أثر يسوع الناصريّ في التاريخ
أسعد قطّان
مقدّمة
ليست عمليّة تتبّع أثر يسوع الناصريّ في التاريخ أمرًا بدهيًّا. فهي تحيلنا، بادئ ذي بدء، إلى ضرورة الانطلاق من فرضيّة قوامها أنّ أثر يسوع هذا لا يمكن فصله عن أثر الجماعة التي قالت إنّها تنتمي إليه وتتسمّى على اسمه. فالناصريّ، من حيث إنّه شخص فرد، لم يخلّف لنا أيّ أثر مكتوب. ونحن نكاد لا نعثر على أيّ وثائق تاريخيّة تختصّ به من خارج مدوّنات العهد الجديد والأدب المنحول. وهذه مؤلّفات لم يكن الهدف منها وضع سيرة ليسوع بالمعنى التأريخيّ البحت، حتّى إنّنا لا نجد وثيقةً رومانيّةً رسميّةً تؤرّخ لموت الناصريّ، وذلك شأنه شأن آلاف «المجرمين» المجهولين الذين علّقهم الرومان على الصليب. ثمّ، الناصريّ لا تصحّ مقابلته، مثلاً، بالفيلسوف اليونانيّ أفلاطون، الذي يمكننا تقصّي تأثيره في تاريخ الفلسفة، وتاريخ الفكر عمومًا، عبر استجلاء ما خلّفته مدوّناته الفلسفيّة من أثر. وإذا شئنا مثلاً آخر، لأمكننا القول إنّ الناصريّ لا تسوغ مقابلته بالإسكندر الكبير. فهذا، رغم أنّه لم يترك لنا أيّ مصنّف مكتوب، إلاّ أنّنا نستطيع تتبّع أثر فتوحاته في حركيّة التاريخ، وذلك عبر دراسة الحضارة الهلّينستيّة الناشئة من امتزاج المعطى الإغريقيّ الكلاسيكيّ بثقافات الشرق. بخلاف أفلاطون والإسكندر، أثر الناصريّ لا يمكن تتبّعه بمعزل عن أثر الجماعة المسيحيّة، حتّى إنّه يمكننا اعتبار أنّ هذا الأثر، من وجهة نظر تاريخيّة صارمة، هو إلى حدٍّ بعيد أثر هذه الجماعة.
هذا يفضي بنا إلى ملاحظة أخرى، وهي أنّنا مرتبطون بالتفسير الذي أعطته جماعة الناصريّ لحدث معلّمها. فحتّى الوثائق الأولى التي تولّد الانطباع أنّها تسرد أجزاءً من حياة يسوع، ولا سيّما حدث موته، أي الأناجيل المحفوظة في العهد الجديد، ليست شهادات محايدة، بل هي مكتوبة من وجهة نظر الإيمان بالناصريّ الذي كان عليه الكتّاب، أو كانت عليه الجماعات المسيحيّة الأولى التي نشأت في وسطها هذه الوثائق. نحن، هنا، أمام صعوبة من وجهة نظر البحث التاريخيّ تكمن في أنّنا نتعامل مع خطاب ميتا-تاريخيّ لا يمكن التحقّق من مضمونه عبر اللجوء إلى أدوات البحث، لا لأنّ هذا المضمون يقع خارج التاريخ، بل لأنّه يبقى عصيًّا على مناهج التأريخ. فإذا كان موت يسوع على الصليب، مثلاً، مسألةً يستطيع البحث التاريخيّ أن ينظر فيها، فإنّ موت يسوع «من أجل خطايانا» (ا كورنثوس 15/3) طرح لاهوتيّ يتخطّى الأدوات المنهجيّة التي يستنجد بها علم التاريخ.
الملاحظة الأخيرة التي ينبغي الإشارة إليها هنا، هي أنّ المادّة التاريخيّة المترامية تستوجب أن تأتي مقاربة أثر يسوع الناصريّ في التاريخ انتقائيّةً جدًّا، ومحكومةً بعدم قدرتنا على الإحاطة بكامل عناصر المادّة المنتقاة. السطور الآتية، إذًا، مجرّد محاولة جزئيّة لا تفي الشأن المطروح حقّه. ويجري تدارس الموضوع وفق مخطّط ثلاثيّ يعكف، أوّلاً، على السؤال عن مدى حضور أثر ليسوع في البنى السياسيّة، ثمّ ينتقل، ثانيًا، ليستجلي بعض معالم تأثير الناصريّ في الثقافة، وثالثًا في نشأة المجتمع الحديث.
الأثر السياسيّ
من النافل القول إنّ مرسوم ميلان (313)، الذي منح المسيحيّين حرّيّة الممارسة الدينيّة، أفضى إلى نمط جديد من العلاقة بين السلطة الرومانيّة والجماعة المسيحيّة. فقبل هذا المرسوم، كان أتباع يسوع معرّضين لنزق الولاة الرومان يمعنون في اضطهادهم أو يتسامحون، وذلك وفقًا لمقدار دقّتهم أو تهاونهم في تطبيق القاعدة القائلة بأنّ رفض الذبح لتمثال القيصر يشكل تقويضًا للسلطة السياسيّة القائمة، على أنّ شخص الأخير يضمن وحدة الأمبراطوريّة. طبعًا، إنّ صدور مرسوم ميلان لم يجعل المسيحيّة دين الأمبراطوريّة الرسميّ. فهذا لم يحدث إلاّ في عهد القيصر ثيوذوسيوس الكبير (379-395). غير أنّ الدعم المادّيّ والمعنويّ الذي قدّمه قسطنطين الكبير للمسيحيّين، وذلك مثلاً عبر تمويله تشييد بعض الكنائس الضخمة وتعهّده المجمع المسكونيّ الأوّل العام 325، رسم أطر علاقة من نوع آخر بين الأمبراطوريّة الهرمة والديانة الناشئة، إذ طفقت المسيحيّة تحلّ بالتدرّج محلّ الديانة الرومانيّة التقليديّة، ما أدّى إلى ضرب من الامتزاج بين الزمنيّ والدينيّ. والحقّ أنّ هذا الامتزاج تخطّى المحاولات التي قامت بها المسيحيّة في سبيل «تعميد» بعض المظاهر الوثنيّة كإبدال عيد الشمس الوثنيّ بالتعييد لميلاد المسيح. فالاقتران بين الدولة والدين عبّر عن ذاته، مثلاً، بسعي السلطة السياسيّة إلى الحدّ من تأثير الديانة الرومانيّة القديمة عبر إغلاق بعض المعابد الوثنيّة. وقد رصد سكّان الأمبراطوريّة ارتفاع أسهم المسيحيّة لدى الحكّام، فأقبل كثر منهم على المعموديّة من دون أن يكون هذا ناجمًا عن اقتناع إيمانيّ راسخ. أمّا التعبير الأرفع عن التحالف بين السلطة الزمنيّة والمسيحيّة، فكان أنّ المسيح بات يضطلع بالدور الذي كان يُنسب إلى جوبيتر في المنظومة الرومانيّة القديمة، أي الدفاع عن المملكة وتوطيد مساعي القيصر في الحدّ من هجمات البرابرة المتربّصين بها. ولقد أدّت هذه التغيّرات إلى نشوء نموذج سياسيّ جديد هو نموذج الأمبراطوريّة المسيحيّة. ومن المعروف أنّ ازدهار التيّارات الرهبنيّة في القرن الرابع أتى، إلى حدٍّ بعيد، ردّ فعل على هذا الجموح إلى الدهرنة الذي شهدته المسيحيّة بعد انعتاقها من نير الاضطهاد.
بلغ نموذج الأمبراطوريّة المسيحيّة هذا ذروته في بيزنطية. وتشكّل بيزنطية الامتداد الطبيعيّ للأمبراطوريّة الرومانيّة بعد سقوط الجزء الغربيّ منها تحت ضربات القبائل الجرمانيّة في القرن الخامس. وعت بيزنطية ذاتها في تماهٍ كلّيٍّ مع الحضارة الرومانيّة القديمة، ولا سيّما عبر قناة الحقّ الرومانيّ، وفي إخلاص للتراث الفكريّ الإغريقيّ، كلّ هذا في ظلّ الدين الجديد، أي المسيحيّة. ولعلّ المؤرّخ الكنسيّ إفسافيوس القيصريّ (نحو 260-340) هو أوّل لاهوتيّ قام بوضع شيء من منظومة سياسيّة معتبرًا أنّ الله هو مصدر كلّ سلطة في الكون، سواء كانت زمنيّةً أو دينيّة. فالكلمة الإلهيّ، أي المسيح، يوحّد في ذاته الكهنوت والـمُلك. وقلّد رسله السلطة الكهنوتيّة فيما سلّم القيصر سلطة الـمُلك. ويشير لقب «مسيح الربّ»، الذي أُطلق على قسطنطين الكبير، إلى أنّ القيصر يستمدّ الحكم من المسيح مباشرةً. وعند إفسافيوس المهمّات المنوطة بالقيصر هي إحقاق العدل وتحقيق السلام وسنّ القوانين، على أن تأتي هذه كلّها في انسجام مع الشرائع المسيحيّة.
من البدهيّ أن ينشئ هذا القول بمصدر إلهيّ واحد للسلطتين الزمنيّة والدينيّة تقاربًا بين النطاقين. عبّر الفكر البيزنطيّ عن هذا التقارب بواسطة اللفظ اليونانيّ «سمفونيّا»، الذي يدلّ على التوافق والانسجام والوئام مع إعطاء نوع من التقدّم للقيصر. طبعًا، لا بدّ من التمييز بين الفهم النظريّ لمبدأ «السمفونيّا» وتطبيقه العمليّ. نظريًّا، لا يُستدلّ من هذا المبدأ على ذوبان الدينيّ بالزمنيّ. فمجرّد الافتراض أنّنا نتعامل مع كتلتين يجب أن تتواءما يحيلنا إلى اختلاف بينهما. ولكنّ الاختلاف لا يعني الخلاف، ولا الانفصال بطبيعة الحال. كما عبّر القيصر ليون السادس (886-912) عن ضرورة التآزر بين الزمنيّ والدينيّ في بيزنطية، عبر قوله إنّ سلام الرعيّة يرتبط بالتوافق بين الملكيّة والكهنوت في الأشياء كلّها. كما ينسب المؤرّخ ليون الشمّاس (مولود نحو العام950) إلى القيصر يوحنّا تسيميسكيس (969-976) قوله إنّه يعترف بسلطتين هما الكهنوت والأمبراطوريّة. ويضيف القيصر ما معناه أنّ خالق العالم عهد إلى السلطة الأولى بالاهتمام بالنفوس، فيما أوعز إلى الثانية بأن تهتمّ بالأجساد. فإذا لم تُصَب أيّ منهما بأذى، كان سلام العالم في أمان. تُشدّد هذه المقاربة النظريّة على ما روّج له إفسافيوس أنّ كلا السلطتين الزمنيّة والدينيّة ذو مصدر إلهيّ، ما يحتّم عليهما التعاون والتآزر والانسجام في سبيل تحقيق الخير العامّ.
سعى الأباطرة إلى وضع هذا المبدأ النظريّ حيّز التنفيذ عبر ما قدّموه من دعم للكنيسة، ولا سيّما عبر إقامة المجامع المسكونيّة وترؤّس بعض جلساتها والعمل على نشر مقرّراتها. ومن المعروف أنّ قوانين هذه المجامع لم تكن تكتسب سلطةً ما لم يوقّعها القيصر، جاعلاً إيّاها جزءًا من المنظومة الحقوقيّة في الأمبراطوريّة. غير أنّ مقولة السمفونيّا، على ما تختزنه من نزعة إلى وجوب بقاء العلاقة بين الكنيسة والدولة علاقة تآزر إيجابيّ، ظلّت إلى حدٍّ بعيد أسيرة الحيّز النظريّ. فالقيصر هو مَن كان يختار البطريرك، وذلك انطلاقًا من لائحة ثلاثيّة الأسماء يقدّمها له المجمع المقيم في القسطنطينيّة. أمّا الخلافات ذات الطابع الإداريّ أو الخلقيّ التي كانت تقوم بين القيصر والبطريرك، فكثيرًا ما كانت تُحسم لمصلحة القيصر وصولاً إلى عزل البطريرك أو حتّى نفيه، كما يدلّ مثل يوحنّا الذهبيّ الفم (نحو 344-407) وفوتيوس (نحو 820-891). وثمّة أمثلة تشير إلى أنّ القياصرة حاولوا فرض آرائهم حتّى في الشؤون العقيديّة، كمحاولة القيصر هرقل (610-641) وحفيده كونستانس الثاني (641-668) إنزال القول بالمشيئة الواحدة في المسيح منزلة الرأي العقيديّ الرسميّ، أو محاولة كلّ من ليون الثالث (717-741) وقسطنطين الخامس (741-775) دفع الأمبراطوريّة في اتّجاه مذهب معاداة الأيقونات. هذه المحاولات غالبًا ما كانت تصطدم بمقاومة اللاهوتيّين. فنجد القدّيس مكسيموس المعترف (580-662)، مثلاً، يؤكّد خلال محاكمته، التي جرت في القسطنطينيّة نحو العام 655، أنّ القيصر ليس كاهنًا، وذلك رغم ما كان يتمتّع به من امتيازات ليتورجيّة في التقدّم إلى المائدة المقدّسة وتناول جسد الربّ ودمه بيديه. أمّا القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (نحو العام 750)، فيرى أنّه ليس من حقّ القيصر البتّ في الأمور المتّصلة بعقيدة الكنيسة.
