الهويّة والانفتاح
نقولا أبو مراد
دعيت في مطلع تشرين الثاني المنصرم إلى المشاركة في مؤتمرٍ دوليّ نظّمته كلّيّة اللاهوت في جامعة بابش بولياي، في مدينة كلوج نابوكا في رومانيا، احتفالاً بالمئويّة الأولى للوحدة الرومانيّة، وجاء المؤتمر تحت عنوان «الوحدة والهويّة: أرثوذكسيّة الرومانيّين بين الشراكة الشرقيّة والحوار مع الغرب». وكان البطريرك الرومانيّ دانيال أعلن العام 2018 سنةً احتفاليّة، لمناسبة المئويّة الأولى على ضمّ مقاطعات ترانسيلفانيا وبسّارابيا وبوكوفينا إلى رومانيا، في أعقاب الحرب العالميّة الأولى (1 كانون الأوّل 1918). ويأتي اهتمام الكنيسة الأرثوذكسيّة الرومانيّة بهذه المناسبة من الدور الكبير الذي قام به الإكليروس الرومانيّ في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في بثّ الوعي القوميّ والدينيّ عند الناطقين باللغة الرومانيّة؛ الأمر الذي أسهم في المطالبة بضمّ المقاطعات المذكورة، والتي تغلب على سكّانها الهويّة القوميّة الرومانيّة والانتماء إلى الأرثوذكسيّة، إلى مملكة رومانيا آنذاك. وحظي هذا الضمّ بموافقة «القوى الكبرى» في مؤتمر فرساي، ولو كانت اعتبارات هذه القوى محض سياسيّة تقوم على معاقبة المجر على اصطفافها مع الألمان باقتطاع ترانسيلفانيا منها، ومعاقبة الألمان أنفسهم على اعتبار أنّ نسبة كبيرة من سكّان ترانسيلفانيا (مقاطعة زاكسن الألمانيّة) كانوا من الألمان المستقرّين هناك منذ القرن الثاني عشر.
إذا ما تتبّعنا الاحتفالات التي أتت في سياق هذه السنة المئويّة في السياقين الكنسيّ والوطنيّ، نرى أنّها تشدّد كلّها على الربط ما بين الانتماء القوميّ، الرومانيّ تحديدًا، في مداه اللغويّ والثقافيّ والسياسيّ والجيوسياسيّ، والانتماء الدينيّ إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة، بحيث يتماهى المستويان، كأن تكون الوحدة الرومانيّة غير مقتصرة على السياسة والجغرافيا، بل تمتدّ إلى اندماج هاتين بالأرثوذكسيّة لتشكّلا ركني هويّة تحدّدت برسم حدود مع ما هو غير رومانيّ وغير أرثوذكسيّ. ذلك بأنّ هذه الهويّة قامت، إذا ما شئنا النظر إليها من جوانبها كافّة، ليس فقط بضمّ المقاطعات المذكورة إلى كيانٍ سياسيّ معيّن، ولكن أيضًا باقتطاعها، في الوقت عينه وبطبيعة الحال، من كيانين آخرين هما هنغاريا الكاثوليكيّة وألمانيا البروتستانتيّة. فكانت نتيجة هذه الوحدة، إلى جانب اجتماع الرومان الأرثوذكس إلى كيان واحد، انكفاء الكاثوليكيّين المجر في ترانسيلفانيا إلى مجتمعات منغلقة، وهجرة الألمان البروتستانت، حين قيّض لهم ذلك بعد سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيّتين، إلى داخل الحدود الألمانيّة كما نعرفها اليوم.
أن تُدعى إلى الكلام في هذا الموضوع وفي هذه المناسبة تحديدًا، وأنت مسيحيّ عاش وترعرع في الشرق الأوسط، مع كلّ ما خبره من موجاتٍ تاريخيّة تغيّر وجهه فيها مرّات كثيرة، وحدودٍ في مدّ وجزرٍ لا انقطاع فيه، واستمدّ معنى انتمائه إلى الكنيسة من تغرّبٍ لتلك أو ابتعادٍ لها عمّا هو قوميّ، لا بل من تعفّفٍ عنه أحيانًا، ليس بالأمر السهل. كيف تقارب هذا الموضوع من منطلقك وخبرتك وقناعاتك، أمام محفلٍ يرى الأمر غير ما تراه، سيّما وأنّ دعوتك إنّما هي إلى احتفال به. وكان طُلب منّى أن أتحدّث عن موضوع الوحدة والهويّة والانتماء الأرثوذكسيّ من منظور خبرة مماثلة في سياقي الكنسيّ. كان التحدّي المطروح أمامي في اختيار موضوعي وحدوده أنّي من شرق تمزّقه نزاعاتٌ ويُجرّحُه عنفٌ لا حدّ له في مشهد تتآكل فيه الهويّات في غير مكانٍ، وتتعثّر فيه الوحدة بمعانيها كافّة على غير صعيد.
في تأمّلي في كيفيّة مقاربة هذا الموضوع لفتني أنّ القوى الكبرى نفسها التي شاءت بعد نصرٍ أن تُعاقب العدوّ المنهزم بعد الحرب العالميّة الأولى، فسهّلت تحقّق «وحدة الرومانيّين» بأن سمحت بضمّ المقاطعات الثلاث إلى مملكة رومانيا لتحوّل الأكثريّة فيها أقلّيّةً والأقلّيّة أكثريّة، في لعبةٍ على وتر الهويّات، هي نفسُها القوى التي أسهمت في إنتاج هويّات منكسرة أو مسحوقةٍ في الشرق الأوسط، ومتناحرة في أفضل الأحوال، حين رسمت «خطًّا في الرمال» - إذا شئنا استعمال تعبير جايمس بار من كتابه «خطّ في الرمال» - لتتقاسم مساحة نفوذها ومصالحها حين قرّرت أن ترث الأراضي التي كانت خاضعةً للسلطنة العثمانيّة المتهاوية. في رواية تنازعٍ على السيطرة قذرة تتالت فصولاً، ولا تزال، من سيطرةٍ على الشرايين الحيويّة، ورسمٍ لنطاق النفوذ، ووضع اليد على منابع النفط، وحفظٍ للامتداد الأمبراطوريّ والاستعماريّ بأوجهه كافّة وآخرها الاقتصاديّ والسياسيّ، صفحات من العنف والقتل والحروب المدمّرة والإفقار والنزوح والاستئصال وإبادةٍ لشعوب وجماعات باسم القوّة، وفرض الحدود والهويّات المصطنعة التي لم يشأ أقوياءُ هذا الدهر إلاّ أنّ تغدو «هويّاتٍ قاتلة» – والتعبير للكاتب أمين معلوف – و«هويّات مقتولة».
ذكرت هذا لأنّ قناعتي أنّ السعي إلى تأكيد هويّةٍ ما للناس كان دائمًا ولا يزال متّصلاً وثيق الاتّصال بالتقلّبات التاريخيّة وما يحمل إليها، بالضرورة، من صراعاتٍ وتنافسٍ، ونظرةٍ إلى الذات مبنيّة على فهمها انطلاقًا من غيريّة ما وانفصالٍ عن الآخر وخطّ حدود بينك وبينه. وعليه، اخترت لمساهمتي في المؤتمر المذكور أعلاه عنوان «الهويّة والانفتاح: نظرات كتابيّة ومثال الشرق الأوسط». تلك البقعة من الكون المسمّاة الشرق الأوسط الحاضنة لأعنف تعابير التحارب بين الناس وأقساها وأشدّها تدميرًا، جعلها الكتاب المقدّس مسرحًا لروايةٍ شاء الكاتب عبرها أن يُسقط ما اختلقه البشر من هويّاتٍ واصطفافاتٍ وأسماء، ليكون الانتماء الأوحد له السير وراء الإله الذي قال أن «تحبّ قريبك كنفسك» (لاويّين 19: 18).
أساس الرواية التكوينيّة أنّ اللَّه انتشل إبراهيم من حيث تعالى الإنسان إلى أن جعل نفسه سيّدًا على الكون، بفرض هويّاتٍ وسلطةٍ قائمةٍ لا على الحقّ والعدل الحقيقيّين، إنّما على «الظلم» الذي لأجله قال الكتاب الإلهيّ إنّ اللَّه حزن لأنّه صنع الإنسان على الأرض (تكوين 6: 6). لعلّ الكاتب أراد أن يوجز في بابل ومصر اللتين منهما خرج إبراهيم لا بل أُخرج من عشيرةٍ وبيت أهلٍ، أي هويّة، ذلك الشرّ الذي استولى على قايين إذ كمن لأخيه الأضعف فقتله. بابل التي امتدّت في الزمان والمكان لم يتحقّق لها ذلك إلاّ بالحروب والقتل، والضعفاء هم دومًا المسحوقون في احتراب الناس، بابل هذه هي كلّ سلطان صنع تاريخه ولا يزال، كما صنعته هي. انتشال إبراهيم من بابل، ثمّ من مصر بعد ذلك، يعني أنّ اللَّه شاء أن يقيم مقابل شرّ الانسان نسلاً خارج كلّ هويّة وسلطان وانشداد إلى قوّة عظمى، فرماه في أرضٍ لا تعريف لها ولا اسم ولا صورة إلاّ ما قاله عنها الكتاب من أنّها هناك حيث الربّ يدعو، وحيث يُدعى باسمه. هي المطرح الذي سمّاه حزقيال النبيّ «الربّ هناك» (48: 35)، حيث لا مكان لسلطان الناس ولا لفسقهم وفجورهم وإثمهم (حزقيال 43: 1– 5). وكان تحقيق ذلك النسل في رواية التكوين في وجهين: وجه إسحق الذي تحوّلت أرض الدعوة معه إلى مطرحٍ للقاء بينه وبين من كان قبل عدوًّا، فمكث في الأرض بسلامٍ معهم، واشتركوا في مائدةٍ واحدة، وكان لهم شرب من بئر واحد أنبع ماءً للجميع، بنعمةٍ من الربّ الذي حوّل أرض المجاعة إذذاك أرضًا لبركاتٍ لا تُحصى شملت الجميع. ووجه يوسف المطرود والمقصيّ من بنوّةٍ أراد إخوته احتكارها كما أراد قايين احتكار عبادة الربّ الذي خلقه، فرمي في أرض الاستعباد إلى أن رفعه ربّه وجعل في عمله خيرًا للناس، فغدت به مصر العبوديّة والاستعلاء مخازن طعام لكلّ فقيرٍ وجائعٍ على وجه الأرض، وإليهم فرعون نفسه الذي صار، من بعد رفعةٍ، سامعًا لأمر يوسف العبد البارّ.
أرض إسحق ومصر يوسف نقيض ممالك الناس وهويّاتهم القاتلة. فيهما تُختزل الأسماء وتسقط، لتتحقّق دعوة الربّ إلى عيش واحدٍ قائمٍ على السلام الحقيقيّ، وعلى عدل ورحمةٍ ما عرفتهما تواريخ البشر. ولعلّ التعبير أو المثال الأوضح على ما رمى إليه الكاتب في رواياته هذه، من محوٍ لحدود مصطنعة مخطوطة بيد الناس على الأرض التي خلقها اللَّه أرضًا واحدة، هو رعاية القطعان، إذ لم يعرف الرعاة في الشرق القديم حدودًا، بل حيث تكون بركات الكلأ فهناك ترعى الأغنام، وإلى هناك المضيّ. إبراهيم كان راعيًا وهكذا إسحق ويعقوب وقبلهم موسى وهابيل المقتول، وبعدهم داود، ومثالهم جميعًا اللَّه نفسه، الراعي الأمثل، المتحقّقة مثاليّته في يسوع، صاحب الخراف والباذل نفسه عنها. يختار الكاتب رعاية الأغنام، لأنّ الأسماء لا مكان لها فيها، ولا الهويّات، ولا الحدود، بل التعايش لأنّه يحفّز الحياة، فيما الاحتراب على الحدود يجلب الموت. ويلفت أنّ أبا الرعاة في سفر التكوين هو سام ابن نوح الذي يعني اسمه في العبريّة «اسم»، دالاًّ على من لم يسمّ نفسه بل انتظر من الربّ أن يدعوه بما يشاء، وهو أبو أشخاصٍ ارتبطت أسماؤهم بالرعي (تكوين 11: 10– 32)، ولم ترتبط بممالك وقوى عظمى وبناة مدنٍ ساحقة وظالمة كأبناء حام، صاحب الغضب والحقد على ما يعني اسمه (تكوين 10: 6– 20)، وأبو مـن يطلقون الأسماء على أنفسهم وعلى مدنهم.
وفي هذا الخطّ نرى في الكتاب أنّ اللَّه يتدخّل في أسماء من يُدعون إلى السير معه، فيبدّل اسمي إبراهيم ويعقوب، ويسمّي إسحق، ويسمّي يسوع في العهد الجديد، وكأنّي بالكتاب يوحي بأنّ الهويّة الحقيقيّة إنّما ننتظرها من الربّ نفسه، وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول إذ أبى أن يقوم سامعوه والمـبشّرون بإنجيله إلاّ «في المسيح» حيث تنتفي الأسماء، فيبطل أن يكون «يهوديّ أو يونانيّ»، وتُمحى الحدود، فلا «عبد ولا حرّ»، ولا معنى لسلالات البشرّ وتناسلهم من غير الإنجيل، فلا «ذكر وأنثى» (غلاطية 3: 28)، ليكون للجميع قيام إذ يصيرون «واحدًا في المسيح يسوع». ينتفي كلّ اسم ومعه كلّ هويّة وانتماء إلاّ اسم يسوع الذي، كما يقول الرسول في موضع آخر، «رفعه اللَّه أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كلّ اسمٍ، لكي تجثو باسم يسوع كلّ ركبةٍ ممّن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كلّ لسانٍ بأنّ يسوع المسيح هو ربّ لمجد اللَّه الآب» (فيليبّي 2: 9– 11).
