2018

8. تحقيق: كنيسة الضيعة - جان توما – العدد الثامن سنة 2018

كنيسة الضيعة

جان توما

 

قامت كنيسة الضيعة، في بصرما- الكورة، على اسم القدّيس الشعبيّ جاروجيوس في موقع نمت حوله البيوت، وازدهرت بالعائلات المؤمنة. تصل إلى كنيسة الضيعة عبر منعطفات تكاد السيّارة العابرة تأخذ حيطان الدور السكنيّة المتجاورة المصطفّة من دون ترتيب، في استفادة من البراحات والمساحات الصغيرة الضائعة لتأمين سعة للساكنين في الداخل.

كنيسة الضيعة:

تتألّف الكنيسة من ثلاثة أقسام، تبدأ بقنطرة وأربعة أعمدة من الحجارة المرتبّة من صخر الجبل العالي المجاور، ثمّ استكملت بقاعة من الحجارة العاديّة المجموعة من بساتين القرية والحقول المجاورة، ليرتفع الصلبوت فوق أيقونسطاس يعود تاريخ صنعه إلى العام 1893، ثمّ استلحقت القاعة الجديدة بقنطرتين أقلّ ارتفاعًا لاستقبال العدد المتزايد من أهل القرية، الذين عادوا وزادوا طبقتين حديثتين للمناسبات وللتعليم الدينيّ ورعاية الشباب.

هي كنيسة «القادومية» في القرية، يصل إليها المؤمنون مشيًّا من بيوتهم أو من بساتينهم، يوقفون أعمالهم عند سماع جرس الكنيسة، ويتوجهّون إلى المشاركة في الذبيحة الإلهيّة، ولكن منذ فترة هجر أهل القرية الحقول، منذ تمدّدت القرية عمرانيًّا وباطونيًّا، اخترقها الأتوستراد الذي أبعد البيوت والعائلات عن بعضها البعض بدلاً من أن يقرّب بينها.

ما زالت كنيسة القرية في وسطها ذخيرة حيّة، ملتقى الشباب والصبايا والعجائز والأطفال في المناسبات الكنسيّة، فقداس «الهجمة» يقام أمام باب الكنيسة في  الطريق الداخليّة للقرية، حيث تقطع شرايين مرور السيارات العابرة، ليستقيم صوت الكاهن أنّ “المسيح قام” ليجيب أهل القرية بصوت واحد يعلو الحداثة والباطون وغبار المحركّات أنّ «المسيح حقًّا قام» على كلّ هذه المظاهر المستحدثة، رغم تشغيل أجهزة الخلويّ لتصوير الحدث، مع دقّ الأجراس وتساقط الزهور والبالونات الملوّنة وأوراق الغار من على سطح الكنيسة التاريخيّة القديمة، التي مرَّت في جرن معموديّتها أجيال وأجيال.

كنيسة الأتوستراد:

مع قيام الأتوستراد صار مبنى الكنيسة القديمة الثانية المبنيّة على اسم القدّيسين «كبريانوس ويوستينة» بعيدًا عن الوسط السكنيّ للقرية، فاضطرّ المؤمنون، بعد أن تمّ ترميمها ببناء سقف حديث حماية للجدران القديمة، إلى أن يصلّوا في أوّل أحد من الشهر في هذه الكنيسة التي كانوا يصلون إليها مشيًّا وصاروا ينتقلون إليها بالسيّارات، لكنّها كنيسة تفي بمستلزمات المعاصرة، من تبريد إلى قاعة كبيرة، ومواقف للسيارات، إلى وقوعها على الطريق الرئيس وغيرها من متطلّبات احتفالات الأعراس والمآتم وغيرها، ما يلبّي خدمة المناسبات براحة ويسر حسب قاموس الحياة اليوميّة المتعارف عليها في مثل هذه المناسبات، التي يسعى المؤمنون إلى الاستفادة من التطوّر الحاصل على كلّ الأصعدة، لتأتي مناسباتهم مواكبة لحركة الحياة المعاصرة.

