الأب جورج مسّوح
في الذاكرة
رضوان السيّد
عرفت الأب جورج في التسعينات، عندما كان يحضّر أطروحته للدكتوراه في موضوع طريف ومهمّ، هو معارف المسلمين عن المسيحيّة والمسيحيّين في الأزمنة الحديثة. وكان شديد الاستغراب لضآلة المعرفة حتّى لدى المتخصّصين. وكنت أسارع إلى إحضار كتب وسلاسل كهنة الكسليك عن الإسلام خلال الحرب الأهليّة. لكن عندما توثّقت علاقتنا، صارت المسألة مشكلة تستدعي النقاش المعمّق. كانت وجهة نظره أنّ الرؤية المتعكّرة لدى المسلمين عن المسيحيّين في لبنان، سببها سوء العلاقة في الحقبة الحاضرة، وأنّه لا بدّ من بذل جهد على الأرض، وعلميّ ومدرسيّ لتغيير النظرة لدى الطرفين. لكنّه ظلّ شديد الاستغراب من رؤية أو رؤى المسيحيّة والمسيحيّين في الكتابات بالدول العربيّة، والتي ما خلت من نزاعات بين المسيحيّين والمسلمين خلال المائة عام الأخيرة. وكنت أرى أنّ العيش المشترك أفضل حالاً من الدراسات التي يكتبها الطرفان كلّ منهما عن الآخر. وهي بالفعل لا تنمّ عن اهتمام حقيقيّ بدليل اعتماد المسيحيّين في كتاباتهم عن الإسلام على النظريّات الاستشراقيّة، واعتماد المسلمين على القرآن وكتب الردود القديمة. وعلى كلّ حال عندما أنشأت جامعة البلمند مركز الدراسات المسيحيّة-الإسلاميّة، اتّفقنا على أن أدرّس أنا علم الكلام الإسلاميّ، بينما يدرّس هو اللاهوت المسيحيّ في المعهد العالي للدراسات الإسلاميّة في المقاصد. وكانت السنوات الخمس أو الستّ التي تشاركنا فيها بالمركز هي الأكثر تبادلاً واغتناء بالمعرفة والتجربة الإنسانيّة. إذ لم نكن ندرّس معًا ونناقش الأطروحات فقط. بل كانت هناك مؤتمرات صيفيّة يحضرها دارسون مسلمون ومسيحيّون من خارج لبنان أيضًا. وصدرت عن أعمالها كتب ما تزال تشهد للتجربة، والتي تأثّرت موضوعاتها باهتمامات الأب (مسّوح) مثل النظرات المتبادلة والمرايا المتقابلة، ومثل القيم المشتركة ومفارقاتها. ولا أذكر من اقترح فكرة المرقب أو المرصد Observatory، لكنّ الأب (مسّوح) تحمّس للفكرة كثيرًا، وحاول إنفاذها على مدى عامين أو أكثر. قال لي مرّة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريريّ: لست متفائلاً مثلك ( كنت متفائلاً بتجربة 14 آذار)، لأنّه حتّى في زمن رفيق الحريريّ كنّا نحاول استعادة تجربة ما قبل الحرب. وما نجحنا بالطبع في ذلك لأنّ تلك التجربة كانت في وعينا انقساميّة، ونحن نبحث عن توحيد وإحياء. وفي السنوات القليلة القادمة سيكون الوعي أشدّ انقسامًا، وسيبحث كلّ فريق عن هويّة خاصّة، وأنت تمزح معي دائمًا بشأن المرايا المتقابلة وستصبح متعاكسة؟
شاركت أخي جورج (مسّوح) في مناسبات ثقافيّة وزيارات كثيرة، ومؤتمرات عديدة خلال عقد من الزمن. بيد أنّ أجمل مناسبتين كنّا فيهما معًا هما حين تعرّفت إلى أسرته، الزوجة والصغيرات، وحين صدر كتابه الخيرات الآتية واحتفينا به. المناسبة الأولى: الزيارة العائليّة صارت عادة لنا أن نلتقي في منزله مرّة أو أكثر في العام. وشهدت الصغيرات يكبرن وجدال زوجتي معه: الشبه للأب أو الأمّ. وأمّا الكتاب فإنّ مسّوح أحسن في اختيار العنوان الإنجيليّ الذي يشير إلى موضوع الكتاب بالفعل. وقد قال هو نفسه في إحدى لحظات سعادته: الخيرات الآتية ليست في بُعدها الإسخاتولوجيّ، بل في بُعدها الإنسانيّ أيضًا. ولا يبدو أنّ الجهات السياسيّة سيأتي منها خير كثير، فليكن أملنا في المجتمع، مجتمع العيش المشترك والخير العامّ.
جورج (مسّوح) هو إنسان الطيبة والوداعة. وهو نادرًا ما يثور، وإذا فعل فلأنّ الأمور باتت عصيّة على القبول أو الاحتمال. وقد تشاورت مع بعض الباحثين الذين كانوا يحضّرون الندوة الصيفيّة السنويّة، وبعد مطالعة عذبة قدّمها الأب مسّوح، توصّلنا إلى أنّ مفتاح شخصيّته يكمن في الأمانة: الأمانة لأسرته، والأمانة للكنيسة، والأمانة للرعيّة ومعها، والأمانة لرسالة الخيرات الآتية؛ رسالة الأمل والرجاء، والودّ مع من يعرف ومن لا يعرف.
لا تستطيع أن تختلف مع جورج (مسّوح)، لأنّه حتّى وإن أعرضت لأيّ سبب فهو الذي يبادر إلى الإقبال. ومع ذلك فقد اختلفنا، بشأن الوضع في سورية. وقال لي مرّة قبل القطيعة التي أتحمّل مسؤوليّة القسط الأوفر منها: أنت تتحدّث عن الأمل بالثورة، ونحن نتحدّث عن الخوف من الثورة. والمصيبة أنّ المسيحيّين، كما قال، ما كانوا مستفيدين من الوضع السابق، وأيًّا يكن ما يحصل أو ما تؤول إليه الأمور، فلن يكون في ذلك خير لهم، ألا تعرف يا أخي ما معنى الانشلال من الخوف؟ في رأيك الخوف موهوم، وفي رأينا هو أمر محقّق. قد لا تكون الحياة مهدّدة، لكنّ الوطن مهدّد، وأين هي إنسانيّة الإنسان من دون وطن؟ ألا ترى حال الفلسطينيّين؟
ما أصعب الأمانة وأشقّها على أهل الإيمان المستقيم، فالانصراف عنها غير متصوّر؛ والإصرار عليها هو الموت بعينه. وعندما يموت الإنسان فإنّه يموت وحده. أمّا الصعب الصعب فهو هذا الموت المجزّأ أو المقسّط. يموت أحد من أهلك فيموت جزء منك. ويموت أخوك فتفقد جزءًا آخر. ويموت صديقك فتفقد ما لا يمكن تعويضه، من الإحساس بالوحشة وإلى الإحساس بالغربة. هكذا مات صديقنا وأخونا جورج (مسّوح)، وهكذا أحسّ به كلّ منّا بين الفقد والفقدان. فالذكرى لوعة والنسيان له طعم الفجيعة.
في ذكرى جورج (مسّوح)، نقف نحن أصدقاءه وعارفيه متأمّلين في رجل الدين الورع، والمثقّف المنفتح، والمواطن الصالح، وربّ الأسرة العطوف والمحبّ، فيرى كلّ منّا فيه الوجه الذي يحبّه ويؤثره:
وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام