2018

12. خاطرة: صديقي العزيز - الشمّاس بول (نقولا) – العدد الثامن سنة 2018

صديقي العزيز

الشمّاس بول نقولا

 

ناداني من خلف زجاج مسكنه، فتغاضيت عن النداء، وإذ ألـحّ هتافًا، حاولت اصطحاب جاره، فصرخ قائلاً: «أنا مناديك فلماذا تتجاهلني، دع يدك تلامسني».

فسألت: «وماذا بعد الملامسة»

فأردف مجيبًا: «أن تمسح الغبار عنّي لتراني بشكلٍ أفضل، وتشتمّ رائحة ملابسي التي لطالما عشقتها، وما زالت هي هي لم تتغيّر، وتداعبني بين أناملك فقد اشتاقت نفسي إلى أن تسمّعك بشارتي السارّة، أريدك أن تتنزّه على أرصفة أسطري لتستحضر الأطلال، وأن تدخل زواريب كلماتي لتسترجع الذكريات، أريدك أن تحفظني في قلبك لنعود واحدًا، وتبشّر سائلك بأسراري المعلنة من قبل إنشاء العالم».

وأكمل معبّرًا: «مللت الانتظار على ذراعي أمي اللتين صنعتم منهما ألواحًا ورفوفًا، فأخرجني للعلن. مللت المكوث بين أغصانٍ جعلتموها ورقًا تلبس الحبر رداءً.

أريد أن أستلقي في عقولكم وأن أسير في عروقكم وأن أكون أحاديث جلساتكم وأفعال يوميّاتكم.

أنا الإنجيل لم أوجد لأطرح في زوايا التجاهل، بين كتبٍ ليست من جنسي، وأخرى من جيل أحفادي، فأنا أبو تلك الكتب وجدّها وليس من كتابٍ أعظم منّي. قد وجدت ليعرفني كلّ الناس، فأنا أعشق الشهرة وأعشق الأضواء فلِمَ تستوحدني؟ أنا للانفتاح أمثولةٌ وأنانيّتك تغلق عليّ في مكتبةٍ كما في قفصٍ، فلا أنت تعود تعرفني ولا تريد أن يعرفني الآخرون.

أنا الإنجيل ولدت وحيدًا، واختيرت لي أمّ، ومن يشبهني من كتبٍ دعي لي أخًا، كلماته مستمدّة من كلماتي، وأفكاره مستشهدة بأفكاري.

أنا الذي بسط يديه معلّقًا على صدر أمّه، علّقني في خفايا صدرك، هناك داخل قلبك.

أنا الذي مدّدني أعداء الحقّ في ظلمةٍ مكفّنًا، لا تطرحني على خشبةٍ مغّبّرًا.

أنا الذي أعلن ذاته نورًا خارجًا من غرفةٍ سوداء قاتمة، أخرجني من فيك قربانًا غالبًا.

أنا الذي دفع دمه ثمن خلاصك، لا تدفع فيّ الثلاثين للتباهي، ولا تجعلني زينةً تفاخر باقتنائها.

أنا الذي قطّع سلاسل خطاياك ومحاها، لا تكبّلني بدنيويّاتك الرخيصة التافهة.

أعطني حرّيّتي، أطلق لساني ...»

وعندما رآني مصعوقًا، مصدومًا، صامت اللسان، جامد الحركات، مسمّرًا أسمع، حتّى إنّ نبضات قلبي كادت تفارقه، صمت هو أيضًا، لكنّ صاحب الكتاب تدخّل، وبسبب بكثرة رأفته حرّك يدي التي زمنت يابسةً، فركب على متنها ذاك الصديق القديم، الوفـيّ العزيز، واقترب من شفتيّ، قبّلته، بللته من دموعٍ تمشّت على الوجنتين من دون استئذان، مسحته بشعري، ضممته بين ذراعيّ، سهرت على إرضائه حتّى بزوغ الفجر، أمّا هو، فنام ليلة هنيئةً بين كفّيّ، تتقلّب صفحاته بين أناملي من جنب إلى جنب، مطمئنًّا على صيدٍ متجدّدٍ. وعندما أضاءت السماء بأنوارها، ألفيته في منزلي أنا، قرب سريري، في المكان الذي اعتاد أن يستريح إليه قبل الطلاق، وكأنّي بذا ألبسه الحلّة الأولى، فأراني ألبسها لنفسي، ومن ثمّ استأذنته إلى العمل مع وعدٍ باللقاء القريب القريب. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search