مواقف الكنائس الأرثوذكسيّة
من الاستقلال الذاتيّ
ج.غ.
قادت الظروف التاريخيّة التي عرفتها الكنيسة الأرثوذكسيّة منذ مطلع القرن التاسع عشر، والتي شرذمت العالم الأرثوذكسيّ إلى كنائس قوميّة ووطنيّة، وأدّت إلى انشقاقات واضطرابات سالت فيها الدماء أحيانًا، إلى دفع الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة التي اجتمعت في مؤتمر رودوس في العام 1961، إلى الاتّفاق على ضرورة العمل من أجل إيجاد حلّ لمسألة الاستقلال الذاتيّ وكيفيّة منحه. وأجمعت هذه الكنائس في ما بعد، على وضع هذه المسألة كبند أساس على جدول أعمال المجمع الأرثوذكسيّ الكبير العتيد، وذلك بهدف إيجاد مقاربة أرثوذكسيّة مشتركة بشأنها. وفي معرض العمل التحضيريّ للمجمع المذكور، أعدّت كنائس القسطنطينيّة والإسكندريّة وأورشليم وروسيا ورومانيا وبلغاريا واليونان وبولندا دراسات لاهوتيّة وتاريخيّة وقانونيّة تعبّر عن مواقفها من مسألة الاستقلال الذاتيّ، وعن رؤيتها للشروط المطلوب توفّرها لإعلانه والآليّة التي يجب اعتمادها في هذا الصدد.
تلتقي كلّ مساهمات الكنائس المذكورة أعلاه على اعتبار أنّ مسألة الاستقلال الذاتيّ هي مسألة لاهوتيّة تنبع من اللاهوت الكنسيّ حول مفهوم الكنيسة المحلّيّة. وتشدّد على أنّ معالجة هذه المسألة لا يمكن أن تتمّ وفقًا لمعايير سياسيّة أو قوميّة، إنّما بالاستناد إلى التقليد الرسوليّ والآبائيّ، بسبب العلاقة الوثيقة بين مؤسّسة الاستقلال الذاتيّ والتعليم حول الكنيسة المحلّيّة كحضور لجسد المسيح في الزمن التاريخيّ والمكانيّ. وتشير جميع هذه المساهمات إلى أهمّيّة مسألة الاستقلال الذاتيّ بالنسبة إلى وحدة الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة، لأنّ الكنيسة التي تمنح استقلالها الذاتيّ تصبح كنيسة متساوية في المسؤوليّات للكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة الأخرى.
وإن كانت جميع المساهمات تلتقي بشأن طبيعة الاستقلال الذاتيّ الكنسيّة ودوره في وحدة العالم الأرثوذكسيّ، إلاّ أنّها تختلف في ما بينها بشكل جذريّ حول الجسم الكنسيّ الذي يحقّ له منح الاستقلال الذاتيّ وحول الآليّات المتّبعة لذلك. ويتبيّن عبر دراسة هذه المساهمات، أنّه يمكن تبويبها ضمن مجموعتين أساسيّتين بالاستناد إلى التشابه في المواقف بينها. تضمّ المجموعة الأولى مساهمات كلّ من البطريركيّة المسكونيّة وبطريركيّة الإسكندريّة وبطريركيّة أورشليم وكنيسة اليونان. أمّا المجموعة الثانية فتشمل مساهمات كلّ من كنائس روسيا ورومانيا وبلغاريا وبولندا.
ففي ما يتعلّق بالجسم الكنسيّ المخوّل منح الاستقلال الذاتيّ تشدّد الكنائس التي تنتمي إلى المجموعة الأولى، على أنّ منح الاستقلال الذاتيّ يعود وفقًا للممارسة وللتقليد الكنسيّ إلى المجمع المسكونيّ حصرًا. وتشير هذه الكنائس في مساهماتها إلى أنّ جميع التعديلات التي طرأت على التنظيم الكنسيّ في القرون الأولى بشكل خاصّ، سواء تعلّق الأمر باستحداث النظام المتروبوليتيّ (المجمع المسكونيّ الأوّل؛ القوانين 4 و5 و6 و7)؛ أو باستحداث النظام البطريركيّ (المجمع المسكونيّ الأوّل؛ القانونان الأوّل والثاني، المجمع المسكونيّ الثاني؛ القانونان 9 و17 المجمع المسكونيّ الرابع، القانون 24)؛ أو بمنح الاستقلال الذاتيّ لكنيسة قبرص (المجمع المسكونيّ الثالث القانون 8؛ مجمع ترولو القانون 39)، قد حظيت كلّها بموافقة المجامع المسكونيّة، أي بموافقة الكنيسة الجامعة، وذلك من أجل ضمان وحدة الكنيسة. وهي تعتبر أنّ موافقة جميع بطاركة الشرق في الماضي القريب كانت ضروريّة عند اتّخاذ قرارات تتعلّق بتنظيم الكنيسة الجامعة، وأنّ هذه الصلاحيّة أنيطت في مرحلة زمنيّة بالمجمع الدائم لدى البطريرك المسكونيّ الذي كان يشارك فيه بطاركة الشرق وغيرهم من المطارنة في حال وجودهم في القسطنطينيّة. وهي تعتبر أنّه قياسًا على ذلك فإنّ منح الاستقلال الذاتيّ في أيّامنا الحاضرة يجب أن يناط بالمجمع الأرثوذكسيّ الكبير أو أن يتمّ عبر تبادل الرسائل التي تعبّر عن موافقة جميع الكنائس المستقلّة.
أمّا الكنائس التي تنتمي إلى المجموعة الثانية، فاعتبرت في مساهماتها أنّ صلاحيّة منح الاستقلال الذاتيّ تعود إلى الكنيسة الأمّ التي يطلب الجزء الكنسيّ الاستقلال عنها، مؤكّدة أنّ الطريقة الطبيعيّة لمنح الاستقلال الذاتيّ هي أن تقوم الكنيسة المستقلّة الأمّ بواسطة مجمعها المقدّس بمنح الجزء التابع لها استقلاله الذاتيّ. وشدّدت هذه الكنائس على عدم موافقتها على الطرح الذي يقول بأنّه يحقّ فقط للمجمع المسكونيّ منح الاستقلال الذاتيّ، معتبرةً أنّ التاريخ الكنسيّ يشهد على وجود كنائس ذات استقلال ذاتيّ، قامت على أسس عرقيّة، قبل المجامع المسكونيّة وبعدها. ولذلك، وبحسب هذه المجموعة، فإنّ مؤسّسة الاستقلال الذاتيّ يمكن أن تقوم خارج قرارات المجامع المسكونيّة، لأنّ المجامع المسكونيّة هي حالات استثنائيّة في تاريخ الكنيسة، وهي تشرّع بشكل عامّ وتترك لأساقفة الكنائس المحلّيّة أن يتّخذوا قرارات في مجامعهم بالنسبة إلى المسائل الخاصّة كمسألة الاستقلال الذاتيّ. وفي هذا الصدد ترى الكنائس المنضوية ضمن هذه المجموعة أنّ منح الاستقلال الذاتيّ هو عمل يقوم به المجمع المحلّيّ، للجزء الذي يطلب الاستقلال الذاتيّ، باسم الكنيسة الجامعة. أمّا في ما يتعلّق بدور الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة الأخرى غير الكنيسة الأمّ، فيستدلّ من مساهمات هذه المجموعة، على أنّ موافقة هذه الكنائس تتمّ في مرحلة تلي منح الاستقلال الذاتيّ عبر اعترافها اللاحق بالاستقلال الذاتيّ بواسطة تبادل الرسائل السلاميّة.
ينسحب الاختلاف المذكور أعلاه، على إجراءات منح الاستقلال الذاتيّ أيضًا. فتعتبر كنائس المجموعة الأولى أنّ حقّ المبادرة في بدء إجراءات منح الاستقلال الذاتيّ وإعلانه، يعود إلى البطريركيّة المسكونيّة التي تقع على عاتقها مسؤوليّة الحفاظ على سلامة العالم الأرثوذكسيّ ووحدته، ولاسيّما في ظلّ عدم إمكانيّة عقد مجمع مسكونيّ. أمّا كنائس المجموعة الثانية فتعتبر أنّ إجراءات منح الاستقلال الذاتيّ وإعلانه تنحصر فقط في المجمع المقدّس للكنيسة الأمّ، الذي يوافق على استقلال جزء معيّن عنه ويمكنه أن يلغي هذا القرار في حال ارتأى ذلك أيضًا. أمّا في ما يتعلّق بتوافق الكنائس المستقلّة الأخرى فتشدّد المجموعتان على ضرورة توفّر التوافق الأرثوذكسيّ بشأن منح الاستقلال الذاتيّ لكنيسة جديدة تدخل ضمن عائلة الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة، ولكنّهما تختلفان في ما يتعلّق بتوقيت الحصول على هذا التوافق. فتشترط المجموعة الأولى أن يحصل هذا التوافق عبر إجراءات مسبقة تقوم بها البطريركيّة المسكونيّة عبر التواصل مع الكنائس الأخرى، وذلك بالاستناد إلى مسؤوليّتها في خدمة الوحدة الأرثوذكسيّة. في حين تعتبر المجموعة الثانية أنّ التوافق الأرثوذكسيّ يعبّر عنه لاحقًا بعد إعلان منح الاستقلال الذاتيّ بواسطة رسائل توجّهها الكنيسة الأمّ إلى الكنائس المستقلّة الأخرى تعلمها فيه بقرارها، ورسائل سلاميّة ترسلها الكنيسة المستقلّة حديثًا إلى الكنائس الشقيقة في العالم الأرثوذكسيّ.
تدارست اللجنة التحضيريّة للمجمع الأرثوذكسيّ الكبير مواقف الكنائس المتباعدة هذه، واستطاعت أن تتوصّل إلى تقريب وجهات النظر حول هذه المعضلة الشائكة. وتوصّلت إلى مقاربة مشتركة تشدّد على أنّ «الكنيسة المحلّيّة التي يتمّ إعلانها كنيسة مستقلّة تنضمّ إلى شركة الكنائس المستقلّة ككنيسة كاملة العضويّة، وتتمتّع بجميع الامتيازات القانونيّة التي كرّستها الممارسة الأرثوذكسيّة العامّة (ذبتيخا، ذكرانيّة، علاقات أرثوذكسيّة مشتركة...)». أمّا في ما يتعلّق بالإجراءات فتمّ الاتّفاق في هذا الصدد على أنّ: «الكنيسة الأمّ، التي تتلقّى طلب الاستقلال الذاتيّ من منطقة كنسيّة تابعة لها، تقوم بتقويم ما إذا كان هذا الطلب يستوفي الشروط الإكليزيولوجيّة والقانونيّة والرعائيّة المطلوبة لمنح الاستقلال الذاتيّ. وفي حال وافق المجمع المحلّيّ للكنيسة الأمّ، بصفته السلطة العليا فيها، على الطلب، فإنّه يرفع اقتراحه بهذا الشأن إلى البطريركيّة المسكونيّة من أجل إيجاد التوافق الأرثوذكسيّ العامّ حوله. كذلك تقوم الكنيسة الأمّ بإعلام الكنائس المحلّيّة المستقلّة الأخرى». وفي مرحلة لاحقة اعتبر القرار أنّه على البطريركيّة المسكونيّة أن :«تبلِّغ بحسب الممارسة الأرثوذكسيّة العامّة، بواسطة رسالة بطريركيّة جميع التفاصيل المتعلّقة بطلب الاستقلال الذاتيّ هذا، وتسعى إلى التعبير عن التوافق الأرثوذكسيّ العامّ بشأنه. يعبَّر عن هذا التوافق الأرثوذكسيّ العامّ بواسطة قرارات (بالموافقة) صادرة عن جميع المجامع المحلّيّة للكنائس الأرثوذكسيّة بشأنه». وشدّد القرار على ضرورة التعبير الصريح عن التوافق الأرثوذكسيّ العامّ لـمّا نصّ بأنّه «تعبيرًا عن قبول الكنيسة الأمّ والتوافق الأرثوذكسيّ العامّ، يعلن البطريرك المسكونيّ رسميًّا الاستقلال الذاتيّ للكنيسة التي التمسته بنشر طرس الاستقلال الذاتيّ. يوقّع على هذا الطرس البطريرك المسكونيّ، ويَضمّ رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة المدعوّين لهذه الغاية من البطريرك المسكونيّ شهادتهم بوضع توقيعهم». لم تتمكّن اللجنة التحضيريّة من التوافق حول مسألة كيفيّة توقيع طرس الاستقلال الذاتيّ المذكورة بعد الاختلاف حول كيفيّة اشتراك رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة بالتوقيع وحول مكان وضع توقيعهم. قاد الاختلاف في وجهات النظر حول كيفية اشتراك رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة في توقيع الطرس. ودفع هذا التوقيع ومكانه في نصّ الطرس اللجنة إلى تأجيل البحث في هذه المسألة إلى اجتماع لاحق. ولكنّ قمّة رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المنعقدة في الفنار في آذار 2014، قرّرت عدم إدراج مسألة الاستقلال الذاتيّ على جدول أعمال المجمع الكبير الذي كان مزمعًا عقده في حزيران 2016.
تمسّكت الكنائس الأرثوذكسيّة بما تّم الاتّفاق عليه سابقًا، بانتظار إيجاد حلّ لقضيّة توقيع الطرس العالقة. إلاّ أنّه وبعد «مجمع كريت» برز موقف مفاجئ، ويتعارض مع القواعد التي اتّبعت أثناء العمل التحضيريّ للمجمع الكبير وفي العمل الأرثوذكسيّ المشترك، للمطران أيّوب مندوب البطريركيّة المسكونيّة لدى مجلس الكنائس العالميّ، الذي اعتبر أنّ ما اتّفق عليه في اللجان التحضيريّة هو غير ملزم للبطريركيّة المسكونيّة، على قاعدة أنّ الاتّفاق يجب أن يكون كلاًّ متكاملاً أو لا يكون. وفي مرحلة لاحقة، وفي مقال حول أسباب منح الاستقلال الذاتيّ، اعتبر المطران أيّوب أنّ ما اتّفق عليه سابقًا لا يصلح لمعالجة القضايا المطروحة على ضمير الكنيسة في القرن الحاليّ. سيّما وأنّ ما اتّفقت عليه الكنائس الأرثوذكسيّة سابقًا ما يزال يشوبه الغموض ولا سيّما في ما يتعلّق بمسألة «الكنيسة الأمّ»، وهي مسألة خلافيّة ما زالت بحاجة إلى توضيح بخاصّة في ظلّ الاختلاف القائم بين كنيستي القسطنطينيّة وموسكو حول أمومة الكنيسة في أوكرانيا. كذلك شكّك المطران أيّوب في قدرة الاتّفاق المذكور، على مواجهة التحدّيات التي تواجه الكنيسة بشأن الأزمات التي يعاني منها العالم الأرثوذكسيّ اليوم، والمتعلّقة بالوضع في أوكرانيا، وفي الجمهوريّة اليوغوسلافيّة المقدونيّة وفي الجبل الأسود وفي مولدوفا حيث توجد انشقاقات ورغبة لدى البعض في الانفصال. وتساءل كيف يمكن للكنيسة الأمّ أن تنظر في الشروط الإكليزيولوجيّة والقانونيّة والرعائيّة المطلوبة لمنح الاستقلال الذاتيّ، في ظلّ وضع معقّد، كالإعلان المنفرد للاستقلال الذاتيّ من قبل جزء من هذه الكنيسة، أو في ظلّ الانشقاق، أو في ظلّ ظروف الرغبة في انفصال الكنيسة في دولة معيّنة عن دولة أخرى بفعل حركات التحرّر الوطنيّة. وعبّر المطران أيّوب عن استحالة تحقيق إجماع الكنائس الأرثوذكسيّة بشأن منح كنيسة معيّنة استقلالها الذاتيّ، مستندًا إلى الصعوبات التي واجهت العالم الأرثوذكسيّ لإيجاد توافق حول «الاستقلال الذاتيّ وكيفية إعلانه»، ومتسائلاً، هل سيكون الحصول على إجماع الكنائس الأرثوذكسيّة بشأن منح الاستقلال الذاتيّ لأوكرانيا أقلّ صعوبة من ذلك.
لم يقفل المطران أيّوب الباب أمام الحلول ولكنّه دعا إلى ضرورة «عقد مجمع أرثوذكسيّ عامّ، من أجل الاتّفاق حول مسألة الاستقلال الذاتيّ وكيفيّة إعلانه، ومن أجل توضيح الأسباب الخاصّة بإعلان الاستقلال الذاتيّ أو استعادته، ومن أجل إضفاء الصفة الشرعيّة بطريقة مجمعيّة على الكنائس المستقلّة التي أُعلنت في القرن العشرين، وأيضًا من أجل إيجاد حلول للأزمات الإكليزيولوجيّة في أوكرانيا، والجمهوريّة اليوغوسلافيّة المقدونيّة والجبل الأسود». فهل ستسهم الدعوة إلى تحضير المجمع المذكور في تبريد الخلافات القائمة؟ وهل سنشهد في المستقبل إعادة بحث في مسألة الاستقلال الذاتيّ، أم ستبقى هذه المسألة عنصرًا خلافيًّا ومادّة للتأزّم في العلاقات بين الكنائس المستقلّة؟ هل سيحمل المستقبل توضيحًا لمفهوم «الكنيسة الأمّ» ينطلق من الاعتراف بالحدود القائمة والمكرّسة للكنائس منذ قرون؟ أم سيعيد الأرثوذكس نبش التاريخ والاختلاف عليه وحوله، في سعيهم إلى التأقلم مع النظام العالميّ الذي يتكوّن؟ هل يرغبون حقًّا في إيجاد حلّ لمسألة الاستقلال الذاتيّ، أو أنّ الاستمرار في الاختلاف حولها يساعد على رسم الخريطة الجديدة للعالم الأرثوذكسيّ التي يسعى إليها البعض، والتي لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بوجود عناصر خلافيّة تساعد على تفكيك كنائسه الكبيرة إلى كنائس قوميّة؟ وحده المستقبل كفيل بالإجابة عن هذه التساؤلات.n