلى تشجيع الكثيرين وتحفيزهم على دعم الرابطة الجديدة والانضمام إليها والمساهمة في نجاحها.

انعقد مؤتمر «الرابطة اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة العالميّة (يوتا)» التأسيسيّ في مدينة ياش في رومانيا، بين 9 و12 كانون الثاني 2019، وبدعم مباشر من مؤسّسات كنسيّة وأكاديميّة واجتماعيّة ومسؤولين دينيّين محلّيّين وزمنيّين، كان في مقدّمتها راعي أبرشيّة ياش ومتروبوليت مولدوفا وبوكوفينا، المطران ثيوفان. انطلقت فعاليّات هذا المؤتمر في يومه الأوّل بصلاة الشكر في كاتدرائيّة المدينة التاريخيّة حيث ألقى المتروبوليت ثيوفان كلمة ترحيبيّة شدّد فيها على «أنّ الأعمال اللاهوتيّة كافّة تكتمل بالصلاة»، آملا «أن يستلهم هذا اللقاء اللاهوتيّ من الماء الحيّ-المسيح، والإله-الإنسان، والمثال، والقاعدة الأساسيّة والتامّة لمعرفة اللَّه والخليقة»، داعيًا اللاهوتيّين ومعلّمي الكنيسة كافّة إلى أن «يحتضنوا روح الظهور الإلهيّ وروح العنصرة». بعدها، توجّه الجميع إلى دار الأوبرا لمراسم الافتتاح الرسميّ للمؤتمر حيث أُلقِيت ثلاث كلمات رئيسة. الكلمة الأولى ألقاها المتروبوليت ثيوفان بالنيابة عن بطريرك رومانيا دانيال، وركّز فيها على «الوحدة» الكنسيّة التي هي «هبة من اللَّه» والتي تقع مسؤوليّة الحفاظ عليها على كلّ من الإكليريكيّين والعلمانيّين معًا (يوحنّا 17: 21-22). الكلمة الثانية كانت للرئيس المؤسّس د. غفريليوك الذي أشار إلى أنّه يرى في IOTA «جمهوريّة الحروف الأرثوذكسيّة» (The Orthodox Republic of Letters) والتي هي «غير اعتيادية» كون سلاحها سيكون «الكفاءة والإقناع»، وثروتها «وديعة الإيمان»، وأهدافها «نشر الإيمان» بعيدًا عن أيّ نوع من أنواع التسلّط في الكنيسة حيث «لا يونانيّ... ولا إسكيتيّ وحيث المسيح الكلّ وفي الكلّ» (كولوسي 3: 10: 11). الكلمة الثالثة كانت محاضرة المؤتمر الرئيسة ألقاها اللاهوتيّ والأستاذ الجامعيّ، المتروبوليت كاليستوس (وير)، والتي تجلّت أهمّيّتها، ليس فقط في مضمونها النقديّ الجريء والمفنّد للممارسات الخاطئة التي جرت مؤخّرًا منذ ما قبل مجمع كريت وصولاً إلى الأزمة الأوكرانيّة الحاليّة، وبالأخصّ حول الأولويّة والمجمعيّة التي يتحدّث عنها الكثيرون نظريًّا ويتجاهلونها عمليًّا، بل بكون المحاضِر مطرانًا تابعًا للبطريركيّة المسكونيّة. حاول المطران كاليستوس، على الأرجح، أن يحثّ المؤتمرين بأسلوبه الخطابيّ اللّبق على التعبير عن آرائهم، بحرّيّة مطلقة، كما فعل هو، وأن يأخذوا المبادرة والبحث بمواضيع أكثر أهمّيّة من تلك المواضيع الستّة التي أُثيرت في كريت، ومتسائلاً، «هل البحث بمسألة الصوم يتطلّب مجمعًا على هذا المستوى؟... وهل سننتظر 114 سنة أخرى (وهي الفترة التي طالت فيها التحضيرات للمجمع الأرثوذكسيّ الكبير) لنرى متابعة لأعمال مجمع كريت؟» في الختام، أدّت جوقة كلّيّة اللاهوت تراتيل كنسيّة في لغات عدّة ومنها العربيّة.

