بيزنطية بعد بيزنطة
الجداريّات
ريمون رزق
نمت في كلّ من صربيا وروسيا وبلغاريا مدارس للرسم الأيقونوغرافيّ، حافظت على القوانين الفنّيّة البيزنطيّة، وأضافت إليها نتاج عبقريّاتها الخاصّة، فأثّرت بدورها في بعض جوانب الفنّ البيزنطيّ الأخير. تزيّن الأديرة الصربيّة جداريّات فائقة الجمال. صحيح أنّ كتّاب أيقونات من القسطنطينيّة أتوا صربيا، تلبية لدعوة ملكها ميلوتين (1282- 1321)، يُذكر من بينهم الأخوان أستراباس (ميخائيل وأوتيخوس)، ومانويل بانسِلينوس، وجاورجيوس كالييرغيس وميخائيل برويلِفسيس، وأسهموا في صنع جداريّات كنائس الأديرة القديمة. لكن ما لبث الفنّانون الصرب، انطلاقًا من القرن الرابع عشر، وربّما قبله بقليل، أن تولّوا المهمّة وتابعوها، بخاصّة في دير غراتشانيكا بين 1318 و1321، ودير ماناسيجا في منتصف القرن الخامس عشر وغيرهما، كما أثّروا بدورهم في كتابة جداريّات أديرة ميسترا في اليونان في الربع الثاني من القرن الخامس عشر، وفي جزيرة كريت في أواخر القرن الرابع عشر ومطلع القرن الخامس عشر. امتدّ هذا التأثير المتبادل في القرن السادس عشر إلى أديرة جبل آثوس ومولدافيا وفلاشيا وصربيا ومكيدونيا. ورغم الاحتلال التركيّ ظلّ هذا التأثير قائمًا في بلغاريا القرن السابع عشر، في أديرة كثيرة، بخاصّة في تورنوفو وأرباناسّي، علمًا أنّه في القرون الوسطى كانت معظم جداريّات بلغاريا مطابقة للتقليد الفنّيّ البيزنطيّ، كما يظهر في جداريّات كنيسة بويانا على مقربة من صوفيا، التي كُتبت نحو السنة 1259، والتي تعتبر منظّمة الأونيسكو أنّها «أهمّ مجموعة من رسومات القرون الوسطى».
لنعد إلى الجداريّات الصربيّة والمكيدونيّة التي أُعطي لنا أن نشاهدها ونشعر أنّ السماء نزلت على الأرض. يعجز الإنسان عن وصفها جميعًا، إذ لا يمكن للكلام أن يعطيها حقّها. فالأفضل إذًا اختيار بعضها، عالمين أنّ كلّ اختيار ينقصه الإنصاف.
كنيسة آيا صوفيا في أوخريدا
تُدعى مدينة أوخريدا «أورشليم البلقان» بسبب كثرة الكنائس فيها. يروي رحّالة عثمانيّ في القرن السابع عشر أنّه كانت توجد في أوخريدا في أيّامه 365 كنيسة، واحدة لكلّ يوم من أيّام السنة. لا بدّ من أنّ هذه الرواية تفتقد إلى الدقّة. لكن مهما كان من أمر، فإنّه يوجد اليوم فيها نحو عشرين كنيسة. أكبرها هي كنيسة آيا صوفيا، التي شُيّدت في القرن الحادي عشر فوق أنقاض بازيليكة مسيحيّة قديمة، وأُدخلت عليها تعديلات في القرنين الرابع عشر والسادس عشر، قبل أن يحوّلها الأتراك إلى جامع. إنّها ذات طابع بازيليكيّ بيزنطيّ مع ثلاثة أروقة وثلاثة صدور. واحدهم مثمّن الأطراف (خارجيًّا) والآخران بشكل نصف دائرة.
كُتبت بعض جداريّاتها الباقية في القرن الحادي عشر، ومنها «الأرحب من السموات» التي كُتبت في الزمن الذي كُتبت فيه الجداريّة ذاتها (لكن بالفسيفساء) في كنيسة آيا صوفيا في كييڤ..
والبعض الآخر كُتب في القرنين الثاني عشر والرابع عشر. من أجملها جداريّة الربّ محاطًا بالملائكة.