كاهن الرعيّة:

يرعى كاهن شابّ من أبناء الرعيّة هاتين الكنيستين، يعرف خرافه بأسمائهم ويعرفونه. يهتمّ بهم جميعًا، يسهر على التعليم والسهرات الرعائيّة، يفتقد المرضى، يسهر على نشر كلمة اللَّه بين الأطفال والشباب والعائلات. من الواضح أنّ الكاهن الشابّ يعرف، منذ يفاعته، سرّ الرعاية وهو المتمرّس في إرشاد الأطفال والشباب في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، والدراس اللاهوت وعشير الأديرة. ساعده صوته البيزنطيّ الطقسيّ الجميل ودرايته بالتيبيكون الكنسيّ على النجاح في الرعاية واستقطاب المؤمنين للصلاة. استفاد الكاهن سابقًا من مرافقته مثلّث الرحمة المتروبوليت إلياس (قربان) (1926-2009) الذي كان يشجّع على قيام الجوقات وضمّ الأصوات التقويّة إليها، كما تتلمذ فترة على المطران جورج (خضر) (مواليد 1923- انتخب مطرانًا على أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما العام 1970- استقال العام 2018) .

كان هذا الشابّ المقبل على الكهنوت يأمل أن يرسمه المطران (قربان) الذي كان يؤمن بقدراته، لكنّ سيامته تأخّرت بداعي الزواج وترتيب بيته، فرسمه المطران الحاليّ إفرام (كرياكوس) (مواليد 1943- انتخب مطرانًا على أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما العام 2009) ليكون في خدمة هذه الرعيّة. لكن أسند إليه مطران الأبرشيّة، لأسباب رعائيّة تدبيريّة، الاهتمام برعيّة مجاورة، فتراه ينتقل بعد أن ينهي قدّاسه الإلهيّ في رعيّته الأساسية، وهو لابس بذلته الكهنوتيّة، إلى الرعيّة المجاورة لإقامة قدّاس إلهيّ آخر في غياب حسّ التكريس في بعض الرعايا، حيث تغيب عن أبناء الرعيّة هذه الخدمة لأسباب رعائيّة متعدّدة لا مجال للتوسّع فيها، في هذه العجالة، وإن كانت تقوم اليوم على المستوى الاقتصاديّ وعدم التزام الكنيسة الرسميّة أو الرعيّة أو المؤسّسات هموم إعاشة الكاهن، وقد صارت هذه التكاليف عبئًا شهريًّا رغم أنّ هذا الموضوع الاقتصاديّ يطغى اليوم على هموم المقبلين على الكهنوت بخاصّة للراغبين في الزواج، فلا بيت لهم، ولا مخصّصات حتّى ترى أنّ المؤسّسات الكنسيّة راغبة في التخلّص من مخصّصات «العسكر الأسود» أو حتّى تعمل في برامجها «التطويريّة» على التخلّص من حضورهم الدينيّ أو الثقافيّ أو العلميّ، في مؤسّساتها المدرسيّة أو الجامعيّة أو الطبّيّة، فيما تسعى الكنائس الشقيقة إلى تطوير خدمات المكرّس وحضوره في مؤسّساتها الثقافيّة والتربويّة وغيرها، ما يستدعي وضع خطّة دعم رعائيّة لرعاية المقبلين على التكريس.

الرعيّة الواحدة:

في هذه الرعيّة تحكي حجارة الكنيسة القديمة عن التعاضد والتعاون بين أبناء الرعيّة الواحدة، إذ رغم عدم وجود أوقاف تدرّ مالاً، فإنَّ الرعيّة تتكلّ على «أحيائها» لا على «أمواتها»، فالعطاء عندهم ممهور بختم الخدمة، بخاصّة في المناسبات الدينيّة العامّة، حيث يتهافت المؤمنون على اللقاء بعد الصلوات حول مائدة محبّة، وفي مشاركة أولادهم في التمثيليّات الدينيّة، وفي متابعة وسائل التواصل والتكنولوجيا الحديثة التي تجمع بين الشباب وعجائز الرعيّة في صمت مطبق، وهم يتابعون على الشاشة ما أعدّه فنّيًّا أطفال وشباب، إذ صارت التكنولوجيا من يوميّات تعبيرهم عن مشاعرهم وحضورهم في هذا الزمن.