التداخل المفرط بين المؤسّسة الكنسيّة والسلطة الزمنيّة كان، ولا شكّ، سببًا في تنصّر الكثير من الشعوب التي عاشت ضمن إطار الأمبراطوريّة الرومانيّة أو في محاذاتها. إذ أخذ القياصرة المسيحيّون على عاتقهم التضييق على معاقل الوثنيّة، وصولاً إلى إغلاق جوستينيان (527-565) الأكاديميّة الفلسفيّة في أثينا العام 529، ودعموا الجهود التبشيريّة التي كانت الكنيسة تقوم بها حتّى في ما يتخطّى حدود الأمبراطوريّة الرومانيّة. ونذكر هنا، على سبيل المثال، تنصّر الشعوب السلاڤيّة، الذي يعود الفضل فيه إلى القدّيسَين كيرلّس (826-869) وميثوذيوس (815-885). والحقّ أنّ مثال السلاڤ يؤكّد قدرة الكنيسة على خلق حضارة مسيحيّة جامعة لدى الشعوب المتنصّرة حديثًا. فهي تمتدّ من مساهمة المبشّرين في وضع مداميك الأبجديّة المدعوّة «كيريليّة» (نسبةً إلى القدّيس كيرلّس)، مرورًا بأنماط الحياة المتأثّرة بالذوق البيزنطيّ وصولاً إلى الفنّ والأدب بعامّة، إذ نكاد لا نجد عند السلاڤ، في الحقبة التي تلت تنصّرهم، أيّ إنتاج ثقافيٍّ رفيع من خارج المنظومة الدينيّة المسيحيّة. ولعلّ الملاحظة ذاتها تنطبق، إلى حدٍّ بعيد، على القبائل الجرمانيّة، التي بذل باباوات روما جهودًا جبّارةً في تنصيرها، رغم أنّ عناصر الديانة الوثنيّة القديمة تبدو أكثر حضورًا في المسيحيّة الجرمانيّة من حضورها في المسيحيّة السلاڤيّة.
لا بدّ للمؤرّخ، إذًا، من الإقرار بمساهمة النموذج التداخليّ بين السلطة الزمنيّة والسلطة الدينيّة، في خلق حضارة تصبو إلى أن تكون تجسيدًا للمبادئ المسيحيّة في تفاصيل الحياة اليوميّة برمّتها. يضاف إلى ذلك أنّ هذا النموذج التداخليّ، الذي يشدّد على مسؤوليّة القيصر في إدارة شؤون الدنيا، كان أكثر قدرةً على تجنيب بيزنطية الصراع الذي شهده الغرب المسيحيّ، خلال القرون الوسطى بين رئاسة دينيّة ورئاسة زمنيّة تسعى كلّ منهما إلى الاستئثار بكامل السلطة، وقول الكلمة الفصل في شؤون الحياة جميعها. ومن المرجّح أنّ هذا الصراع كان واحدًا من العوامل التي استتبعت فصل الدين عن الدولة في أوروبّا الناشئة بعد عصر التنوير والثورة الفرنسيّة. غير أنّ الإقرار بالمساهمة الإيجابيّة لهذا النموذج التداخليّ ينبغي ألاّ يسوقنا إلى التعامي عن مساوئه، ولعلّ أبرزها يكمن في عدم رسمه حدودًا واضحةً بين الكنيسة والدولة، ما يجعل المؤسّسة الكنسيّة أكثر عرضةً للتماهي مع الشأن الزمنيّ. والحقّ أنّ نموذج السمفونيّا الذي ساد في بيزنطية ثمّ تلقّفته الدول القوميّة الناشئة من رحم السلطنة العثمانيّة، ولا سيّما في شبه جزيرة البلقان، ليس غريبًا عمّا نلقاه لدى الشعوب الأرثوذكسيّة هناك من مفاهيم تعتبر الكنيسة حاميةً للإرث القوميّ، أو من نزعة بعض قادة الكنيسة إلى التحالف مع الساسة. يضاف إلى ذلك أنّ الأثر الذي يتركه هذا النموذج في السيكولوجيا الجماعيّة يبدو أنّه يعرقل، أو يربك، إقامة فصل حقيقيّ بين الدين والدولة. وهو فصل بات اليوم ضروريًّا في مجتمعات تتّصف بتعدّدها الدينيّ، إذ من غير المنصف أن يتماهى الحكم مع منظومة دينيّة واحدة، وإن تكن لها السيادة العدديّة، على حساب المجموعات الدينيّة الأخرى الأقلّ أهمّيّةً من حيث العدد.n