كنيسة السيّدة «بيريبليبتوس» في دير القدّيس إقليمس الأوخريديّ في أوخريدا
توجد الكنيسة ضمن مجمّع يحتوي على أنقاض ثلاث بازيليكات مسيحيّة من القرون الأولى، وأنقاض المدرسة اللاهوتيّة القديمة أيّام القدّيس إقليمس. شيّد دير القدّيس إقليمس السنة 893. أمّا كنيسة السيّدة فترجع إلى أواخر القرن الثالث عشر (1295). تعني عبارة «بيريبليبتوس» «المنظورة من كلّ مكان»، نسبة إلى موقعها العالي. استُعملت كاتدرائيّة للمدينة عندما تحوّلت كنيسة آيا صفيا إلى جامع. تحتوي على مجموعة جداريّات رائعة كتب أقدمها الأخوان أستراباس، نبيّن عددًا منها لجماله ألوانها وحيويّتها
كنيسة القدّيس بندِليمون في نيريزي بالقرب من سكوبييه في مكيدونية
يُعتقد أنّ هذه الكنيسة كانت جزءًا من الدير الذي شيّدته ابنة الأمبراطور البيزنطيّ ألِكسيوس الأوّل كومنين (1081- 1118) وشقيقة أنّا كومنينا، التي كانت أكثر النساء ثقافة وتأثيرًا في عصرها. وهي واحدة من الكنائس المخمّسة القبب القليلة من القرن الثاني عشر التي لا تزال موجودة. زُيّنت بالجداريّات عند اكتمال بنائها، وتضرّرت بسبب الهزّة الأرضيّة التي ضربتها في القرن السادس عشر. نبيّن منها مشاهد صلب المخلّص ودفنه التي تمثّل إحدى قمم الفنّ البيزنطيّ.
كنيسة الصعود في دير دِتشاني
قيل عنها إنّها «الصرح الأهمّ لماضي صربيا المجيد والورع... وإحدى الإبداعات الأكثر كمالاً للبناية الكنسيّة البيزنطيّة». ومَن يرى هذه الكنيسة التي توازي عمارتها جمالاً ووقارًا جداريّات داخلها لا يمكنه إلاّ الموافقة على هذا القول.
شُيّدت الكنيسة في منتصف القرن الثالث عشر فوق أنقاض بازيليكا مسيحيّة من القرن السادس. كُتبت معظم جداريّاتها نحو السنة 1320.
كنائس البطريركيّة في بيتش
شُيّدت في منتصف القرن الثالث عشر وزُيّنت بالجداريّات نحو السنة 1260، لكن لم يبق من جداريّاتها الأصليّة إلاّ في القسم الجنوبيّ للكنيسة، في الدياكونيكون، حيث توجد جداريّة النبيّ إلياس الشهيرة.
شُيّدت بين 1234 و1236. تحتوي على بعض الجداريات من الربع الثاني من القرن الثالث عشر، أهمّها ما يُدعى «بالملاك الأبيض».
شُيّد الدير في أواخر القرن الثاني عشر وهو أكبر دير صربيّ. كنيستاه مكسوّتان بالرخام الأبيض.
كنيسة سيّدة لجِفيزا في بريتزرين في كوسوفو
بدأ تشييدها نحو السنة 1306 وهي بازيليكة ذات ثلاثة أجنحة وخمس قبب، وكتب جداريّاتها أحد الإخوة أستراباس بين 1310 و1313. أحرقها الألبان أثناء حوادث كوسوفو الأخيرة، ولم يبق من جداريّاتها سوى القليل. مع ذلك بقيت سالمة جداريّتا والدة الإله والسيّد الفائقتا الجمال.
ننهي بهذه الجداريّات من كوسوفو بعد أن توقّفنا عند جداريّات أديرة وكنائس صربيا ومكيدونيا والجبل الأسود، ولا يسعنا إلاّ أن نتأسّف أن يكون العنف والتعصّب المعاصرين أتلفا أعمالاً من هذه القيمة الفنّيّة السامية! ألا سمح اللَّه بأن يُحفظ ما بقي حتّى الآن قائمًا في كوسوفو، وإلاّ سيفقد العالم الحنان الذي ينسكب من عينيّ العذراء في هذه الجداريّة في كنيسة بريتزرين!n