 كيف يجمع القدّاس الإلهيّ أبناء هذه الرعيّة وهو لم يتطوّر، ولم تتجدّد نصوصه، بل بقي كما عرفه أجدادنا؟ قد تكون الجوقة في كنيسة الضيعة فاعلة على هذا الصعيد، إذ تجمع كبير السنّ في رعاية طقسيّة لمجموعة من المراهقات والمراهقين، يرتّلون معًا ويرنّمون بصوت واحد ولكن بإيقاعاتٍ متنوّعة، كما في حرارة صوت الشباب وتهدّج أصوات الكبار. هنا في كنيسة مار جرجس، العائلة كلّها هنا، وكذلك الرعيّة. يدخل الأب والأمّ ويتبعه الأولاد، وكذلك الشابّات والشباب، حتّى لتشعر أنَّ المشعل ينتقل برويّة وهدوء وسكينة صلاة بين الأجيال.

يجلس الأهل والصبايا والشباب، فيما الأطفال يكرجون بين المقاعد يتأمّلون الكاهن في حركاته الصلاتيّة، يلقون نظرات الدهشة على البخور المتصاعد من المبخرة على إيقاع أجراسها الصغيرة. لا يتأفّف الكاهن من عجقتهم ولا من حركاتهم. يوقفهم في الهيكل ينتظرون إشارته في الخروج بالمراوح أو الشموع أو حمل سلال القربان لتوزيعه، أو في تنظيم صفّ المتقدّمين إلى المناولة، وكلّهم يتقدّمون.

نجح الكاهن في جعل الأولاد يشعرون أنَّ القدّاس الإلهيّ قدّاسهم، وأنّه لا يستقيم من دون ترتيلهم أو المشاركة في الخدمة زيّاحًا أو ترتيبًا. واستطاع الكاهن أن يجعل القدّاس الإلهيّ جامعًا لرعيّته، لم يدخل في مشاريع القداديس الإلهيّة الخاصّة بالأطفال أو العجائز أو الشباب، جمعهم الكاهن هنا متفاعلين، مرتّلين، مشاركين. ولم يكتفِ برعاية أبناء رعيّته في القدّاس الإلهيّ بل أيضًا طالت رعايته، مع خوريّته التي تشاركه في الهمّ الرعائيّ، بنات الجالية الإثيوبيّة اللواتي لا يتأخّرن في الحضور باكرًا إلى القدّاس الإلهيّ مشاركة وترتيلاً وتسبيحًا.

رعيّة في أبرشيّة:

قد تختصر الرعيّة اليوم جغرافية الأبرشيّة طالما أنّ الكاهن يرفع اسم متروبوليتها في الذبيحة الإلهيّة، كما في سائر كنائس الرعايا، ولكن هل هذا يكفي للتعبير عن الوحدة في الأبرشيّة؟ وماذا تاليًا عن حمل هموم الأبرشيّات الأخرى أو الكرسيّ الأنطاكيّ أو مشاكل الكراسي الباقية؟ صحيح أنَّ كاهن الضيعة يتطرّق في عظته السريعة الناشطة إلى أهمّ القضايا الإيمانيّة والمسكونيّة، لكن يجب المتابعة وفق روزنامة لأبرشيّة متكاملة في جمعها المتفرّقين في الرعايا إلى واحد في الهمّ الكنسيّ الأبرشيّ والأنطاكيّ والمسكونيّ. لعلّ كاهن هذه الضيعة مع «قرويّيه» يمكن لهم أَنْ يفجّروا الرؤى ويحقّقوا المرتجى، لعلّه مع «تراب ضيعته المعمّد بأوّل زخّة مطر بعد يباب» يقول للمعنيّين، في كنيستنا، المهتمّين بأمور كثيرة إنَّ المطلوب واحد كيلا يعمّ الغياب. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search