وعليه، وأمام تجاذب القوى وأطماع الكيانات السياسيّة والاقتصاديّة، وسعي الناس إلى تحقيق تلك الأطماع وهم يدوسون رؤوس منسحقي الأرض وفقرائها وكرامتهم.
كيف ينحو المسيحيّون نحو هويّة مرتبطةٍ بأرض وكيانٍ سياسيّ يحدّد ذاته بانفصاله، بالضرورة، عمّا لا يريد أن يكونه، أي الآخر، ليس في بشريّته، بل في مظاهر، أو «اهتمامات» دنيويّة كما تسمّيها تراتيلنا، كاللغة والمأكل والشكل والانتماء الطائفيّ أو الدينيّ الفارغ؟ كيف نقيم فواصل وحدودًا في الأرض التي خلقها اللَّه واحدة، ليكون فيها الإنسان حقًّا على صورة اللَّه ومثاله، أي سامعًا لكلمته وعاملاً بها في حقّ وعدل ورحمة؟ كيف يحقّق المسيحيّون أنّهم مدعوّون مسيحيّين أوّلاً وآخرًا، وكيف يكونون ملحًا في الأرض، يملّح العالم ويمدّه بالنكهة، لا أن يتلطّخ هو بفساد العالم وشرّه والقرف المنبعث منه؟
الهويّة الوحيدة التي على المسيحيّين أن يسعوا إليها ويتبنّوها، إنّما هي أن يكونوا «في المسيح». هذه رسالة وهذا واجب. وفيه أمانة لمدى السماوات والأرض وانفتاحهما كمطرح للحياة لا للموت، وللمعيّة والتعايش لا للإقصاء، وللمحبّة لا للأنانيّة. ولتحقيق هذا، لا بدّ من تكسيرٍ كبير لما في أذهاننا وأنفسنا، لنكون أهلاً لدعوتنا ومستحقّين معموديّتنا، أي لتلك اللحظة التي أسقطت فيها عنّا الأسماء المـعطاة من الناس لنتّخذ أسماءً من اللَّه. ولذا لا بدّ من لغة تتجاوز التغنّي بالهويّة ولو كانت متّصلة بالمسيحيّة لتسود بدلاً من ذلك كلمة اللَّه وحدها لكي تتحقّق الوحدة، ليس في أمّة أو جماعة، بل في ما بين كلّ شعوب الأرض. وهذا بالضبط ما نحن مدعوّون إليه في الشرق الأوسط، حيث للهويّات مدى آخر وأبعاد أخرى. أديان الشرق وشعوبه ينبغي أن تسير على خطى إبراهيم من ضيق انتماءاتها إلى سعة الأرض وانفتاحها في تحقيق سلامٍ، لا كسلام الأمم، بل السلام الذي نخضع فيه جميعًا للإله الذي أحبّ إلى ما لا نهاية. وأستذكر في هذا السياق مسرحيّة “الشخص” للرحابنة، حيث لا أسماء، بل ظالمون للفقراء يختصرون في أنفسهم الشخصانيّة، أي الوجود، ويريدون الاستيلاء مع من يتحلّق حولهم، ويبجّل شخصانيّتهم، على المساحة كلّها، فيما الفقراء الذين بلا أسماء ولا كيانات، يُطردون من حيث يُعطون أن يعيلوا أنفسهم والأيتام الذين في رعايتهم. غياب الأسماء في هذه المسرحيّة، يريد به الكتّاب أن يوحوا بأنّ الظالمين في الأرض لا حدود لهم، ولا حدود للمظلومين. ولو أقرّ الظالم في هذه الدنيا بظلمه للفقير المسحوق ترفًا، فلا يمنعه هذا من الاستمرار في ظلمه، ليطلق العنان لعدالة مشوّهة زائفة. الدعوة هي إلى أن نتخلّى عن شخصانيّة ظالمة ساعين إلى رحمة من اللَّه ورحمة للفقير البائس. تلك هي الهويّة الحقّ، وإذا تحقّقت فينا، فعندئذٍ قد تُتاح فرصة للتخفيف من البؤس ومن الظلم والتمييز. ولعلّ اللَّه، في آخر الأيّام، يدوّن أسماء لنا في كتاب الحياة، في مدينته، مدينة السلام النازلة من السماء.n