توزّع المؤتمرون طيلة الأيّام الثلاثة اللاحقة على أكثر من 70 جلسة، قدّم فيها الباحثون أوراقهم العلميّة في مجالات عدّة أبرزها: أ) مواضيع كلاسيكيّة تتعلّق بالكتاب المقدّس والعقيدة والآباء والليتورجيا والقانون الكنسيّ والفنّ الكنسيّ والإكليزيولوجيا، وروحانيّة الفيلوكاليا والعمل الإرساليّ والعمل المسكونيّ ومعاهد اللاهوت. ب) مواضيع معاصرة تتعلّق بالعلاقة مع العلوم والسياسة والتربية والعلاقات الدوليّة والأخلاق والهجرة، وبلاد الانتشار والتحدّيات البيئيّة ودور المرأة في الكنيسة والمسألة الأوكرانيّة. تمّت النقاشات بجوٍ من الحرّيّة والانفتاح والزمالة والاحترام، مع التشديد على أنّ الكنيسة باتت بحاجة إلى مقاربات حديثة تأخذ بالاعتبار التحدّيات، الخارجيّة والداخليّة، التي ما عاد بالإمكان على الإطلاق تجاهلها، أو حتّى مقاربتها بأساليب ومفاهيم تقليديّة، إذ سيكون لعدم مواجهتها تداعيات جمّة وخطيرة على الكنيسة. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المشاركة الأنطاكيّة كانت واضحة في المؤتمر عبر المشاركين اللبنانيّين والأميركيّين. وبالتحديد،  قدّم د. أسعد قطّان تحليلًا لرسالة بولس الأنطاكيّ إلى صديق مسلم، وقارب الأب د. بسام ناصيف الزواج في زمن ما بعد الحداثة من وجة نظر أرثوذكسيّة، وأكّد المتقدّم في الكهنة د. Philip LeMasters على أهمّيّة الحبّ الموحِّد والمضحّي والإسخاتولوجيّ وقِيَمه في الإطار الإفخارستيّ للزواج. وشدّد د. بيرج طرابلسي على ضرورة إصلاح العمل الأسقفيّ وأهمّيّة التدريب على الخدمة الأسقفيّة. وتحدّث المتقدّم في الكهنة د. بورفيريوس جرجي عن خبرة البلمند في تعليم اللاهوت بهدف خدمة الكنيسة. كما حُمِّلت معظم المحاضرات والاستعراضات العامّة لتلك الجلسات على شبكة الإنترنت وباتت متوفرة على قناة IOTA على اليوتيوب. أمّا نُبذ هذه الأوراق العلميّة فهي متوفّرة بشكل وثيقة (pdf) على صفحة الرابطة الرسميّة على شبكة الإنترنت (https://iota-web.org/). وعليه، الدعوة موجّهة إلى الجميع من أجل الاستفادة من المحاضرات، ومتابعة أعمال الرابطة وإعلاناتها عبر صفحتها الرسميّة، والبدء بالتحضير الجدّيّ لمؤتمر الرابطة القادم الذي سيُعقد بعد أربع سنوات، عسى الكنيسة الأنطاكيّة تكون السبّاقة في طرح الحلول العمليّة لمشاكل الكنيسة الأرثوذكسيّة، ليس فقط عبر ترميم الوحدة والمجمعيّة على أهمّيّتهما، بل عبر طرح الحلول لمسائل عدّة تتعلّق بإدارة الكنيسة وقيادتها، وبأخلاقيّات علوم الحياة والسياسة والإصلاحات الضروريّة في الكنيسة وغيرها.

وإلى جانب المحاضرات، تضمّن المؤتمر زيارة إلى متحف الأبرشيّة، والقائم في أسفل الكاتدرائيّة، والمؤلّف من قاعات عدّة تحتوي معرض «الفنّ المقدّس الرومانيّ (ق. 17-19)» والذي يتضمّن أيقونات ومخطوطات وأدوات وأواني وملابس كنسيّة تاريخيّة قيّمة. وفي قاعة المعموديّة المستديرة، استضاف المتحف معرض أيقونات كنسيّة بعنوان «أيقونات على صناديق الذخيرة» (The Icons on Ammo Boxes) قام برسمها Sofia Atlantova وOleksandr Klymenko، وهما رسّامان أوكرانيّان من كييف، على خشب صناديق الأسلحة المستعملة في الحرب في شرق أوكرانيا، وذلك في محاولة لتحويل العنف والألم إلى سلام وراحة. من المفيد الإشارة أيضًا إلى ثلاثة كتب قُدّمت ضمن فعاليّات هذا المؤتمر:

الكتاب الأوّل من تأليف د. Alexis Torrance بعنوان

 Repentance in Late Antiquity: Eastern Asceticism and the Framing of the Christian Life c. 400-650

والكتاب الثاني وضعه د. Philip LeMasters بعنوان

 The Forgotten Faith: Ancient Insights for Contemporary Believers from Eastern Christianity،

والكتاب الثالث لمؤلّفه د. Hannah Hunt بعنوان

 Joy-Bearing Grief: Tears of Contrition in the Writings of the Early Syrian and Byzantine Fathers (Medieval Mediterranean: Peoples, Economies and Cultures, 400-1500).

أخيرًا، أتيحت للمؤتمرين فرصة الإطلاع على أهمّ الإصدارات اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة الحديثة في مقرّ المؤتمر وشراء بعضها.

في الأخير، تمكّن رئيس ومؤسّس «الرابطة اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة العالميّة (يوتا)» وجميع أعضائها والمشاركون في أعمال المؤتمر التأسيسيّ من صناعة الحدث في العالم الأرثوذكسيّ، انطلاقا من مدينة ياش الرومانيّة. وهكذا استطاع المشاركون عبر حضورهم المؤتمر، وعلى نفقتهم الخاصّة، أن يجعلوا هذا المؤتمر الأكبر أرثوذكسيًّا على مستوى العالم، ووضع حجر الأساس لمشروع تحقيق «المجمعيّة من أسفل» (Conciliarity from Below) كما يسمّيها د. غفريليوك، والدفع باتّجاه ترميم العلاقات بين الكنائس الأرثوذكسيّة، والحثّ على تبنّي نمطٍ فكريٍّ حديثٍ وممارساتٍ جديدةٍ وفعّالةٍ، تعيد المشاركة وبثّ الروح المحيية في أعضاء جسد الكنيسة الجامعة. وعليه، الجميع مدعوّون إلى التواصل البنّاء في ما بينهم من دون استثناء، والعمل بجدٍ لإعادة الكنيسة إلى ما يجب أن تكون عليه في وحدتها ومجمعيّتها، مَصنعًا للفكر وإطارًا مؤسّساتيًّا سليمًا يُؤمِّن للأعضاء كافّة أسس الحياة المسيحيّة المستقيمة!n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search