الاعتراف
الأب إيليّا متري
ثمّة أفكار عدّة، تتعلّق باعتراف المؤمنين أمام الكهنة، تضربنا من الخارج وفي الداخل. ولا أقول أمرًا غيرَ معروف إن ذكرتُ أنّ مؤمنين كثيرين يجهلون أنّ ثمّة اعترافًا بالخطايا أمام الكهنة في كنيستنا الأرثوذكسيّة. وبعضُهم، على انتشار الوعي، ما زالوا يعتقدون أنّ كلّ تقدّم من القرابين المقدّسة يعوزه اعتراف قبله. وآخرون يرفّعون أبًا معرِّفًا على آخر. وابتدع بعضُ قومٍ، في أنطاكية العظمى، اعتقادًا أنّه لا يجوز أن يعترف مؤمن أمام كاهن متزوّج. وثمّة أفكار أخرى ربمّا ينفع ذكرها في مساهمات أخرى.
كنتُ أودّ أن أضع علامة تعجّب في نهاية كلٍّ من هذه الأمثلة الغريبة العجيبة. وخوفًا من أن تُعتبر علامة وقف عاديّة، أو أن يفوت الإخوة القرّاء أن يلاحظوها، ها إنّي أخطّ تعجّبي ظاهرًا! فما ذكرتُهُ، يرمي في العجب فعلاً! وإن كنتُ لم أفصل فيه بين ما يأتي من الخارج أو يتحرّك في داخل البيت (الكنسيّ)، فلأنّ ما نسمعه في الخارج وجد لذاته طريقًا رحبًا إلى الداخل!
حتّى لا أستغرق في الردّ على أمثلة غريبة، يحلو لي، صدًّا لأيّ تأويل، أن أذكر أنّ تراثنا ترك لكلّ مؤمن حرّيّة أن يختار الاعتراف أمام أيّ كاهن يريد. وهذا يكشف، عمومًا، أنّ الاعتراف، الذي لا يمكن أن يقرّره أحد عن سواه (إلاّ إن اقتضت المرافقة ذلك)، قائمٌ جوهرًا في سرّ العلاقة التي تجمعنا باللَّه. لا أقصد أنّ الاعتراف حرّ من الجماعة وما يثيره إرثها في غير وجه من وجوهه (الليتورجيّة أو الفكريّة أو النسكيّة أو الفنّيّة...). فحياتنا الكنسيّة هدفها كلّها أن نذكر نقاء قلوبنا التي لم يطلب الربّ منّا سواها (أمثال 23: 26). وقد يأتيك ذكر قلبك، في آنك عينه، من كلمة عابرة أو من تصرّف مبرور. وهذا، الذي يمنعنا من حصر عمل روح الله في أيّ إطار محدّد، شرط من شروط استقامة تعليمنا عن التوبة والاعتراف، بل عن الأسرار كلّها. فالربّ، الذي يعمل في الحدث دائمًا، قادرٌ، دائمًا أيضًا، على أن يحوّل المصادفة إلى حدث.
ثمّ يجب أن نذكر أنّ تراثنا لم يضع حاجزًا بين البرّيّة والمدينة. وهذا يبيّنه أنّ هناك مؤمنين، يحيون في المدن، كانوا، في غير جيل، يقصدون الديورة طلبًا لـ«كلمة حياة»، أو لصلاة نافعة، أو للاعتراف وطلب الرُشْد. ونعرف أنّ بعضًا منهم كانوا يعينون الآباء الشيوخ على بيع بعض ما تنتجه أياديهم عونًا لحياةٍ توافق الوصيّة: «إذا كان أحد لا يريد أن يعمل، لا يأكل» (2تسالونيكي 3: 12). وهذا دليل دامغ على أنّ الحركة الرهبانيّة، منذ أن نشأت، سكنت عيون المؤمنين وقلوبهم. فالبرّ ينادي البرّ. ومن الخطأ القاتل أن نضع حدودًا لاستقائه. كلّ ينبوع، شرّعه روح الحقّ، اللَّه يدعونا إلى أن نغرف من معينه.
هذا، واضحًا، يلزمنا أن نكشف وضوحه إلى كلّ مَنْ تساوره نفسه أن يبتدع أمرًا لم يرد في تراثنا. ومن عمق هذا الوضوح عينه، يجب أن نعلّي الصوت أنّنا، فيما نستقبح جهلَ أنّنا نمارس الاعتراف وربطَ كلِّ مناولةٍ به وترفيعَ مكلَّف على آخر وتحقيرَ الكهنوت بتفضيل العازب على المتزوّج، نستقبح، في الآن عينه، كلّ ما يجعل الاعتراف محصورًا في جلسة يقيمها مؤمن مع أبيه الروحيّ. لقد بيّنا، أعلاه، خطأَ حصرِ عملِ الروح. وهذا ينفعنا أن نذكره دائمًا. ومن النوافل القول إنّ حصر الاعتراف في جلسة يمكن أن يؤدّي إلى فصل نتائجه عن حياة رعايانا فصلاً كلّيًّا. كلّنا يعلم أنّ الخطيئة تفصل مرتكبها عن شركة الكنيسة. ونعرف أنّ قوانين كنيستنا تعجّ بذكر عدد السنوات التي على بعض الذين أخطأوا أن يقضوها خارجًا. وإن تسلّمنا أنّ عودتنا إلى حضن الله شرطها أن نبدي توبةً صادقةً إلى كنيسته أيضًا، ولا سيّما إلى الموقع الذي نحيا فيه، فأمر يجب أن يعني أنّ كلّ اعتراف، لا تظهر بركات نتائجه في مواقعنا، يشوّه أنّه عودة. لقد أكّدنا أنْ ليس علينا أيّ حرج في أن نعترف أمام مَن نريد. ويجب أن نؤكّد أنّ هذا لا يشرّع لنا، بتاتًا، أن نهجر جماعة الإخوة. ليس الاعتراف أن أتنقّى، فرديًّا، من عيب لطّخ ثيابي البيضاء، بل هو، دائمًا، أن أشفى من هجرتي أخوتي. ومع الإخوة، يحيا المؤمن في اعتراف مستمرّ. وهذا من طبيعة اعترافنا ومداه.
أمّا ما يجب أن يبقى أمام عينَينا أبدًا، فهو أنّ اللَّه، الذي يقبل توبتنا، يريدنا أن نستقبح كلّ سقطة وقعنا فيها، وفي آنٍ أن نتعلّم منها. إن آمنّا بأنّ التوبة تهبنا أن يمحو اللَّه عنّا كلّ إثم ارتكبناه، فهذا يلزمنا أن نظهر أنّنا فهمنا أنّ الخطيئة، التي قال نبيّ عظيم إنّها «أمامه في كلّ حين» (مزمور 50)، أمر يأباه اللَّه الذي كشف حقّه في ما سلّمنا إيّاه من تعليم حيّ، لنهرب من سماجة تكرار كلّ إثم. ويجب أن نعرف أنّ اللَّه، الذي يودّنا أنقياء دائمًا، يتابعنا، إن أخطأنا، ليردّنا إليه أبناء أحبّاء. ومن صميم إيماننا، أن نذكر أنّ كلّ خطيئة نرتكبها، تؤهّلنا توبتنا عنها لأن نخدم كلّ أخ ارتكب زلّةً، أو هذا ما يجب. فللتوبة خدمتها التي تزيدنا حبًّا ووعيًا أنّ أيًّا من الإخوة، إن أخطأ علنًا، لا يحقّ لأحد من الناس أن يدينه. فهذه الكنيسة، التي تجمعنا استقامتها، أبانت أنّنا لا نخلص بسوى الرحمة. وليس أعظم من حضن الجماعة يحمي، ويكشف أنّ اللَّه ينتظرنا دائمًا، ليضمّنا إلى صدره وبعضنا إلى بعض. هذه هي قاعدة الحياة الجديدة أن نحيا، معًا، في نقاء لا بدّ من أن يستعمله الربّ، ليبقى نوره يشعّ «في بقعة الموت» (متّى 4: 16).
هذه سطور عجلة أدفعها إلى عيون الإخوة راجيًا، إن رأوا مناسبًا، أن يتأمّلوا فيها في هذا الصوم المطلّ.n